توأمة الحداثة العربية والاوروبية:
من المتفق عليه بين المؤرخين أن “الحداثة ” في العالم بدأت بالثورة الفرنسية 1789. كما إن من المتفق عليه بين المؤرخين العرب أن العرب لم يتأخروا عن ” الحداثة “، بل واكبوا اتجاهاتها الرئيسية الثلاثة في ايقاع متناغم مع بقية الأمم الحية من أوروبا الى الشرق الأقصى:
أولا – سطوع وصعود المذاهب القومية، والسعي لإنجاز الوحدة.
ثانيا – اليقظة الفكرية والانفتاح على ثقافة الحرية.
ثالثا – النهضة المادية، ودخول عصر التصنيع.
ففي مصر والشام وتونس والجزائر وليبيا كانت الانتفاضات الشعبية على الحكم العثماني في ذروتها من ناحية، جنبًا الى جنب مع التصدي للحملات الأوربية من ناحية ثانية وتحقق أهدافها. وعندما استتب لمحمد علي الحكم في مصر وانتزع استقلالها عن السلطنة، وقضى على محاولات الغزو الفرنسي والبريطاني، وعندما استتب الأمن وتحقق الاستقرار السياسي أطلق استراتيجية تنمية بعيدة المدى. أرسل مئات البعثات للدراسة في أوروبا، وأرسى قاعدة طموحة للصناعات المتوسطة المدنية والعسكرية في نفس الوقت الذي بدأت اليابان نهضتها، وأنشأ جيشا حديثا أرهب السلطنة وأوروبا معا، وأصبحت مصر ثاني دولة في العالم تمد السكك الحديدية بعد بريطانيا، وقبل فرنسا والمانيا.
بموازاة تلك النهضة شهدت مصر تحولا فكريا، فظهر جيل يتبنى وعيا قوميا عربيا في نفس الوقت الذي كانت فيه الافكار والحركات القومية تعم العالم، وتحقق للأمم الاوروبية وحداتها القومية، الالمانية والايطالية والفرنسية.. إلخ. لذلك أرسل محمد علي ابنه ابراهيم الى سورية شرقا، والى الجنوب بمحاذاة نهر النيل، كما أرسل قواته الى الجزيرة العربية واليمن. وكان الهدف واحدا وواضحا: (إنشاء مملكة عربية تضم كل بلد ينطق أهله باللسان العربي) كما قال ابراهيم باشا ابن محمد علي الاكبر.
وفي الجزيرة العربية، قامت ثورة الامام محمد بن عبد الوهاب وأخذت ترسل اشعاعاتها وتلقى انتشارا واسعا وتتوسع نحو العراق وسورية، وهي أول ثورة دينية في المنطقة تتصدى لانحطاط الفقه الاسلامي الذي سببته العصور العثمانية وانتشار الصوفية والطقوس الرجعية، ولذلك سماها بعض المفكرين بثورة عربية تضاهي الثورة الفكرية التي عمت اوروبا.
وفي تونس كانت اليقظة الفكرية الحديثة تتقدم مثيلاتها في شمال افريقيا بتأثير خير الدين التونسي المفكر والسياسي.
وفي سورية كانت تيارات الاحياء الادبي والفكري والسياسي في أوج قوتها داعية للاستقلال عن السلطنة واحياء المجد العربي واسترداد الخلافة من الترك.
من التوأمة الى التضاد والصراع:
أما على الضفة الشمالية للمتوسط أقلق الانبعاث القومي العربي الدول الاوروبية الصاعدة التي تحدوها شهوة التوسع والاستعمار في منطقة الشرق، ووراثة الإمبراطورية العثمانية، وحفزها لوضع حد لطموحات محمد علي، فاتفقت سبع دول منها على التحالف مع السلطنة عدوتها التقليدية على تشكيل قوة بحرية موحدة وارسالها للمتوسط لإخراج قواته من سورية، وحصره في مصر، واجهاض (الوحدة) . كما خططت لاحتلال مصر، بعد أن احتلت الجزائر، وجنوب اليمن، ودشنت فرنسا ثم بريطانيا المداميك الاولى للمشروع الصهيوني في فلسطين.
