أثناء الجدل الذي دار بين الامبرياليتين الانكليزية والفرنسية قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى بصدد تقاسم الغنائم بينهما , حاول نيكسون الوزير البريطاني الذي ترأس مرة الاجتماع مع جورج بيكو الفرنسي طمأنة بيكو بالتقليل من أهمية الوعود التي قطعتها بريطانيا للشريف حسين بدعم إنشاء كيان عربي يشمل بلاد الشام حتى أضنة ومرسين والموصل من الشمال وحتى سيناء من الجنوب مع كامل شبه الجزيرة العربية ماعدا عدن التي احتفظ فيها الانكليز مبكرا بقاعدة لهم وبالقول : ” إن تلك الدولة العربية لامعنى لها يشكل واضح , فالعرب مجموعة من القبائل المشتتة من دون رابط أو تنظيم ” وكذلك فعل اللورد كرو الوزيرالبريطاني بالقول ” إن بريطانيا ليس لها نية في تنظيم تلك الدولة العربية “
ولقد ترك ذلك لدى بيكو الانطباع بأن ” مايريده البريطانيون هو فقط تضليل العرب ” .
جرى ذلك أثناء المفاوضات المكثفة بين بريطانيا وفرنسا للإتفاق على تقاسم إرث الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1916 بينما كانت بريطانيا وفي الوقت ذاته تقدم تعهدا للشريف حسين بدعم إنشاء الدولة العربية وفق تصوره الذي قدمه مع تحفظات محدودة وغامضة .
تقدم الشريف حسين بالمطالب الآتية وفقا لنص المراسلات بين حسين ومكماهون في الرسالة الأولى بتاريخ 14 تموز / يوليو عام 1915 :
” أولا ً- أن تعترف إنجلترا باستقلال البلاد العربية من مرسين – ادنه، حتى الخليج الفارسي شمالاً ومن بلاد فارس حتى خليج البصرة شرقًا، ومن المحيط الهندي للجزيرة جنوباً يُسْتَثْنَى من ذلك عدن التي تبقى كما هي – ومن البحر الأحمر،والبحر المتوسط حتى سيناء غربًا. على أن توافق إنجلترا أيضاً على إعلان خليفة عربي على المسلمين.”
جاء الجواب من السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين بتاريخ 30 آب/ أغسطس عام 1915 كالتالي : ” … فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحاً بها رغبتنا في استقلال بلادالعرب وسكانها مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها.”
أما حدود الدولة فقد راوغ مكماهون في الاعتراف بها قائلا : ” … وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تظهر أنها سابقة لأوانها – وتصرف الأوقات سدى في مثل هذه التفاصيل في حالة أن الحرب دائرة رحاها..”
في الرسالة الثانية من الشريف حسين إلى السير هنري مكماهون المؤرخة ب 9 ايلول / سبتمر عام 1915 عبر الشريف حسين عن استيائه من تهرب بريطانيا من الاتفاق على حدود الدولة العربية وأكثر من ذلك فقد عبر عن التمسك الكامل بكل قطعة أرض من المنطقة التي هي أرض للعرب حسب تعبيره .
” .. فإن هذه الحدود المطلوبة ليست لرجل واحد نتمكن من إرضائه ومفاوضته بعد الحرب بل هي مطالب شعب يعتقد أن حياته في هذه الحدود وهو متفق بأجمعه على هذا الاعتقاد. وهذا ما جعل الشعب يعتقد أنه من الضروري البحث في هذه النقطة قبل كل شيء مع الدولة التي يثقون بها كل الثقة ويعلقون عليها كل الآمال وهي بريطانيا العظمى……. وعلى هذا لا يمكن السماح لفرنسا بالاستيلاء على قطعة صغيرة من تلك المنطقة.”
فكيف جاء رد مكماهون ؟
” إن ولايتي مرسين وإسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماه وحلب لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة، وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة.”
هنا يراوغ مكماهون مبتدئا بمرسين واسكندرونة وهما بلدتان تضمان بالفعل خليطاً سكانياً من العرب وغير العرب في ذلك الوقت ” في اسكندرون كان العرب يشكلون الأغلبية “, لكنه يبتدىء بهاتين البلدتين كمقدمة لإخراج كامل شواطىء بلاد الشام من حدود الدولة العربية لمعرفته بمطالبة فرنسا بها وللتمهيد لاحتلال فلسطين وتمكين الحركة الصهيونية من إقامة كيان فيها وفق التفاهمات التي صيغت لاحقا بوعد بلفور عام 1917 .
