“غيَّب الموت قائدًا قلَّ مثيله”، بهذه الكلمات نعى مروان شيخو يومها رئيسه، لينقسم النّاس بين مكذِّب ومنكر ومصدوم. “هل يموت الرَّئيس؟” كان أحد الأسئلة الَّتي أطلقها كثيرون على أنفسهم في حالٍ من عدم التَّصديق الَّذي عايشناه يوم وفاة الرفيق الأمين العام للحزب، الفريق أوَّل طيّار، القائد العام للجيش والقوّات المسلَّحة، الرَّئيس المناضل حافظ علي سليمان الأسد.
لكنَّ الحقيقة تقول إنَّه في يوم بدا خارجًا عن سياق الزَّمن السَّاكن عندنا، مات الأب القائد، بطل الطّائفيّة وحامي عرين الشَّعبين الإسرائيلي والفارسي، وقاتل السّوريين والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والأردنيين وغيرهم.
نعم مات. لكنَّ أحدًا لم يجرؤ على إطلاق ضحكة ساخرة أو عبارة شامتة أو سؤال ظنّي أو حتّى نظرة تهكُّميّة. من لديه ما يكفي من الحماقة كي يقدم على فعل مثل هذا؟
وتستمر مشاهد الكوميديا السَّوداء الَّتي كنّا شهودًا عليها، وأحيانًا بعض ممثِّليها، ليأتي الرَّد سريعًا من واقعنا: “الملهم لا يموت. لقد ارتفع إلى جبل الخلود العلوي وحسب.” ومن يومها تحوَّل القائد الرَّمز إلى القائد الخالد، لتزداد الصِّفات السّابقة لاسمه صفة جديدة تكاد تحلِّق به في فضاءات “الألوهيّة”.
وكعهدنا بأمثاله، ترك لنا صوره وتماثيله في كلِّ مكان لتواسي حزننا وتؤنس يتمنا، ووريثاً سيجلس على عرش جمهورية خيبستان الَّتي راكم خرابها ليبيعنا على بسطة حمقه بعد أن تاجر بنا والده “الفقيد” في الأسواق الحرَّة وأسواق التَّهريب في كل بلدان الأرض.
بدا اليوم مختلفًا عن أمثاله في الفرصة الَّتي سنحت وضاعت، واللّا يقين الَّذي لوَّن المواقف، والمشاهد الَّتي ما تزال الذّاكرة تستعيدها كلَّما تجدَّدت المناسبة: تباكي المنتفعين ممثَّلين بمروان شيخو (الَّذي استجدى دموعه فما التفتت إليه) وأمثاله من المذيعين، لطميّات أعضاء مجلس الشَّعب، ذكورًا وإناثًا، والكل ينظر إلى الكاميرات الَّتي تسجِّل نسب النِّفاق يومها (خوفًا وجزعًا من المحاسبة على التَّقاعس)، انهيارات أفراد من الشَّعب(نتيجة الجوع والإرهاق كما أخبرني يومًا أحدهم وليس نتيجة الحزن كما أِشيع)، والأهم، الانتشار الأمني والعسكري غير المسبوق حول المدن والمراكز الحيويّة (تحسبًّا لأي محاولة انقضاض على العرش). الحق أنَّه كان يومًا صعبًا على السّوريين، إذ كان لا بد من تحقيق التَّوازن الاستراتيجي بين إخفاء الفرح العظيم الَّذي ملأ أركان نفس الكثيرين، وتصنُّع الحزن الَّذي يجب أن يرتسم على الوجوه وإلّا. وكعادة الشَّعب السّوري، اجترح يومها هذا المستحيل: توأمة الحزن الكاذب والفرح الصّادق.
إذن، في 10/6/2000، انفجرت آخر فقاعة داوم المنتفعون على إطلاقها على مدى 30 عامًا وهم يسبِّحون بحمده تبرُّكًا أن “لم يبق لنا إلّا أنت”، لتتكاثف قطرات الخيبة على جبين السَّراب بعد أن غادرهم سيِّد نعمتهم. انقشع الضَّباب في اللَّحظة الَّتي أدرك فيها كلُّ من صحا من غفوته وغفلته جاهلية الدَّعوة البعثية وكذب مسيلمتها بخلود الرِّسالة وحاملها، بعد أن فُضح أمر أبديَّته الَّتي حوَّلوها إلى شعار في مرحلة من المراحل مع هتافهم “إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد”. كما تفجَّرت يومها آهات حبستها الأضلع ودموع قرَّحت الجفون كمدًا على من قضوا على يده على مدى ثلاثة عقود ونيِّف. أدركنا متأخِّرين أنَّ من ظننّاه قدرًا لا يتغيَّر، كان بشرًا مثلنا، يحيا ويموت. أجل، يموت!
تعطَّلت ثنائيّات الحناجر والأكف، الأغاني والأهازيج، القصائد والأناشيد، النِّفاق والتَّملُّق كلُّها بعد أن مضى مبرِّر وجودها واعتراها حال بغال الدَّولة بعد أن تهرم. ترى كيف ستستمر الدُّنيا من حولنا بدون الأسد وملحقاته؟ كان هذا السؤال الَّذي راود كثيرين وهم يتابعون حالة انعدام الوزن التي لحقت بالشّارعين: الحزين والفرح. لا ينكرنَّ أحد أنَّ الشَّعب ظنَّ أنَّه خلَّف الخيبات وراءه بموت صانعها، إذ لم يعلم أنَّه سيموت على عتبات حلمه وهو ينتظر انفلاق البحر بعصا موسى ليعبر إلى ضفَّة الحلم بعيداً عن الغرق في سبخة آل الأسد الآسنة لاحقًا.
تصوَّرنا أنَّ كلَّ الانتهاكات الَّتي اقترفها القائد الرَّمز الَّذي كاد يتحوَّل إلهًا، تحت مسمّى إنجازات عظيمة، ستطمر معه، منذ تسليمه الجولان وهو وزير الدِّفاع، مرورًا بأحداث جسر الشغور 1980 ومجزرة حي المشارقة بحلب 1980 ومجزرة سجن تدمر 1980 ومجزرة حماة الأولى 1981 والثانية 1982 وغيرها كثير. لكن، قبل أن نمضي قدمًا في غيِّ الأحلام، أعادتنا أولبرايت إلى واقعنا. ويتحوَّل الجميع مرَّة أخرى إلى مجرِّد شهود على المكيدة الَّتي حوَّلت الحلم إلى أكبر خيبة في حياتنا، وطغت على كلِّ ما احتوى ماضينا من خيبات. ومع ابتلاع الأرض لجثَّة الأب، عادت الملحقات المعطَّلة إلى العمل بعد تلميعها وتحديثها، لتعاود المشاهد المتقاعدة غزو واقعنا وتخبرنا بأن من خيَّبنا مات، لكنَّ الخيبات ستستمر، بل ستتحوَّل إلى انكسارات ستوصلنا حدود اليأس لاحقًا لتجعلنا هدفًا لكلِّ طائفي وعنصري وتاجر.
المصدر: اشراق