من يومها رسمت القوى الاوروبية العظمى “خطوطها الحمر” في الشرق الأوسط:
– مقاومة النزوع القومي الوحدوي للعرب.
– فرض حصار غير معلن على كل حركة تحررية.
– منعهم من امتلاك عناصر القوة والنهضة الحقيقية، وكل ما يجعل منهم قوة عالمية.
وتبين الاحداث السياسية الكبرى التي شهدتها المنطقة، والتفاعلات الأوروبية – العربية خلال القرنين السابقين سيجد أن الصراعات تدور حول محور ثابت هو (منع أي وحدة عربية، وأي مركز قوة للعرب يتعارض مع مخططات الاوروبيين للسيطرة على المنطقة بحكم تماسها مع قارتهم). وبالمقابل تركز كفاح العرب على أهداف محددة: التحرر والنهضة والوحدة. وهي أهداف عليا وثابتة واستراتيجية، دارت حولها الثورات والمشاريع الوطنية والقومية لكل قطر، وللشعوب العربية ونخبها السياسية والفكرية مجتمعة.
المفارقة الصارخة هنا مزدوجة، أولاها أن الدول الأوروبية التي منعت العرب من انجاز وحدتهم القومية كانت هي نفسها تبني وحداتها القومية. وثانيتها أن الأوروبيين لم يحظروا هذا الحق البديهي على أي أمة أخرى غير العرب! لا حاجة للبحث عن السبب، إذ انه لن يلبث أن يتضح مع ترجمة نواياهم المبكرة، منذ ذلك الوقت بعد عشرات اخرى من السنين حين ارسلت اساطيلها لاحتلال الوطن العربي كله من الاطلسي الى الخليج العربي.
في بدايات القرن العشرين وبعد مائة عام من اليقظة القومية والنضالات التحررية في سبيل الانعتاق عن السيطرة العثمانية – التركية، انجز عرب المشرق استقلالهم السياسي بفضل نضالاتهم الدؤوبة، والتي توجوها ب(الثورة العربية الكبرى) وسعوا لاستكمالها بتحقيق وحدتهم التي اتفقوا أن تمتد بين سواحل المتوسط الى بحر العرب بقيادة الأسرة الهاشمية باسم المملكة العربية عام 1920، ولكن لم يمر سوى شهور حتى انقضت على سورية الجيوش البريطانية والفرنسية للمشرق العربي ، وقوضت (الوحدة) وعملت على تجزئتها واقتسامها قطعة قطعة ، وأنشأت بالقوة دولا لا أساس لها في الواقع ولا في التاريخ ، وترفضها الاكثرية الشعبية، كلبنان والاردن وفلسطين ، ثم قسمت الجزيرة العربية ، وخلقت في الخليج دولا قبائلية مجهرية ، وفرضت عليها الحماية ، وتواطأت مع الدول المركزية الاقليمية كإيران وتركيا واثيوبيا لمنحها حصصا من أراضي العرب.
إضافة الى أن الدول الكبرى الاوروبية التي حظرت على العرب انجاز وحدتهم وامتلاك القوة لم تطبق هذه السياسة على الدول الثلاث المذكورة، بل ساعدت على تقويتها فسمحت لإيران احتلال دولة عربستان العربية المستقلة، وسمحت لتركيا باقتطاع لواء اسكندرون وبعض الاقاليم السورية في الشرق، وسمحت لأثيوبيا باحتلال اريتريا وأوغادين، وأنشأت الدولة اليهودية لتكون حاجزا عازلا بين عرب المشرق، وعرب المغرب. بل وحاولت فيما بعد تفتيت سورية الى دويلات مجهرية طائفية وعرقية، ثم كررت المحاولة في ليبيا والجزائر والمغرب والصومال واليمن والعراق. أي أن أوربا الاستعمارية عملت بجد وإخلاص على تقوية إيران وتركيا واثيوبيا وتوسعتها على حساب العرب، وظلت تجهض كل محاولة لاتحاد العرب، ثنائية أو ثلاثية أو أكثر، ودعمت بكل قوة كل نزعة انفصالية داخل البلدان العربية، وكل حركة تضعها.
