واحداً تِلْو الآخر، يقود الضابط في قوات النظام أمجد اليوسف ضحاياه إلى حتفهم، ملقياً على مسامعهم قبل قتلهم ضحكات التشفي وعبارات الإهانة والشتائم.
هكذا بدا المشهد في حي التضامن جنوب دمشق، صبيحة يوم السادس عشر من نيسان/ إبريل من عام 2013، حين قرر اليوسف ومن معه إشباع نزواتهم الإجرامية وتفريغ حقدهم الطائفي عبر رصاصات مزقت أجساد 41 سوريّاً، لم يعرفوا حتى بأي ذنب قُتلوا.
بدم بارد، جمع اليوسف أولئك الضحايا في حفرة كبيرة، وسكب الوقود عليهم وأحرقهم، مطلقاً العنان لنفسه لارتكاب مزيد من المجازر وقتل آخرين وآخرين من السوريين دون رادع أو حسيب ولا رقيب.
بين سفاح التضامن ومن معه، ظلت تلك المجزرة طي الكتمان لسنوات عدة، إلى أن قرر عنصر في قوات النظام نقلها إلى العالم الخارجي، قبل عدة أعوام، ومن ثَم أزاحت الباحثة السورية أنصار شحود وزميلها البروفيسور أوغور أوميت أنجور، الستار عنها، عبر نشر ما حصلا عليه من تسجيلات مصورة في صحيفة “الغارديان” البريطانية يوم الخميس الماضي.
أدت التسجيلات التي نشرتها الصحيفة إلى صدمة كبيرة لدى السوريين وأثارت تفاعُلاً واسعاً بينهم، ليس لأنها المجزرة الأولى، فخلال السنوات الماضية قاسوا وعانوا وشاهدوا وعاينوا مئات المجازر وآلاف ضحايا، بل لأنها من المرات النادرة التي يتم فيها الكشف عن إعدام المعتقلين وإخفاء جثثهم بهذه الطريقة.
ومما زاد من مرارة الفاجعة، أنها تزامنت مع حالة الشرخ والانشقاق السياسي داخل الائتلاف المعارض، ومحاولات بعض الدول العربية الانفتاح على النظام السوري، إضافة إلى انشغال بعض الدول بملف اللاجئين المقيمين على أراضيها والدعوات المتكررة لترحيلهم، فضلاً عن تجميد الجبهات وتحول دور بعض الفصائل إلى إدارة المعابر والتجارة.
فرصة للمعارضة
مع عدم قدرة مؤسسات المعارضة الحالية على إحداث تأثير في موقف الدول تجاه النظام والملف السوري عموماً، وغياب الرؤى المستقبلية لما ستؤول إليه الأمور في ظل السعي الإماراتي لتأهيل الأسد، ورغبة الجزائر ومصر وغيرهم في إعادته إلى الجامعة العربية، ومساعي تركيا لتحسين علاقاتها مع الدول العربية وما قد يترتب على ذلك من تفاهُمات حول سورية، تأتي وثائق “الغارديان” كفرصة للمعارضة لكسب زمام المبادرة وإعادة تشكيل موقف عربي ودولي حول القضية السورية، أو ربما عرقلة أي خطط سلبية تجاه الثورة السورية.
وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور يحيى العريضي، السياسي والإعلامي السوري، عميد كلية الإعلام السابق أن الفرصة مناسبة أمام السوريين والمعارضة لتحضير قضية إرهاب الدولة الذي يمارسه النظام في سورية، وتقديمه للجهات الدولية والإقليمية والأممية، مع التأكيد على أن هذا الفرد (أمجد اليوسف) لم يتصرف من ذاته وإنما يعمل ضِمن منظومة متكاملة.
ويؤكد العريضي في حديثه لـ”نداء بوست” أن المعارضة اليوم مُطالَبة بموقف متوافق مع مطالب وتطلُّعات السوريين، والحديث هنا يدور عن العملية السياسية الحالية، والتي تحولت إلى حالة عبثية يتم خلالها مشاركة مجرم حرب وإن لم يكن حاضراً بشخصه.
ويضيف: “يجب على المعارضة الوقوف عند العملية السياسية الحالية، فهي تمنح النظام السوري الوقت من خلال عرقلته المستمرة، والشرعية بأنه منخرط في العملية السياسية”، مشدداً على ضرورة إظهار القضية السورية بأنها قضية حقوقية بامتياز وأن الضحايا لهم حقوق لا تنسى، ويجب تحويل هذه الملفات إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
كذلك يؤكد العريضي أن المعارضة مطالبة أيضاً باستثمار التسجيلات التي صدرت عن منبر عالمي هو صحيفة “الغارديان” ذات الحضور والمكانة الصحفية الكبيرة في أوروبا والعالم، ووضعها إلى جانب باقي الوثائق على المسرح الدولي والتواصل مع الأمم المتحدة والمطالبة بإعطاء العدالة فرصتها، واستغلال هذه الفرصة التي جاءت في وقت يضيق به الخناق على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا.
