نجحت الرباط. بعد أزمة دامت 15 شهراً مع مدريد، اختار رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز أخيراً تأييد المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء الغربية، والتي تسعى إلى وضع حد لهذا النزاع دون اللجوء إلى استفتاء حق تقرير المصير الذي تنادي به جبهة البوليساريو، بمساندة من الجزائر.
كتب رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز في رسالة بالفرنسية إلى العاهل المغربي محمد السادس، مؤرخة 14 مارس/آذار 2022: “تعتبر إسبانيا المبادرة المغربية للحكم الذاتي الأرضية الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل حلّ النزاع” في الصحراء الغربية. ولم يعلم الإسبان -ولا سيما أفراد الحكومة- بهذا التغيير في الموقف الإسباني سوى بعد أربعة أيام من هذا التاريخ، عندما نشر الملك المغربي فحوى الرسالة. من خلال هذه الخطوة، يتجاوز سانشيز حتى موقف ألمانيا وفرنسا، إذ ذكّرت وزارة الخارجية الفرنسية في 23 مارس/آذار أن المبادرة المغربية تُعتبر “أرضية” (للمضي في طريق حلّ النزاع)، لكنها ليست “الأرضية الأكثر واقعية” التي ستُبنى عليها نقاشات “جدية وذات مصداقية”. والفرق ليس بالهيّن.
في صفوف الديمقراطيات الغربية، يُعتبر الموقف الأمريكي الأكثر انحيازا للمغرب، بعد ما اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة الرباط على الصحراء الغربية. أما إسبانيا، فقد كانت دائما -على غرار فرنسا- تساند المغرب في هذا الملف، بيد أنها لم تكن تعترف بذلك علناَ وكانت تتظاهر بشيء من الحياد، والدليل على هذه المساندة السرية هو تعاون محامي الدولة الإسبانية مع محامي الجمعيات المغربية للدفاع عن شرعية اتفاقيات الجمعيات والصيد البحري بين المفوضية الأوروبية والمغرب أمام المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي. لكن المبادرة لم تكن سوى مضيعة للوقت، فقد أبطلت المحكمة هذه الاتفاقيات موفى سبتمبر/أيلول 2021.
لم تكن هذه المساندة الإسبانية كافية بالنسبة للمغرب، بل كان على مدريد أن تعبّر على ذلك بكل وضوح. فكون إسبانيا القوة الاستعمارية السابقة لهذه المنطقة التي تعادل مساحتها مساحة المملكة المتحدة يجعل موقفها أكثر أهمية. كما أن لها ثِقلها في هذا الملف، ما يغذي أمل الرباط بأن تقتفي أثرها بلدان أوروبية أخرى أو حتى من أمريكا اللاتينية.
لم يتهاون المغرب في الضغط على مدريد منذ تاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، الذي اعترف فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ“مغربية” الصحراء الغربية. يومئذ، ألغت الرباط القمة بين الحكومتين المُقرر عقدها في 17 ديسمبر/كانون الأول. ولم يكن ذلك سوى غيض من فيض الضغوطات التي ستتعرض إليها إسبانيا.
ورقة الهجرة
من أهم تلك الضغوطات، نذكر تدفق أكثر من 10 آلاف مهاجر غير نظامي يومي 17 و18 مايو/أيار 2021 إلى مدينة سبتة -سباحةً بالنسبة للأغلبية-، من بينهم 20٪ قاصرون، وقد غرق منهم اثنان. كما كانت هناك خطوات عديدة أخرى، مثل التعطيل المطوّل لحركة الركاب عبر مضيق جبل طارق، بينما كانت السفن الناقلة للمسافرين تغادر من مرسيليا أو سيت أو جنوة نحو موانئ المغرب. وكان الثلاثة ملايين مهاجر مغربي الذين يعبرون إسبانيا كل عام للعودة إلى وطنهم الضحايا الجانبية لهذا القرار الصادر عن الرباط.
دائما في ملف الهجرة، وجب الإشارة إلى الوصول غير المنقطع للـ“حرّاقة” (أي المهاجرين غير النظاميين) لجزر الكاناري، والذي بلغ أرقامًا قياسية في الشهرين الأولين لسنة 2022، حيث ارتفع بنسبة 135% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية. وباستثناء قارب واحد، انطلقت كل القوارب التي وصلت إلى الأرخبيل إما من جنوب المغرب أو من الصحراء الغربية، وفق ما أفادته تقارير سرية لوزارة الداخلية الإسبانية. كما علّقت الرباط عمليات استعادة مهاجريها منذ مارس/آذار 2021، علمًا وأنها لم تكن تقبل بهم قبل ذلك التاريخ إلا على مضض، بمعدل لا يتجاوز 80 في الأسبوع، وحصريا القادمين من لاس بالماس والمتجهين نحو عاصمة الصحراء الغربية لعيون.
