اكتسحت روسيا مناطق واسعة من إدلب وغرب حلب وشمالها، بل إنّها سُلمت لهم تسليماً؛ فالسلاح الثقيل الذي تمتلكه هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) لم يتحرّك إطلاقا. ويبدو أن هناك اتفاقا على تلك المساحات المأهولة بين روسيا وتركيا، وإلّا لما كان الأمر تسليماً.
المشكلة أن روسيا لم تضع حدوداً لحربها الراهنة في شمال سورية، وأعلن النظام السوري أنه سيكمل “حروبه” إلى أن “يحرّر” كل البلاد، وكأنّه هو من يحرّر! تركيا التي خسرت مناطق واسعة خاضعة لسيطرة فصائل تابعة لها، وضم النظام السوري مناطق توجد فيها أكثر من عشر نقاط مراقبة تركية، دفعتها إلى التحرك الفوري، والدخول عسكرياً. ليس هذا التدخل باتفاقٍ مع الروس، ولكنه جاء ردّا على الإهانة والاستهتار الروسيين فيها. وبالتالي، تدخلت تركيا لترسم نفوذاً دقيقاً لها على الأرض السورية. ولتوضح للروس أن التقدم أخيرا يُهدّد المجال الحيوي التركي، وهو خارج الاتفاقات المعقودة بينهما، ويتجاوز تأمين الطرق الدولية، ويسبّب، عبر الكتلة البشرية المهجّرة إلى الحدود، مشكلة لها، وهي لا تستطيع تحمل المزيد، وأوروبا ترفض ذلك، وعدا ذلك، هو يقلّل من شأن تركيا دولةً إقليميّةً وعالميّة في آنٍ واحد، أي أن بوتين ضحك عبر مسار أستانة وسوتشي واللجنة الدستورية، وسُلمت له سورية عبر التوافقات، وإذا كان الاستهزاء ممكناً بالفصائل السورية، فهو يشكل إذلالاً للدولة التركية، ولحساباتها الداخلية في هذا البلد، وهذا ما لا تقبله.
عوامل كثيرة دفعت الأتراك إلى التدخل، وعدا كل ما ذكر أعلاه، تبيّن أن روسيا، وفي حال استولت على إدلب، لن تصمت حيال مناطق سيطرة تركيا الأخرى، وبالتالي كان التدخل من أجل الوصول إلى اتفاقٍ جديد. نعم، اتفاق جديد، فليس من الممكن إعادة روسيا إلى ما قبل التقدّم، كما يُهدّد الرئيس التركي أردوغان! وذلك ليس أمرا سهلا، سيما أن روسيا تعلم أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) لن يدعم تركيا، والأخيرة تحتاج روسيا في ابتزاز أوروبا وأميركا، حيث المفاوضات في قضايا كثيرة متعثرة ومنذ عقود، وبالتالي أُجبرت تركيا على التدخل، وروسيا الآن مجبرة على تهدئة الجبهات، وعدم خسارة تركيا، حيث الأخيرة مهمة جداً لروسيا من الناحية الاقتصادية بالتحديد، وكي لا تدفعها إلى صفقاتٍ جديدة مع أوروبا وأميركا كما تلوّح الأخيرات.
أوروبا وأميركا تُكثران من التصريحات، وحتى الكلام عن الباتريوت وإمكانية نشره في شمال سورية، وأن لتركيا حقاً في حماية أمنها، وسواه، وهذا لا تقبضه تركيا جيداً ولا تتجاهله كذلك. الخذلان والخلافات بين تركيا والغرب تدفعان تركيا إلى التمسك بالعلاقة مع روسيا، وفي الوقت ذاته مع أوروبا، وهذا ما يربكها بشدّةٍ، سيما أنّها دولة ضعيفة، مقارنة بكل من روسيا والغرب، وكذلك خسرت أوراقا كثيرة في سورية، وهناك مصالح مستجدّة لها في ليبيا والعراق ووسط آسيا، وكلها مسائل تتطلب توافقاتٍ كبرى مع روسيا، وبالتالي دفعت تركيا بقواتها، لكي لا تبدأ المشكلات داخل تركيا ذاتها كما صرح أردوغان ذاته؛ فالتدخل، في وجهٍ منه، قضية داخلية في السياسة التركية أيضاً.