إحياء القضية ضرورة ملحّة
يرى السوريون أن إعادة إحياء القضية السورية في المحافل الدولية، واستغلال التوترات الغربية الروسية بسبب أوكرانيا، حاجة ماسّة، وفرصة لا تتكرر دائماً.
وما قدمته الباحثة أنصار شحود والبروفيسور أوغور أوميت أنجور، يمكن اعتباره هدية على طبق من ذهب لمؤسسات المعارضة التي بقي عليها استثماره وتحويله إلى مكسب يخدم السوريين.
ولا بد من استثمار هذا التحقيق في جميع المستويات بدءاً من القانوني من خلال رفع الدعاوى وملاحقة ضباط وعناصر النظام في الخارج، إضافة إلى إعطاء الزخم الإعلامي للتحقيق وغيره، وبذل مزيد من الجهود لفضح هذه الجرائم على الإعلام الغربي.
وأيضاً لا بد من الاستفادة من هذا التحقيق سياسياً من خلال تقديمه كدليل إضافي على أنه لا طريق للخلاص في سورية وإنهاء المجازر إلا بالتخلص من نظام الأسد والدفع بالعملية السياسية من خلال تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.
وفي هذا السياق، يقول الكاتب والصحفي السوري أحمد مظهر سعدو: إن المعارضة السورية مطالبة اليوم بأن تكف أولاً عن الاستمرار في خلافاتها البينية، تحت دعاوى الإصلاح وسواه، والخروج من أمراض التذرر والتشظي الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه.
وأضاف في حديث لـ”نداء بوست”: “المطلوب منها استغلال فضائح النظام الإجرامية وتسويق ذلك دولياً وإحراج النظام السوري المجرم وداعميه من إيرانيين وروس، إنْ أمكن، وفي كل المحافل الدولية، في مستويات كثيرة ممكنة، والالتفات إلى هموم الشعب السوري التي لم تكن محصورة يوماً في مشاكل المحاصصات الخلافية داخل الائتلاف أو على جوانبه”.
ويمكن للمعارضة أن تفعل الكثير، فيما لو كانت جادة في الانحياز إلى جانب الضحايا والمقهورين والمعتقلين وأهليهم الذين ما زالوا يعانون أشد المعاناة، وفقاً لسعدو.
تأثير سياسي
يؤكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن “التحقيق من الممكن أن يشكل قيمة مضافة، وإنْ لم يلقَ تفاعُلاً سوى من وزارة الخارجية الأمريكية، ومن الممكن أيضاً أن يكون له تأثير على الوضع السياسي في سورية، وذلك من خلال تأكيد الدول الفاعلة بأن هذا النظام بلغ مرحلة من التوحش والبربرية لدرجة لا يمكن التعايش معه ولا يمكن القبول به على مستوى العالم”.
وخلال حديثه لـ”نداء بوست”، شدد عبد الغني أنه “على كل أفراد المجتمع السوري استثمار هذا الفيديو على أكبر قدر ممكن وبأقصى درجة ممكنة، وإيصاله إلى صناع القرار على مستوى العالم وتكرار الحديث عنه، فما حصل في التضامن مخطط ومدروس من قِبل كمّ كبير من الأجهزة الأمنية والضباط بما في ذلك ضابط برتبة لواء يدعى بسام الحسن وغيره”.
ومن وجهة نظر عبد الغني يجب تثبيت موقف بأنه لا يمكن استمرار هذا النظام؛ لأن استمراره هو تهديد إرهابي ووجودي للسوريين وأيضاً لا يمكن التعايش معه ولا بد من الضغط لتحقيق الانتقال السياسي والضغط على حلفائه من خلال هذا الفيديو.
ويتوافق الكاتب أحمد مظهر سعدو مع ما ذكره عبد الغني من حيث التأثير السياسي للتحقيق، وقال: “من المفترض أن يترك هذا التحقيق الفاضح تأثيراً نسبياً في لجم مباشر للتطبيع مع الأسد وإحداث فضيحة في مستويات دولية، ستزيد من الخناق على النظام السوري دون قدرتها على إحداث خرق جدي في العملية السياسية والانتقال السياسي المتوقفة منذ فترة والتي يستعاض عنها بدورات اللجنة الدستورية التي لم تؤتِ أي أُكُل حتى الآن، ولا يبدو أنها ستؤتي”.
والقيمة المضافة التي يمكن أن تعطيها هذه التوثيقات، فهي في مدى جديتها واعتمادها على أسس التوثيق الدولية المعترف عليها عالمياً ومن ثَم فهي إضافة جديدة إلى ملف الإجرام الأسدي الذي أصبح سجله حافلاً بالمجازر وانتهاك حقوق الإنسان، وفقاً لسعدو.