بلغ ضغط الهجرة ذروته مطلع شهر مارس/آذار في مليلية، حيث قام مهاجرون أفارقة جنوب الصحراء بهجومين عنيفين وواسعين أديا إلى إصابة 53 عنصراً من رجال الدرك المدنيين. وقد شارك حوالي 2500 منهم في هجمة الثاني من مارس/آذار، وهي سابقة في تاريخ المدينة. إجمالاً، تمكن قرابة 900 مهاجر من القفز على السياج ودخول هذه المدينة ذات الغالبية المسلمة والتي يبلغ عدد سكانها 85 ألف نسمة. ولا يلجأ أفارقة جنوب الصحراء إلى العنف إلا عندما يتعلق الأمر باجتياز السياج، أما بعد دخولهم، فهم لا يخلّون أبداً بالنظام العام.
تفاوض سرّي
تسارعت المفاوضات السرية التي قادها وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس مع نظيره المغربي ناصر بوريطة بعد تحرّك هؤلاء المهاجرين. وقد لعب فيها ميغيل أنجيل موراتينوس، الممثل السامي للأمم المتحدة لتحالف الحضارات، دورًا مهمًا وراء الكواليس، إذ شجع الأخير المغرب -عندما كان وزير خارجية إسبانيا- على تقديم خطة للحكم الذاتي، وفقاً للرسائل الدبلوماسية الأمريكية التي نشرها موقع ويكيليكس في ديسمبر/كانون الأول 2010. وعندما قدّمت الرباط أخيراً هذه الخطة سنة 2007، بدا موراتينوس محبطاً لأن لمبادرة لم تكن “سخيّة” بما يكفي تجاه الصحراويين، وفق نفس المصدر.
بدأت نتائج تحوّل الموقف الإسباني تلوح في 7 أبريل/نيسان 2022. فقد تحوّل بيدرو سانشيز إلى الرباط لتقاسم وجبة الإفطار مع الملك. وفي نهاية الأمسية، أصدر الطرفان بيانًا يعبّر -على غرار رسالة سانشيز- عن دعم إسبانيا للحكم الذاتي. وتشكل النقاط الـ 16 من النص خارطة طريق تعرض إنشاء مجموعات عمل لحلّ النزاعات، بدءًا بقضية المياه الإقليمية أو المجال الجوي.
تنازلات حول سبتة ومليلة
استنتجت الصحافة الإسبانية من خلال المادة الثالثة للبيان الصحفي والتصريحات اللاحقة لرئيس الحكومة الإسبانية -وليس للمسؤولين المغاربة- أن الرباط ستقدم بدورها تنازلاً، من خلال إعادة فتح مكتب الجمارك في مليلية الذي تم إغلاقه دون سابق إنذار في الأول من أغسطس/آب 2018، وافتتاح مكتب آخر في سبتة، وهي سابقة منذ استقلال المغرب في عام 1956. إن تأكدت هذه الموافقة المزدوجة، فهي لا تعني بأي حال من الأحوال الاعتراف بالسيادة الإسبانية على هاتين المدينتين الشماليتين، أو حتى “احترام وحدة الأراضي” التي ذكرتها الحكومة الإسبانية في بياناتها الصحفية. لكن يبدو أن المغرب ينوي التراجع عن خنقهما اقتصاديًا كما كان يفعل منذ ستة أعوام.
كما سيُعاد فتح الحدود البرية لسبتة ومليلة مع المغرب ولكن بشروط مختلفة، وذلك بعدما أُغلقت منذ مارس/آذار 2020 بسبب الجائحة في أول الأمر، ثم لأسباب سياسية. تريد إسبانيا بأي ثمن تجنب الانزلاق مرة أخرى نحو الفوضى التي سادت هناك قبل عامين. وقد كانت هذه الحدود الأكثر ازدحامًا في أفريقيا لأن بوسع سكان المقاطعات المجاورة -تطوان والناظور- الدخول فقط ببطاقة هوية. تسلّل العديد من المهاجرين غير الشرعيين إلى المدينتين، وتقدموا بطلبات لجوء، وبمجرد تقديمهم لهذا الملف، يسعهم السفر بشكل قانوني إلى الأراضي الإسبانية الأوروبية. “لقد كانت مدن المرور” للمهاجرين، كما يوضح مفتش شرطة كان يعمل هناك.
