الحدود التي تفصل بين دول منطقتنا، التي تم اقتطاعها من الإمبراطورية العثمانية التي انهارت بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918، لم ترسمها اتفاقية سايكس بيكو 1916 وحدها، رغم أن هذه الاتفاقية كانت الإطار العام لتفاصيل الوضع الجيوسياسي الجديد الذي تشكل بعد تلك الحرب في المنطقة؛ وإنما تبلورت ملامحها تدريجياً من خلال سلسلة من الاجتماعات الدولية والاتفاقيات العامة والفرعية، سواء بين الدول المنتصرة في الحرب نفسها، لا سيما بريطانيا وفرنسا، أم بين هذه الدول ودول المنطقة خاصة تركيا التي كانت تشارك في الاجتماعيات بوفدين، وفد يمثل الدولة العثمانية المحتضرة، ووفد يمثل المجلس التركي الكبير الذي كان يمثل الجمهورية التركية الصاعدة. ويُشار في هذا السياق إلى اجتماعات باريس (1919) وسان ريمو (1920) والقاهرة (1921) ولندن (1921-1922)، ومعاهدة سيفر (1920) واتفاقية فرانلكين بويون (1921)؛ وأخيراً جاءت معاهدة لوزان (1923) لتكون بمثابة عملية إعادة صياغة وتعديل لجملة من المسائل التفصيلية الخاصة بالحدود بين تركيا وسوريا، وسوريا والعراق، وسوريا وفلسطين ولبنان. هذا بالإضافة إلى الاتفاقيات الفرعية التفصيلية التي كانت لاحقاً بقصد رسم الحدود بصورة نهائية. وهذا معناه أن الدول الجديدة في المنطقة تشكلت بإرادة القوى الكبرى، وبتوافقات مع القوى الإقليمية المؤثرة، وبناء على حسابات خاصة بكل طرف؛ وذلك بعد سلسلة طويلة من المماحكات الدبلوماسية والمعارك الميدانية التي كانت غالباً تتم بالوكالة عبر المجموعات المحلية؛ تلك المجموعات التي كانت تتلقى الدعم من هذه القوة الدولية أو الإقليمية أو تلك مقابل القيام بمناوشات وازعاجات ضد الجهة المقابلة. أما الهدف من ذلك فقد كان الضغط والدفع نحو تسويات تمثلت في نهاية المطاف في الحدود التي نجدها اليوم، وهي الحدود التي فرضت من دون أي مراعاة لرغبات السكان وانتماءاتهم.
ومنذ نحو مئة عام وحتى يومنا هذا لم تستقر الأوضاع في منطقتنا نتيجة التعارض بين إرادة القوى الخارجية الحريصة على الحدود الحالية، والمشاريع الأيديولوجية والتوسعية الرافضة لها بناء على توجهات متباينة. وقد أدى ذلك إلى غياب المشاريع الوطنية التي كان من المفروض أن تساهم في مد الجسور، وتعزيز التفاهم بين مختلف أطراف التنوع المجتمعي ضمن كل دولة من دول المنطقة، لا سيما الفتية منها. والمثال السوري يعد في هذا السياق المثال الأوضح. فأنصار المشروع القومي العربي طالبوا بالوحدة العربية، في حين طالب أصحاب النزعة الإسلامية بالوحدة الإسلامية، وكان هناك من يحلم بالوحدة الأممية. وكل ذلك أسهم في تكريس الهواجس والشكوك المتبادلة، الأمر الذي استغله الحكم الأسدي الذي رفع الشعارات الكبرى للتغطية على انقضاضه على الشعب والوطن.
وفي وقتنا الراهن، نلاحظ أن منطقتنا تعيش أجواء ما بعد حرب كونية، أو ربما تعيش مقدمات حرب كونية جديدة. فالقوى الدولية المؤثرة، ما زالت موجودة في المنطقة، ومهتمة بها، هذا رغم الإشارات العديدة التي أوحت لبعضهم بإمكانية انسحاب أمريكي. ولكن ظروف الحرب الروسية على أوكرانيا أكدت مجدداً أهمية المنطقة بالنسبة إلى أمريكا وحلفائها، وهذا ما صرح به مؤخراً الرئيس الأمريكي جو بايدن، إذ اعترف خلال زيارته للقدس بالخطأ الأمريكي الذي تمثل في الانسحاب، وهو الأمر الذي فتح المجال أمام الروس والصينيين للتمدد في المنطقة.