ففي المغرب دقت أسافين بين العرب وأشقائهم الأمازيغ، وفي المشرق دق أسافين بين العرب والكرد، أو بين المسيحيين والمسلمين، وبقية المكونات الدينية. فالتقسيم والتجزئة كانا مبدأين ثابتين في سياستها تجاه العرب (فرق تسد).
سجل إنجازات الوحدة في العصر الحديث:
على الرغم من ذلك لم يتوقف العرب عن نضالهم في سبيل الاستقلال والتحرر والوحدة والنهضة، وأمكنهم تحقيق بعض الانجازات المهمة:
1 – في ثلاثينيات القرن العشرين، حقق عبد العزيز آل سعود وحدة الجزيرة العربية التي كانت بريطانيا تخطط لتمزيقها الى دويلات صغيرة على شاكلة محميات الخليج.
2 – في الفترة ذاتها فرض السوريون ارادتهم على الاحتلال الفرنسي ووحدوا سورية في حدودها الحالية بعد أن شرعت فرنسا بتمزيقها خمس دويلات دينية وعرقية.
3 – في عام 1945 وبعد تحقيق الاستقلال السياسي لسبعة أقطار عربية اتفقت على إنشاء جامعة الدول العربية كمؤسسة قومية تعمل على توحيد كلمة العرب، وتحقيق التضامن بينها على قواعد مؤسسية حديثة، وأصبح الانتساب لها غاية رئيسية لكل قطر ينال استقلاله وينضم للمنظمات الدولية، وحققت (الجامعة) انجازات كبيرة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمن القومي العربي طوال 75 عاما.
4 – في الخمسينيات تمكن الليبيون من توحيد ولاياتهم الثلاث في دولة واحدة مركزية.
5 – وفي مفاوضات الاستقلال بين فرنسا والثوار الجزائريين حاولت الدولة المحتلة تقسيم الجزائر الى عدة دول (بربرية وعربية) لكن الثوار رفضوا وأصروا على وحدة الجزائر التي أصبحت بعد الاستقلال دولة كبرى وقوية في الوطن العربي وافريقيا.
6 – وفي المغرب، حيث الدولة العربية المركزية الوحيدة التي لم تخضع للحكم التركي أبدا، وحافظت على استقلالها رغم محاولات الاسبان والبرتغال الكثيرة احتلالها تركز نضال المغاربة على وحدة المغرب التاريخي واستعادة أجزائه السليبة، من اسبانيا وفرنسا، جبال الأطلس، ثم الصحراء الغربية، وما زال يناضل لاستعادة سبتة ومليلة وطنجة.
7 – في الخمسينيات تعاهدت الأحزاب والحركات الوطنية التي كانت تقود الجماهير في تونس والجزائر والمغرب من أجل الاستقلال عن الاستعمار على اقامة (دولة المغرب العربي الكبير) بعد الاستقلال، ولكن هذا المشروع لم ينجز، رغم استقلال الدول الثلاث وتقلص المشروع القومي التاريخي الى صورة هزيلة اسمها حاليا (اتحاد المغارب العربي) الذي أعلن عنه في اواسط الثمانينات نتيجة صراع الشقيقين الكبيرين الجزائر والمغرب.
8 – في أواسط الخمسينيات فرض الشعب السوري الوحدة مع مصر على حكومته فورا بدون تحضير، فظهرت أول وحدة اندماجية مركزية بين قطرين لا يتصلان جغرافيا، وأكمل وحدة قومية حديثة منذ وحدة القطرين في منتصف القرن 19. وتميزت بمضمونها الثوري والقومي وسعيها لضم شعوب اخرى. وللأسف تمكنت المؤامرات الغربية من فصل القطرين بعد ثلاثة اعوام ونصف، بيد أن أمثولتها واشعاعها مستمران فكريا وسياسيا حتى الآن.
9 – في عام 1963 جرت محاولة جادة لإعادة وحدة سورية ومصر، وتوسيعها بضم العراق، لكنها لم تنجح بسبب الصراعات الحزبية والشخصية والتدخلات الخارجية.
10 – في عام 1971 قام اتحاد كونفيدرالي ثلاثي بين مصر وليبيا وسورية، ولكنه انهار بعد أن ذهبت مصر الى السلام مع اسرائيل منفردة.