الفقرة التالية الأخطر , وفيها تظهر براعة الديبلوماسية البريطانية في الالتفاف على الطرف الآخر وتركه في حالة لاتساعده على الرفض دون أن تتضمن العبارة التزاماً أو رفضاً صريحاً .
” وأما من خصوص الأقاليم التي تضمها تلك الحدود حيث بريطانيا العظمى مطلقة التصرف بدون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا فإني مفوض من قبل حكومة بريطانيا العظمى أن أقدم المواثيق الآتية وأجيب على كتابكم بما يأتي: أنه مع مراعاة التعديلات المذكورة أعلاه فبريطانيا العظمى مستعدة بأن تعترف باستقلال العرب وتؤيد ذلك الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها دولة شريف مكة.”
بعد إخراج كامل سواحل بلاد الشام من الاسكندرونة وحتى غزة وبعمق من الشرق حتى تخوم حلب وحماة وحمص ودمشق , فإن بريطانيا تستثني أيضا ضمنا ما تتفق عليه مع فرنسا بالقول ” دون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا ” دون تحديد تلك المصالح التي ستظهرالأيام القادمة أنها تتضمن تقاسم المشرق العربي مع فرنسا بإعطاء فرنسا سورية ولبنان وفق معاهدة سايكس بيكو التي كان يجري التفاوض عليها في ذات الوقت .
وهناك إشارة أخرى غامضة :
” مع هذا التعديل وبدون تعرض للمعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض رؤساء العرب نحن نقبل تلك الحدود”
فمن هم بعض رؤساء العرب الذين عقدت معهم بريطانيا مسبقا المعاهدات ؟”
طالما أن الحديث كله يدور حول الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق فالرؤساء المفترضون هم زعماء قبليون على الأغلب وسيتضح لاحقا أن المقصود بذلك بعض زعماء العشائر العربية وسط وجنوب العراق .
أخيرا استثنت الرسالة بغداد والبصرة من أن تكون تحت حكم الدولة العربية الكامل بما يعني أن بريطانيا ستفرض على تلك المنطقة من العراق نوعا من الوصاية دون أن تنتزعها نهائيا من مشروع الدولة العربية وهو لغم آخر يمكن أن يساعد لاحقا في تمزيق ذلك التعهد البريطاني في الاعتراف بالدولة العربية وفق ما يطلب الشريف حسين .
في رده على الرسالة السابقة يتساهل الشريف حسين في شطب أضنة ومرسين من حدود الدولة العربية لكنه يصر على سواحل بلاد الشام .
” نترك الإلحاح في إدخال ولايات مرسين وأطنة في أقسام المملكة العربية وأما ولايتي حلب وبيروت وسواحلهما فهي ولايات عربية محضة”
وبصدد بغداد والبصرة يقدم الشريف حسين حلا براغماتيا في السماح لبريطانيا بإدارة ذلك الجزء من العراق لفترة محدودة مقابل عائد مالي ويأتي ذلك التنازل لمعرفة الشريف حسين بالوجود العسكري البريطاني في البصرة والأهمية التي توليها بريطانيا لذلك الوجود كحلقة وصل لقواتها في الهند .
كما يتضح أن رؤساء القبائل الذين أشار إليهم مكماهون سابقا هم رؤساء قبائل عربية وسط وجنوب العراق .
” يمكنا الرضا بترك الجهات التي هي الآن تحت الإشغال البريطاني إلى مدة يسيرة، البحث فيما يقبل عن قدرها دون أن يلحق حقوق الجانبين مضرة أو خلل. سيما العربية بالنسبة لأمر مرافقها ومنابعها الاقتصادية الحياتية، وأن يدفع للمملكة العربية في مدة الاشغال المقدار المناسب من المال مع احترامنا لوفاقاتكم المشار عليها مع مشايخ تلك الجهات وبالأخص ما كان منها ً جوهريا.”
نأتي لرد مكماهون :
” أما بشأن ولايتي حلب وبيروت فحكومة بريطانيا العظمى قدفهمت كل ماذكرتم بشأنهما ودونت ذلك عندها بعناية تامة – ولكن لما كانت مصالح حليفتها فرنسا داخلة فيهما فالمسألة تحتاج إلى نظردقيق،وسنخابركم بهذا الشأن مرة أخرى في الوقت المناسب.”
والفهم هنا لايعني الموافقة بالطبع وهي مجرد صيغة ديبلوماسية لإرضاء الآخر دون التعهد بشيء , وإعادة التأكيد هنا على مصالح الحليفة فرنسا هو التمهيد لتمرير اتفاق سايكس بيكو بأقل قدر من الصدمة ورد الفعل .كما ينبغي التوقف عند ذكر حلب باعتبارها منطقة يمكن أن تكون ضمن اهتمام الحليفة فرنسا مع بيروت .