الولايات المتحدة الأمريكية موجودة اليوم في سوريا إلى جانب روسيا وكل من إيران وتركيا وإسرائيل. وقد أدى ذلك إلى تراجع الدور العربي، أو ربما بكلام أدق، كان هذا التعاظم في الدورين الدولي والإقليمي نتيجة تراجع الدور العربي، وهو التراجع الذي عززته الخلافات البينية العربية، والأوضاع غير المستقرة ضمن عدد من الدول العربية.
وما يستشف من التحركات الأخيرة على صعيد تحسن العلاقات بين تركيا والإمارات من جهة، وتركيا والسعودية من جهة أخرى، وبين قطر ومصر من جهة ثالثة، والاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين كل من السعودية وإيران من جهة رابعة، والحديث عن امكانية تعاون عسكري بين عدد من الدول العربية وإسرائيل بتوجيه، وربما بقيادة أمريكية، وذلك بموجب التكهنات التي فرضتها جولة الرئيس الأمريكي في المنطقة من جهة خامسة؛ كل ذلك يؤكد حضور توجه نحو بناء تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة في ضوء تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وفي سياق الاستعداد لمواجهة محتملة بصيغة من الصيغ بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك مقابل التحالفات التي تتشكل، وتتعزز سواء بين دول الرابطة المستقلة بزعامة روسيا، أو بين دول البركسيت، أو بين روسيا وإيران وسلطة بشار الأسد والميليشيات التابعة لإيران.
وكل ذلك ستنعكس آثاره بطبيعة الحال على الواقع السوري. فتركيا وإيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية جميعها من القوى الموجودة المؤثرة على الأرض السورية. أما الدور العربي الغائب ميدانيا فهو موجود بالقوة إذا صح التعبير، ويمكنه أن يتحول إلى وجود بالفعل إذا كانت هناك استراتيجية عربية متكاملة، وتوافق بين المراكز العربية الأساسية، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، إلى جانب كل من الأردن والعراق باعتبارهما من دول الجوار السوري.
هناك اجماع معلن من جانب مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري على ضرورة الحل السياسي. ولكن هذا الحل يصطدم بعقبات داخلية وخارجية، فعلى الصعيد الداخلي ما زالت سلطة بشار الأسد مصرة على عدم الاعتراف بمسؤوليتها عما حل بالبلد من قتل وخراب وتدمير وتهجير. فهي ما زالت تتحدث عن مؤامرة استهدفت «نهجها المقاوم»، في حين أنها شاركت بصورة فعلية، وبالتعاون مع قوى إقليمية ودولية، في المؤامرة التي استهدفت السوريين، وأدت إلى تدمير بلدهم، وتهجير أكثر من نصف عددهم. كما أن عدم وجود قيادة وطنية ناضجة وازنة تمتلك المصداقية للسوريين المناهضين لاستبداد السلطة وفسادها وإفسادها يعد من العقبات الأساسية في هذا المجال.
أما العقبات الخارجية فهي تتجسد في وجود الجيوش الأجنبية، والميليشيات المتعددة الجنسيات، وتدهور العلاقات بين روسيا والغرب، خاصة بينها وبين الولايات المتحدة بفعل حرب أوكرانيا، وانعكاسات ذلك على الواقع السوري. هذا بالإضافة إلى تعارض المشاريع الإقليمية العابرة للحدود.