11 – في عام 1972 قام اتحاد بين سبع امارات خليجية بقيادة أبو ظبي، ما زال راسخا حتى اللحظة.
12 – في عام 1975 اعلنت (وحدة سياسية بين ليبيا وتونس)، ولكنها لم تكن جادة بما يكفي، وانتهت عام 1982.
13 – في عام 1982 تأسس مجلس التعاون الخليجي كاتحاد كونفدرالي بين ست دول خليجية عربية بقيادة المملكة العربية السعودية، وما زال قائما.
تعكس هذه التجارب بالنسبة لأي باحث ومؤرخ إيمان الشعوب العربية في كافة اقطارهم يبلغ درجة اليقين بوحدة أمتهم القومية، ويعكس اتجاها تاريخيا ثابتا نحو الوحدة على كافة مستوياتهم واتجاهاتهم، وسعيا جادا لها مقرونا بنضالهم التحرري النهضوي للتخلص من الارث الاستعماري وعودتهم الى مسرح التاريخ وعالم الكبار كأمة حية عظيمة، ذات دور تاريخي حضاري مشهود، ومعترف به، ويدحض مزاعم القوى والتيارات المعادية، وخاصة الاستشراقية والصهيونية والانعزالية بأنها خرافة واسطورة تاريخية أو اسلامية. وإذا كانت اخفاقات التجارب السابقة قد تساعد أعداءها على دعم مزاعمهم، فإنها مزاعم لا تصمد أمام حقائق الحياة والواقع قديمة وحديثه، بل إن العالم كله، بما فيه الدول التي ناهضت الوحدة تتعامل واقعيا وعمليا مع العرب باعتبارهم أمة واحدة لا يفصل بين شعوبها سوى الحدود التي فرضها الاستعمار، هي وما زالت قائمة بفضل حمايته لها، ومنحها شرعية دولية سياسية لا واقعية.
كما تثبت هذه التجارب أن محاولات القرنين السابقين آخذة بالتطور شكلا وموضوعا، وتنحو تدريجيا منحى عصريا، قائما على العلم والعقلانية والديمقراطية وحساب المصالح، بدلا من الانفعالية والارتجالية والانشائية والشعبوية. إذ كانت وما زالت الوحدة بين العرب حلم الجماهير والشعوب والنخب على حد سواء، كما تبين الدراسات والاستقصاءات الميدانية، ومعالم الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، إلا أن الاخفاقات السابقة بسبب العوامل الخارجية، أو الداخلية، طوال القرن العشرين خففت من الحماس لها، وسيطر عليها الاحباط، إلا أنها في الواقع بالمنظور العلمي لم تزال محركا قويا على المستويات الشعبية والسياسية والنخبوية والقطاعية كافة، وربما على مستوى الحكومات والأنظمة أيضا، وإن بدرجات أدنى. ولا زالت (الجامعة العربية) تقوم بوظائف قومية استراتيجية وضرورية وذات أهمية كبرى لا يمكن الاستغناء عنها.
العروبة حقيقة لا أسطورة:
ولعل أبرز حجة تدحض المزاعم والاطروحات المعادية لوحدة العرب، انبعاث العروبة الذي نراه حيا اليوم في خضم انتفاضات الأجيال الشابة الجديدة في الربيع العربي موجة بعد موجة، وفي ثنايا شعاراتها وراياتها ذات المحتوى القومي، والتي تذكر بتحركات الجماهير في ثورات الاستقلال والتحرر القرن التاسع عشر والعشرين.
فالعروبة كما هي كل فكرة اخرى قد تشهد مدا , وقد تشهد جزرا ، لا سيما بسبب التآمر الاجنبي على تحطيمها ودفنها، ولكنها كما أثبتت وتثبت التطورات تتجدد وتتقدم باستمرار ، وتستعيد حيويتها وزخمها في وجه التحديات المعادية، كما نرى اليوم , إذ تظهر العروبة كأنها المضاد الحيوي الفعال في مواجهة الثقافات المعادية التي حاولت ايران بثها ونشرها في العراق وسورية ولبنان واليمن ، أو الثقافة التي تحاول تركيا بثها بحجة احياء العثمانية الجديدة , أو دعايات الصهيونية ومستشرقي الغرب التي ترى العروبة أيديولوجيا عنصرية معادية للأقليات استخدمها العرب لضم وهضم الاقليات الكثيرة في الشرق !
