عبثاً يحاول السوريون تجميع شتات هويتهم الوطنية التي تمزّقت، يجهدهم إصرار الأسد على قتل كل إمكانية لإعادة الروح لها، وتصرّ حرب الإبادة، التي ما زالت تمارس بلا كلل، على رفض عمليات التجميل لوجه سورية الوطني الذي مزّقته الحرب، فالندوب أكبر فعلا من إمكانية تقنيات التجميل، مهما بلغت احترافيتها، أو حجم تشبّعها بالنيات الحسنة.
في الحرب التي يشنها نظام الأسد على أشواق السوريين إلى الحرية، وعلى محاولاتهم إعادة صناعة وطنيتهم، بمزيد من العبثية والقتل، تبدو الخيارات ضعيفة، فإما أن تبقى الهوية السورية متشكّلة من الخضوع + الذل + عبادة بيت الأسد، وإما فلا، وإلا لماذا ولمن رفعنا شعار “الأسد أو نحرق البلد”، لا وطنيات خارج هذا التعريف، حتى لو اقتضى الأمر إفناء سورية كلها.
ورغم أن مجزرة حي التضامن ليست سوى تفصيل صغير ضمن ماكينة هائلة من المجازر أكلت أعمار السوريين، إلا أنها كشفت لهم ما كانوا يحاولون إثبات عكسه، وأنهم في ثورتهم استطاعوا ترويض عصابة الإجرام وقهرها، وأن الثمن الذي دفعوه، على الرغم من ضخامته وحجم الألم الذي نتج عنه، لم يكن بلا معنى.
تثبت تفاصيل المجزرة الحقيقة البائسة للأوضاع في سورية، عصابة تأسر ملايين من العزّل، مباحين في كل لحظة للقاتل، وهي من تختار من يقتل وبأي طريقة وأسلوب، من لم يمت إلى الآن فبفضل المصادفة والأقدار، وليس بفضل الثورة وتضحياتها، بل ربما عقاباً لها ولهم.
إذاً لا وطن ولا وطنية، بل المعيار المحدّد هنا هو البندقية، والمعادلة فيها صفرية، إما تقتلني أو أقتلك. لا دستور ولا أنظمة أو قوانين مرعية، ولا حتى أعراف تحكم العلاقة بين المكونات. وما يسمّى “التراث الوطني” الذي جرى الاستناد عليه، أو المراهنة به، حين قيام الثورة جرى شطبه في لحظة، وتشكيل قيم ومعايير “وطنية” جديدة على وقع طبول الحرب.
على ضوء ذلك، ثمّة سؤال ماكر يطرح نفسه متشمتاً: أي غباءٍ كنتم عليه عندما اعتقدتم أنكم تخوضون ثورة وطنية ضد نظام ديكتاتوري، مثل كل خلق الله في هذه الدنيا؟ كيف لم يخطر ببالكم أنكم ستضعون ملايين العزّل في فم الغول، بعد أن تستشهدوا أو يجرى اعتقالكم أو حتى بعد هربكم “نجاتكم من يد القاتل”؟ لماذا اعتقدتم أن العصابة ستفهم اللعبة كما تصوّرتموها، وتحترم بالتالي قوانينها وشروطها، وأنها ستنتهي لصالحكم حكماً ما دامت العدالة والرأي العام العالمي والحق تقف معكم؟
لعل أشدّ ما أحزن أولئك الذين وقفوا مع الثورة وأيدوها بقلوبهم وعقولهم وأجسادهم، حالة اللامبالاة، الفظيعة، التي أظهرها القتلة، وهم يقذفون ضحاياهم بدم بارد في الحفرة، وضعف السوري المنقاد للموت، لماذا لم يصرخوا الصرخة الأخيرة، وهم يهوون إلى الموت؟ هل نسوا أن يفعلوا، أم أنهم اعتقدوا أن الأمر مجرّد مزحة ما دام قتلتهم كانوا يمزحون وهم يجرّونهم إلى حتفهم، أم كانوا ما زالوا يطمعون بالرحمة؟
يعرف السوريون في أعماقهم أن مئات آلاف قتلوا بهذه الطريقة، فالعصابة نشرت آلاف الحواجز، وبجانب كل حاجز هناك مقبرة جماعية دفن فيها عشرات السوريين، كان يجرى إنزالهم من الحافلات، أو وهم عابرون إلى مكان آخر، كان أي عنصر على هذه الحواجز يقرّر مصيرك، مزاجياً أو على الهوية، من حوران أو داريا أو الغوطة أو حمص، بعد أن أسقطت العصابة القانون، وعمّمت على عناصرها أن القتل الكثيف أهم أدوات الانتصار.
المؤكد أنه وقت ارتكاب المجزرة في حي التضامن، لم يكن تنظيم داعش قد ظهر بعد، وبالتالي، لم يكن الفرز الطائفي قد اتضح بعد، علماً أن “داعش” لم تكن له حاضنة في سورية. لذلك ثمّة من يرى أن هذه المجزرة وأخواتها يمكن وضعها في سياق استيلاد “داعش” والتعجيل بظهوره، ليصار إلى شرعنة ألف مجزرة سبقت ومثلها سيأتي.
ومع التأكيد أن الأزمة في سورية ليس لها سبب طائفي، إلا أن العصابة ساقت الأمور بهذا الاتجاه عنوة، دع عنك خطابيها، الإعلامي والدبلوماسي، فذلك ليس سوى مساحيق تجميل لا يمكنها أن تغطّي بشاعة أفعالها الحقيقية، إلا أنها على الأرض صممّت العملية لتكون بهذا الشكل، أوعزت للعلويين بأن هذه حرب وجود ضدهم، وليست شعارات الحرية سوى محاولات للتغطية عن الهدف الحقيقي، وأشعرت السنّة أنهم كلهم مدانون بسبب انتمائهم وهويتهم.
في “التضامن”، سورية كلها باتت واقعة في الحفرة، بكل مكوّناتها وأطيافها، والسؤال اليوم: كيف يمكن إنقاذ الوطنية السورية وتخليصها من ألف مأزقٍ وضعتها بها العصابة في طريقها إلى الحفاظ على السلطة؟ مؤكّد أن لا أحد يملك إجابة شافية الآن، ليس بسبب هول الصدمة وحسب، بل لقصر ذات اليد، لا أحد لديه الوسائل والأدوات للخروج من هذه الحفرة، حتى الإدانة، على بساطتها، لا يملك سوريو الداخل رفاهية فعلها، فكيف الحال بالتعبير عبر تظاهرات تخرج في اللاذقية ودمشق ضد هذه الأعمال؟
الواقع أن الوطنية السورية باتت مجرد أشلاء ممزّقة على قارعة الطرق، أو أحلام في رؤوس الحالمين، متى تجميع قطعها، متى سيصبح ممكناً ترجمتها من الحلم إلى الواقع؟ هذا هو السؤال اليوم.
المصدر: العربي الجديد