ما جرى في سوريا خلال الأعوام الـ 11 المنصرمة ترك جروحاً عميقة في الوجدان السوري وفي النسيج المجتمعي الوطني من الصعب معالجتها، علينا أن نعترف بذلك. كما أن استنجاد السلطة بالجيوش والميليشيات الأجنبية لضمان استمراريتها فتح المجال أمام الجيوش الدولية والإقليمية للتغلغل ضمن الجغرافيا والمجتمع السوريين، وكل ذلك عقد الأوضاع أكثر، وجعل مسألة المعالجة أصعب، لا سيما في ظروف غياب تواصل حقيقي بين الفعاليات والنخب السورية الحريصة الوفية لشعبها ووطنها بغض النظر عن انتماءاتها وتوجهاتها السياسية ومواقعها في سياق التقسيم النمطي: موالاة ومعارضة، هذا التقسيم الذي لم يعد ينسجم مع واقع الحال، ومع ما هو مطلوب على صعيد إنقاذ سوريا شعباً وأرضاً.
أن ينتظر السوريون الحريصون على مستقبل شعبهم وأجيالهم المقبلة توافق الدول لتقرير مصيرهم ومصير بلادهم، فهذا معناه التسليم بالحسابات والمصالح الدولية والإقليمية مقابل تهميش مصالح وأولويات شعبهم، والاستعداد لتقبّل نتائج الصفقات والمساومات التي تنسجم مع حساب الآخرين.
ولكن هذا ليس معناه أن نتجاهل مطلقاً البعد الإقليمي والدولي للمسألة السورية؛ فسوريا دولة مفتاحية في المنطقة، وهي قد أصبحت بهذه الصيغة أو تلك ساحة صراع بين المشاريع الإقليمية؛ كما أنها تحظى بمكانة مهمة في المعادلات الدولية، لا سيما في واقع التموضعات والاصطفافات الجديدة في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا وتفاعلاتها.
إلا أنه في جميع الأحوال يظل توافق السوريين هو الأساس، والتوافق المطلوب هنا لا يتقاطع بأي شكل من الأشكال مع بدعة اللجنة الدستورية التي لا تخرج وظيفتها في أحسن الأحوال عن لعبة إدارة الأزمة، وتقطيع الوقت، وإعطاء انطباع كاذب بوجود عملية سياسية ستؤدي في نهاية المطاف إلى حل للموضوع السوري.
النخب السورية المجتمعية والاقتصادية والعلمية والفنية والإعلامية وغيرها تمتلك الكثير من الامكانيات والطاقات؛ فإذا ما تحررت هذه النخب من أوهام القبيلة والكهف والمسرح والسوق التي تحدث عنها الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون (1561-1626)، وتحلّت بالشجاعة الوطنية والأخلاقية، وتجاوزت الحسابات العصبوية والشخصية والأحكام المسبقة والردود الانفعالية؛ فإنها تستطيع أن تتواصل وتلتقي بعقول وقلوب مفتوحة، ورغبة صادقة في إنقاذ الوطن وأهله؛ وذلك عبر التأكيد على القواسم المشتركة بين السوريين والتركيز على القواعد التي من شأنها وضع أسس راسخة لثقة مستدامة بين السوريين أنفسهم، وذلك بعد الاعتراف بالأخطاء التي كانت، ومراجعة المواقف والأحكام بكل جرأة ومصداقية حتى لا تتكرر المآسي مرة أخرى.
إمكانية العيش المشترك بين السوريين ما زالت قائمة، رغم كل ما حصل ويحصل. ولكننا لا نذيع سراً إذا قلنا إن هذه الإمكانية تتضاءل بكل أسف كلّما قصّرت النخب السورية في واجباتها، وظلت سلبية تنتظر الأقدار التي سيرسم ملامحها الآخرون؛ لأن المستفيدين من وضعية مناطق النفوذ القائمة راهناً من المحليين الذين تتناغم ومصالحهم وربما مشاعرهم وتوجهاتهم الأيديولوجية مع تلك التي تخص هذه القوة الخارجية أو تلك، سيحاولون بشتى السبل الاستمرار في الوضع القائم الذي يعتبر بالنسبة إليهم أفضل الأوضاع الممكنة.
المصدر: القدس العربي