الآن، تركيا وروسيا تبحثان عن توافقات جديدة، تنظمان بموجبها حدوداً دقيقة للعلاقة بينهما: فتح الطرق الدولية، شطب هيئة تحرير الشام والجهاديين، تموضع جيش النظام السوري في ثكناتٍ محدّدة، وقد يتراجع، ويستبدل بقواتٍ روسيةٍ تركيةٍ مشتركة، وسيتم ترتيب البلدات المحيطة بالطريق م4، حيث جسر الشغور وأريحا وسواها. هذه مسائل تتطلب نقاشاتٍ ومداولاتٍ كبرى، ليتم تجاوزها، فهي تفرض مناطق منزوعة السلاح، وعدم عودة النظام إلى تلك المناطق، أو عودته من دون جيش أو قوات أمنية، وبالتالي، المداولات شاقة، وهذا بدوره ولخطورته فرض على الأتراك التدخل.
يُطرح، في سياق الشد والرخي حالياً، مصير كل من منبج وتل رفعت، حيث ما زالتا خارج سيطرة تركيا، ويمكن أن تكونا مصدر قلقٍ مستقبليٍّ لها، وهو يُطرح ضمن صفقةٍ تُبادل بها تركيا إدلب، ولكن ذلك ليس مفيداً بالمعنى الدقيق، وسينشئ مشكلاتٍ إضافية لتركيا، حيث سيكون نقل سكان البلدات التي أخليت أخيرا إليها، وهذه مشكلة كبرى، بخصوص السكن والاحتياجات وفرص العمل وسواها، وعدا أن تركيا لن تترك إدلب، وتتخلى طواعيةً عن الاتفاقات السابقة حولها، وهو ما يقلّل من قيمة شأن تركيا بوصفها دولة ضامنة، بينما الروس سيظهرون كأنّهم المالكون لكل ما يخص الشأن السوري، وهذا ما ترفضه تركيا قطعيّا، وبالتالي هناك اتفاق جديد يخص إدلب وأرياف حلب الغربية المتبقية خارج نطاق سيطرة النظام، وبما لا تشكل أيّة مشكلات مستقبلية؛ القوات التركية والروسية هي بالتحديد من سيضمن ذلك كله.
تقدّم روسيا وحلفائها الأخير، رغم أنه أتى في سياق عدّة حروبٍ شنتها وتقدمت في شمال غرب سورية في الأشهر الأخيرة، يجب أن يقرأ بسياق الخوف من مفاعيل تطبيق قانون سيزر في بداية الشهر السادس من هذا العام، حيث سيكون تطبيقه مُرفقاً بواقعٍ جديدٍ، يمنع تنفيذه كما يشاء الأميركان. وبالتالي سيكون تطبيقه مقيداً، ولن تكون للطيران الروسي أهداف جديدة للتدمير! وستكون مناطق النفوذ قد رسمت بشكلٍ نهائيٍّ؛ تركيا تعي ذلك والروس أيضاً، وعدا ذلك كله، يتطلب الاتفاق على الدولة المسيطرة على إدلب المدينة ذاتها. لن تقبل روسيا بقاءها خارج سيطرة النظام، والسؤال كيف سيتم تطبيق السيطرة الروسية التركية عليها، وهذا سيفرض، حتماً، نزع سيطرة هيئة تحرير الشام عنها، وإعادة تنظيم المدينة بشكلٍ مختلف، وربما ستناور روسيا على تسويةٍ مع تركيا تخص مناطق سيطرة الأخيرة، وبما يسمح للنظام بالسيطرة الرمزية على المدينة، عبر تفعيل الخدمات الأساسية الحكومية مثلاً.
المصالح الكبرى بين تركيا وروسيا، والتي أصبحت معروفة، سبب أساسي لمنع تطور الأحداث العسكرية (مقتل جنود أتراك، إسقاط طائرات سورية، مناوشات عسكرية هنا وهناك، وربما ستتكرّر هذه الأحداث، ولكن ضمن الإطار ذاته)، ولن تصبح حرباً حقيقيّة بين البلدين. وللأسباب آنفاً، والمتعلقة بالموقف الأوروبي والأميركي الخافت، لن تتورط الدولتان في حربٍ بينهما، سيكون الغرب هو المستفيد الوحيد منها، وسيُركع تركيا أكثر فأكثر، وستخسر روسيا أكبر استثمار اقتصادي لها في العالم حالياً.
خلاصة القول: المصالح الاقتصادية لكلٍّ من روسيا وتركيا ستلجم تطور الأحداث، وسيكون هناك اتفاق جديد، لا يضحّي بتقدم روسيا وحلفائها، ويحفظ ماء وجه تركيا وأردوغان، وبما يحجز للأخيرة مكاناً على طاولة التفاوض النهائية الخاصة بالحل السياسي. النظام السوري والمعارضة، السعيدان بالتطورات الميدانية، ليس لهما قيمة بكل ما تم إيضاحه هنا؛ فهما مجرد أدوات تنفيذية لصالح الدول المتدخلة بالشأن السوري، وسيصمتان عن الثرثرة.
المصدر: العربي الجديد