وفي النهاية أجد من المهم جدا لفت الانتباه الى حقيقة قد لا تكون واضحة للجميع بنفس الدرجة، وهي أن فكرة العروبة ضمرت ضمورا شديدا خلال اربعة قرون الهيمنة العثمانية تحت مقولة الخلافة الاسلامية، ووحدة الأمة الاسلامية. ولكن مع مرور الزمن وبعد أن ساءت أوضاع العرب على كافة المستويات الحضارية , وتصاعدت مظالم الترك والغبن ووصلت الى حد العنصرية في القرن 19 مع صعود الحركة الطورانية , وتهاونوا في الدفاع عنهم امام الغزوات الاوروبية للجزائر وليبيا بل والتواطؤ مع الغزاة في ضرب مصر واحتلالها ثم التواطؤ مع الصهاينة في فتح أبواب فلسطين لليهود الصهاينة , ثم في اتباع تركيا سياسة تتريك العرب وفرض اللغة التركية عليهم , لم يجدوا مناصا من الدفاع عن هويتهم وحقوقهم والثورة على الظلم واسترداد كيانيتهم القومية لا سيما حين بدأت السلطنة تعترف باستقلال الشعوب الاخرى كاليونان والبلغار والصرب .. إلخ. وعندما انتصر العرب واستقلوا، كانت نسبة الأمية عالية جدا في البلاد العربية، والانحطاط الاجتماعي والثقافي متفشيا في كل الولايات العربية، والتخلف الاقتصادي سائدا، وانتشر الفقر والمجاعات وملاحقة الاحرار والمعارضين والمشانق، واضطر ملايين للهجرة الى الأميركتين طلبا للحرية.
في هذه الظروف وبعدها ذبلت وضعفت الروابط القومية بين العرب، وكان على النخب القليلة التي بقيت وناضلت ضد الهيمنة أن تعمل من الصفر على احياء الثقافة العربية وايقاظ الوعي القومي، ثم عادت هذه المحاولات الاحيائية والاستقلالية وضربت بأيدي المحتلين الاوروبيين. وفي الفترة بين الاستقلال عن الترك، والاستقلال عن الأوروبيين أنعش هؤلاء الهويات والعصبيات الدينية والعرقية بديلا عن العروبة، وأنشأت دولا خدمة لهذا الهدف مثل لبنان واسرائيل والاردن. ولكن النخب القومية عادت من جديد للنهوض والعمل وظهرت تيارات وحركات وأحزاب قومية عربية، وحاضنة شعبية واسعة للتوجهات القومية، في كل انحاء الوطن العربي من الجزائر والمغرب حتى العراق وسورية، لا سيما بعد اتضاح ابعاد الخطر الصهيوني وقيام اسرائيل. وقد قادت مصر الناصرية هذه القوى الشعبية والسياسية الى تحرير الوطن العربي وطرد المستعمرين من الجزائر الى اليمن ومن المغرب الى الخليج، كما قادت النضال باتجاه الوحدة وعملت على تجسيدها وفعلت وظائف الجامعة العربية ووسعتها بواسطة معاهدات واتفاقيات عربية – عربية في كافة المجالات التخصصية، بما فيها الدفاع المشترك، والتنمية، والتبادل التجاري والاقتصادي، والتربوي، ما شكل أسسا علمية وموضوعية للوحدة.
الوحدة اتجاه تاريخي:
وإذا كان البعض يرى أن فشل تجارب الوحدة يشي بعقم الفكرة وعدم واقعيتها، فإن هذا الرأي لا يجد تأييدا على مستوى الشارع ومستوى النخب أيضا في ضوء حقائق العلم والتطور العام في المنطقة وفي العالم:
1 – فهناك اجماع شبه كلي حاليا على أنه لا مستقبل للعرب في عالم الكبار بدون وحدتهم وتضامنهم.