رد حسين برسالته المؤرخة في 2 كانون الثاني / يناير عام 1916 بالتالي :
” أما ما جاء بالمحررات الموقرة فيما يتعلق بالعراق من أمر التعويض مدة الأشغال فلزيادة إيضاح وقول بريطانيا العظمى بصفاتنا في القول والعمل في المادة والمعنى وإعلامها بأكيد اطمئنانا باعتماد حكومتها المفخمة نترك أمر تقدير مبلغه لمدارك حكمتها ونصفتها”
هكذا تم الاتفاق على تأجير وسط وجنوب العراق لبريطانيا لفترة محدودة مقابل عائد مالي ترك تقديره لبريطانيا العظمى !
أما بالنسبة لسواحل وشمال بلاد الشام ( حلب ):
” أما الجهات الشمالية وسواحلها فما كان في الإمكان من تعديل أتينا به في رقيمنا السابق. هذا، وما ذاك إلا للحرص على الأمنيات المرغوب حصولها بمشيئة الله تبارك وتعالى وعن هذا الحس والرغبة هما التي ألزمتنا بملاحظة اجتناب ما ربما أنه يمس حلف بريطانيا العظمى لفرنسا واتفاقهما إبان هذه الحروب والنوازل إلا أننا مع هذا نرى من الفرائض التي ينبغي لشهامة الوزير صاحب الرياسة أن يتيقنها بأن عند أول فرصة تضع فيها أوزار هذه الحروب سنطالبكم بما نغض الطرف عنه اليوم لفرنسا في بيروت وسواحلها”
معنى ذلك التمسك بشمال وسواحل بلاد الشام ضمن الدولة العربية مع التساهل في الوجود الفرنسي في بيروت وسواحلها ضمن مدة الحرب . لكن بريطانيا لم تكن تعني الوجود العسكري الفرنسي لأغراض الحرب بل أبعد من ذلك وهنا حاول الشريف حسين وضع تعريف من عنده للمصالح الفرنسية والحقيقة أن ذلك لم يكن سوى خداع للنفس طالما لم تحدد بريطانيا ما تقصده بعبارة المصالح الفرنسية باعتبارها الطرف الأقوى القادر على فرض تفسيراته في النهاية .
وللإنصاف فقد حاول الشريف حسين لاحقا إفهام مكماهون اصراره التام على تبعية السواحل الشامية للدولة العربية .
” وعليه يستحيل إمكان أي تساهل يكسب فرنسا أو سواها شبرًا من أراضي تلك الجهات”
مانشهده في الرسائل التالية بين حسين ومكماهون هو الانتقال للمسائل التنظيمية واللوجستية للتحضير للثورة ضد العثمانيين , وكأن الطرفين قد اكتفيا بما تم الاتفاق عليه بالرسائل السابقة مع ما يتضمنه من غموض , خاصة في تحديد ” مصالح الدولة الفرنسية الحليفة في المنطقة ” .
اكتفى الشريف حسين بتعهد عام بدعم إنشاء دولة عربية تتضمن بلاد الشام والموصل ولاحقا وسط وجنوب العراق ( بعد انتهاء تأجير الوسط والجنوب لبريطانيا !) وكذلك شبه الجزيرة العربية ما عدا عدن , وترك مصير السواحل الشامية عمليا لما تقرره بريطانيا وفرنسا مع تأكيد لفظي من قبله لانتماء تلك السواحل للدولة العربية وهو تأكيد لم يقابله تأكيد بريطاني مماثل قط .
والملاحظ أن الشريف حسين اكتفى بسذاجة بتلك المراسلات من السير هنري مكماهون فلم يطلب وثيقة رسمية موقعة من الحكومة البريطانية , لذا كان من السهل على الحكومة البريطانية نقض العهد الذي أعطته عن طريق السير هنري مكماهون , خاصة أن تلك المراسلات اتخذت طابعاً سرياً بين الطرفين ولم يتم الافصاح عنها إلا بعد زمن طويل .
كان ذلك أشبه مايكون بزواج عرفي بين رجل ثري وقوي وبين شابة من عائلة فقيرة وضعيفة بدون وثيقة اثبات قانوني ذات قيمة وحتى بدون إشهار لذلك الزواج البائس فهل كان حقاً مفاجئاً رمي تلك الزوجة خارج البيت بعد انتهاء شهر العسل ؟
مراجع : مراسلات حسين مكماهون – مؤسسة الدراسات الفلسطينية .
كتاب : خط في الرمال – تأليف جيمس بار ترجمة سلافة ماغوط