كما أن ذلك يشكل إحراجاً لكل الدول العربية وغير العربية التي تحاول فتح خطّ تواصل مع نظام الأسد، في محاولة للتطبيع معه وإعادة تأهيله عالمياً، وخاصة أن بعض الدول العربية ساهمت في تأجيل انعقاد القمة العربية، كي تسنح لها الظروف في إدخال النظام السوري إلى أروقة الجامعة العربية والقمة العربية القادمة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
أدلة نوعية وأهمية خاصة
يُعتبر الكشف عن هذه المجزرة مهماً جداً ولعدة أسباب، أبرزها أنها لم تكن مكشوفة بهذه التفاصيل الواسعة من قبل، فهي كانت مدفونة، ولم يتم توثيقها أو النشر والحديث عنها كباقي المجازر.
وهي من المرات النادرة التي يتم الكشف فيها عن إعدام النظام السوري للمعتقلين وإخفاء جثثهم بهذه الطريقة، فما كانت تعلمه الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وفقاً لمديرها فضل عبد الغني، هو حدوث حالات اعتقال تحولت بعد ذلك إلى اختفاء قسري.
كذلك تكمن أهمية الكشف عن هذه المجزرة بأنها حددت هُوِيَّة المجرم، وهي نقطة مهمة لأن الكثير من المجازر رغم وجود تسجيلات أو صور تظهر مرتكبيها إلا أنه لم يكن هناك معلومات عنهم كأسمائهم ورتبهم والوحدات العسكرية التي ينتمون لها.
بينما في مجزرة التضامن تم التعرف على الاسم الصريح للمجرم وتحديد فرع المخابرات الذي ينتمي إليه، والأهم من ذلك أنه اعترف بفعلته وأدان نفسه، وفقاً لعبد الغني.
ومن الأهمية التي تكتسبها هذه المجزرة، أنها جاءت بهذا الشكل الفاضح، والذي يرى الكاتب أحمد مظهر سعدو أنه من الممكن أن يكون قد أتى في سياق الضغط السياسي على روسيا وبوتين الذي يحارب العالم الغربي في أوكرانيا، وكان وما يزال داعماً أكيداً لبشار الأسد، ليس منذ دخول الروس إلى سورية أواخر أيلول/ سبتمبر عام 2015 بل ومنذ انطلاقة الثورة السورية.
الائتلاف: تحرُّكاتنا القانونية لم تتوقف
أكد عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني المعارض، يحيى مكتبي، أن تحركات المكتب القانوني على المستوى الدولي والأممي لم تتوقف، وبدأت منذ ارتكاب نظام الأسد جرائمه الأولى.
وقال مكتبي في حديث لـ”نداء بوست”: إن اللجنة القانونية عملت على جمع الأدلة والوثائق الدامغة على انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان وعن المعتقلين والمختفين قسرياً وأرسلت كل التقارير والمذكرات إلى الجهات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة ومؤسساتها.
وأضاف: “هذه النشاطات والمتابعات لم ولن تتوقف ونحن سنبقى مصرّين على منع سياسة الإفلات من العقاب التي يحاول نظام الأسد التملص منها وسَوْق بشار الأسد وعصابته إلى المحاكم الوطنية والدولية لينالوا جزاء ما ارتكبوا من فظائع”.
كما أشار إلى أن الائتلاف رحب بنشر تسجيلات مجزرة التضامن “من أجل أن يصل إجرام النظام وأن يعرى أمام الرأي العام الأوروبي والعالمي، في الوقت الذي تحاول به بعض الجهات التسويق للأسد وتحاول إعادة إنتاجه في المنظمة الدولية”.
ويرى مكتبي أنه لا يمكن الرفع من سقف التوقعات من خلال التحقيق الذي نشرته صحيفة “الغارديان”، رغم أثره الكبير، لكن ما وصل إليه المشهد السوري من تعقيد وتداخُلات سواء من الفاعلين المحليين أو الإقليميين والدوليين تجعل الأمر في موضوع المسار السياسي ليس بالبسيط، وخاصة لجهة وجود قوتين مجرمتين هما روسيا وإيران.
وتمكن أهمية التحقيق في أنه يفرمل ويعطل ويجعل الكثير من الدول تعيد حساباتها بخصوص عمليات التطبيع مع النظام السوري، وفقاً لمكتبي، الذي أكد أنه تم إرسال العديد من المذكرات بشكل خاص حول مجزرة التضامن إلى جميع الدول المعنية بالملف السوري والمنظمات الأممية، تم خلالها التأكيد على أنه لا يمكن إيقاف سلسلة هذه المجازر إلا من خلال دفع حقيقي وصادق للعملية السياسية بكل بنودها وخاصة فيما يتعلق بالانتقال السياسي الذي نصّ عليه بيان جنيف 1 والقرار 2254.
المصدر: نداء بوست