2 – وهناك اجماع على أن جميع الدول العربية مهددة بوجودها من جيرانها ومن الدول الكبرى المعادية بدون تضامنها واتحادها.
3 – الوحدة هي وسيلتهم الوحيدة ليكونوا قوة عالمية عظمى يهابها القريب والبعيد.
4 – فشلت جميع الهويات البديلة والمادون قومية، كما نرى في سورية والعراق والسودان واليمن وصولا الى موريتانيا.
5 – يوما بعد يوم وبفضل تطور وتجذر الوعي بوحدة العرب، وبفضل العوامل الكونية، وعلى رأسها ظاهرة العولمة وافرازاتها تتشكل تيارات جديدة نخبوية ومجتمعية وسياسية في كل الاقطار تؤكد وحدة (الأمة العربية) ووحدة الهوية القومية ووحدة المصلحة، وسقطت بالمقابل موجة التيارات التي ظهرت ودعت للاعتراف بالهويات القطرية قبل عدة عقود.
6 – التحديات التي مثلتها اسرائيل سابقا، وإيران وتركيا لاحقا، أيقظت العرب عموما من غفلتهم، وأعادتهم الى التنبه لخطورة تفرقهم القطري واستمرار التجزئة القائمة.
7 – بروز التكتلات الكبرى على الصعيد الدولي: الاتحاد الاوروبي، الاتحاد الافريقي، الاتحاد الأوراسي، الاتحاد الامريكي الجنوبي.. إلخ ترجمة لوعي عالمي بأنه لا مكان ولا حياة للدول الصغيرة بين المجموعات الضخمة.
هذه التحولات التي اختمرت وتفاعلت في الوعي العربي الجديد بين الفئات الشابة بدأت تظهر الى العلن وتتراءى عبر ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي بين العراق ولبنان والسودان والجزائر، فضلا عن سورية.
ولا بد من القول إن الربيع العربي منذ الموجة الأولى عام 2010 أكد انتقال تيارات الوعي القومي بين الشعوب العربية كافة كما ينتقل السائل في الأواني المستطرقة أو كما تنتشر أشعة الضوء في كل الاتجاهات في وقت واحد، حتى لا نقول كما تنتشر العدوى في البيئة الواحدة.
العرب اليوم جميعا بغالبيتهم الساحقة يؤمنون ايمانا عميقا بالعروبة وبحتمية قيام الوحدة كاملة، أو قيام تعاون عربي حقيقي على كافة الأصعدة وفي كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولو بالتدريج بأنهم أمة واحدة لا بد أن يتجمعوا في كيان واحد.
والواقع أن هذا التحول التاريخي بدأ تشكله الحقيقي في الخمسينات، ولعبت فيه التجربة الاولى بين مصر وسورية دور الريادة، ولعبت فيه الثورة المصرية (الناصرية) دور القيادة التاريخية الرائدة أيضا. ويغيب عن وعي كثيرين من العامة أن تلك التجربة التي يصفها البعض بالفاشلة ويبنون على فشلها المزعوم نتائج ونظريات ذات طابع أيديولوجي دائم يتجاهلون أنها بالمنظور العلمي نجحت نجاحا كبيرا، لأنها هي التي صهرت العرب وصهرت وعيهم القومي وقضت الى الأبد على بقايا العصبيات القطرية والقبلية والعرقية والدينية التي سادت في حقب الانحطاط والتجزئة الموروثة من عهود الاستعمار والهيمنة الاجنبية.
وهذا التحول العميق في الوعي لم يكن ممكنًا له أن يظهر خلال سنوات قليلة، إنه مثل أي تحول تاريخي يحتاج عقودًا حتى يتكون ويكتمل. وعلى هذه القاعدة فما نراه اليوم من ظواهر قومية مشعة وجديدة أجزم أن بدايات تشكلها تعود الى الخمسينيات، مرحلة التألق القومي العارم. وعليه أيضا فلا يصح موضوعيًا القول إن الوحدة السورية – المصرية، أو الناصرية، أو الحركة القومية عموما قد فشلت، بل ينبغي القول موضوعيًا أنها نجحت وحققت معظم مستهدفاتها المرحلية.