تُضاف إلى مخاوف وزارة الداخلية مخاوف عمدتي المدينتين. يؤكد إدواردو دي كاسترو، عمدة مليلية المنتخب بدعم من حزب مسلم محلي، عبر الهاتف: “تم تصميم مستشفياتنا على أنها لمدن صغيرة. لا نستطيع العودة إلى الوضع السابق، عندما كانت أقسام الاستعجالي وغرف الولادة مليئة بالمغاربة”. ويضيف عضو سابق في مجلس المدينة: “قبل ثلاث سنوات، كانت بعض أقسام مستشفانا في مليلية تعمل بنفس الوتيرة التي يعمل بها المستشفى الرئيسي في سرقسطة”، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها 667 ألف نسمة.
يسود لدى بعض الدبلوماسيين الإسبان ذوي الخبرة الطويلة في المغرب شعور بأن إسبانيا توصلت إلى هدنة، لكن ليس إلى السلام الأبدي. في غضون أشهر قليلة، ربما بعد الانتخابات التشريعية لعام 2023، ستعود الرباط إلى الواجهة بمطالب أخرى. ففي النهاية، وكما قال ناصر بوريطة بعبارات مبطنة، فهو يريد من أوروبا “الخروج من منطقة الراحة الخاصة بها” لتقتدي بالنموذج الأمريكي، أي الاعتراف الكامل بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
أزمة مفتوحة مع الجزائر
صحيح أن الدبلوماسية الإسبانية أنهت الأزمة مع المغرب، لكنها بدأت أزمة أخرى مع الجزائر. فغداة نشر رسالة سانشيز للملك، استدعت الجزائر سفيرها في مدريد سعيد موسي للتشاور. وقد عبّر السفير المكلف بمراقبة الصحراء الغربية بوزارة الخارجية عمار بلاني عن استيائه في أعمدة جريدة TSA قائلاً: “فقدت إسبانيا بيدرو سانشيز روحها من أجل طبق من العدس”. كما أوضحت السلطات الجزائرية عبر وسائل الإعلام أنها بصدد تشديد مطالبها في المفاوضات بشأن زيادة أسعار الغاز الذي تسلمه الجزائر لإسبانيا عبر خط أنابيب الغاز ميدغاز. كما رفضت وزارة النقل طلب شركة طيران “إيبيريا” زيادة رحلاتها إلى الجزائر العاصمة.
استرضاءً للجزائر، طردت وزارة الداخلية الإسبانية في 24 مارس/آذار العريف المنفي في إسبانيا منذ عام 2019 محمد بن حليمة، وذلك عبر رحلة خاصة إلى مدينة شلف. وكان القضاء الجزائري يطالب بتسليمه بعد أن حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات بتهمة الإرهاب. وكان بن حليمة -المقرّب من حركة “رشاد” الإسلامية- ندد على موقع يوتيوب بالفساد داخل القوات المسلحة الجزائرية، ولم يُمنح حق اللجوء في إسبانيا. وهو أول جزائري يُرحَّل بالطائرة من أجل أن تُظهر مدريد حسن نواياها، حيث كانت عمليات الترحيل إلى الجزائر تتم حصراً عن طريق القوارب. ولم تقم أي دولة أوروبية أخرى بطرد نشطاء “رشاد” وإرجاعهم إلى الجزائر.
البرلمان الإسباني في مواجهة سانشيز
على الصعيد الداخلي، يدفع سانشيز ثمن انحيازه للمغرب باهضاً. فقد اقترحت حركة “بوديموس” اليسارية -والتي هي جزء من التحالف الحكومي- بمعية حركتين قوميتين من إقليم الباسك وكتالونيا، قراراً برلمانيا صوّت عليه النواب يوم الخميس 7 أبريل/نيسان، بينما كان رئيس الحكومة يتوجه إلى الرباط، للتأكيد على مساندة البرلمان لقرارات الأمم المتحدة في ملف الصحراء الغربية. وقد حصل الاقتراح الذي اعتُبر تنديداً بموقف رئيس الحكومة على 168 صوتًا، بما في ذلك أصوات حزب الشعب اليميني، بينما امتنع حزب “فوكس” التابع لليمين المتطرف (51 صوتًا) عن التصويت، ليجد حزب سانشيز الاشتراكي نفسه وحيدًا في معارضة ذلك القرار بـ 118 نوابًا. كما اعترف بعض هؤلاء أمام الكاميرات بأنه ليس لديهم خيار آخر سوى احترام انضباط التصويت.
لا تعني هذه النتيجة أن الأمور ستتغيّر في حال وصول الزعيم الجديد لحزب الشعب ألبرتو نونيز فيجو إلى السلطة مع الانتخابات التشريعية لعام 2023. بل من المرجح أنه لتجنب حدوث أزمة جديدة مع الرباط، ستستمر الدبلوماسية الإسبانية في دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي.
إغناسيو سيمبريرو صحافي إسباني غطى المنطقة المغاربية لصالح جريدة الباييس لمدة 14 سنة، ويعمل حاليا لمنافستها ألموندو. هو صاحب كتاب
المصدر: موقع أوريان21