رأت دول عربية، خليجية بشكل رئيس، في التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، فرصة للرد على الموقف الأميركي المستهين بما تعدّها مصالحها الوطنية، إنْ بتوجه الإدارة الأميركية (الديمقراطية) إلى الاتفاق مع جمهورية إيران الإسلامية بشأن برنامجها النووي، بمعزل عن سياسة الأخيرة وتدخلها في شؤون دول الجوار؛ وعن برنامجها العسكري، الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، أو في موقفها من الحوثيين واعتداءاتهم على الأراضي السعودية والإماراتية، أو في تمسّكها بمعايير حقوق الإنسان في الحكم على سياساتها. وقد جاء الرد بعدم الاستجابة لطلب الإدارة الأميركية إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا؛ تبنّت موقفاً محايداً، لكنّه يصبّ في مصلحة روسيا، وتمنُّع السعودية والإمارات عن تلبية طلب الإدارة الأميركية زيادة إنتاجهما من النفط، لاحتواء ارتفاع الأسعار وتأمين فائض نفطي يتيح فرض عقوبات على النفط الروسي وإبقاءهما على مستوى الإنتاج المتفق عليه بين دول “أوبك” وروسيا، تحالف “أوبك+”.
تحوّل الموقف مع الإدارة الأميركية إلى معركة عضّ أصابع لم يفلح وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، خلال زيارتيه للبلدين واجتماعاته مع قياداتهما في تنفيس الاحتقان وجسر الهوة، فقد بقيت المواقف بين الطرفين متباعدة، وزادها سخونة وتعقيداً توجه دول عربية بالاتفاق مع إسرائيل إلى تشكيل تحالف ضد إيران، في توجه يعاني من نقطة ضعف بنيوية: تناقض مصالح جوهري بين أطرافه، كما كشفته صراعاتها في ملفات أخرى، ووجود طرف طامح إلى السيطرة والهيمنة، إسرائيل، على حساب مصالح بقية الأطراف، مستغلاً هواجسها ومخاوفها من إيران، ومن تبعات انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا، على الضد من التوجه الأميركي.
لم يكن الخلاف على الموقف من الغزو الروسي لأوكرانيا الأول بين الطرفين، فقد سبقه الخلاف على الموقف من إيران وسياستها الإقليمية العدوانية، وتسامح الإدارة الديمقراطية السابقة، برئاسة باراك أوباما، مع هذه السياسة، وعقدها اتفاقاً مع إيران بشأن برنامجها النووي، ليس بمعزل عن هذه السياسة العدوانية، بل ومع تفهمها وغضّ النظر عن انعكاساتها السلبية على دول الإقليم، بمن في ذلك حلفاؤها العرب. وهذا حفّز هذه الدول على البحث عن بديلٍ أمني للولايات المتحدة التي لم تعد محلّ ثقةٍ، بعدما تجاهلت احتياجات حلفائها الأمنية، ولم تقم اعتباراً لتحالف قديم ومديد معها، فتوجهت أنظمة السعودية والإمارات ومصر والسودان إلى إقامة علاقات تجارية وعسكرية مع الصين وروسيا، بما في ذلك شراء أسلحة صينية، صواريخ باليستية بعيدة المدى وطائرات مسيّرة، بالنسبة للأولى، وطائرات مسيّرة وطائرات هجومية خفيفة من طراز “آل 15″ وأسلحة روسية، بالنسبة للثانية، 6% من مشترياتها العسكرية روسية. وصفقات أسلحة روسية، وإنشاء روسيا مفاعلاً نووياً في منطقة الضبعة (في مصر) بكلفة تفوق عشرين مليار دولار، يغطّيها قرض روسي طويل الأمد، بالنسبة للثالثة، أكثر من 40% من مشترياتها العسكرية من روسيا. وتحريك اتفاقٍ سابقٍ على إقامة قاعدة عسكرية روسية على الساحل السوداني على البحر الأحمر وبيع ذهب لروسيا، بالنسبة للرابعة. وتوجُّه السعودية والإمارات إلى رفع مستوى المناكفة مع الإدارة الأميركية عبر تطوير العلاقات مع الصين، إذ باشرت الأولى تصنيع طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية صينية على أراضيها، وانخرطت في مفاوضاتٍ معها حول تقاضي ثمن نسبة من النفط المصدر إليها باليوان الصيني. وغامرت الثانية في منح الصين حق إقامة قاعدة عسكرية على سواحلها في الخليج العربي، أوقف المشروع بضغط أميركي كبير.
لقد تعدّدت أسباب خلاف هذه الدول مع الإدارة الأميركية ومبرّراته، فخلاف السعودية والإمارات معها يعود، بشكل رئيسي، إلى موقف الإدارة من البرنامج النووي الإيراني وسياسة إيران الإقليمية وتدخلها في شؤون دول عربية عبر أذرعها الطويلة (الحرس الثوري الإيراني، حزب الله اللبناني، الفصائل الولائية في الحشد الشعبي العراقي، أنصار الله/ الحوثيون)، ومن الحوثيين واعتداءاتهم على الأراضي السعودية والإماراتية. هذا بالإضافة إلى اعتراضها على وضع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان من السلطات في الدولتين. في حين أنّ أساس خلفية خلاف نظامي مصر والسودان مع الإدارة الأميركية موقفها من تجاوزاتهما وانتهاكاتهما حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وقتل المعارضين تحت التعذيب بالنسبة للنظام المصري، وقتل المتظاهرين واغتصاب المتظاهرات بالنسبة لنظام المجلس العسكري السوداني.
لا تكمن مشكلة الدول العربية المذكورة أعلاه في تجاهل الإدارة الأميركية الحالية أمنها الوطني ومصالحها الحيوية بل في تصورها لطبيعة التحالفات وسبل تحقيق المصالح الوطنية، من جهة، وفي نمط خياراتها لمواجهة التحديات، من جهة ثانية، فدول الخليج الغنية بالنفط وعوائده الكبيرة من البترودولار وضعت إمكانياتها الإنتاجية، رفعاً أو خفضاً للإنتاج، وعوائدها المالية الكبيرة، في خدمة المخططات الغربية بشكل عام، والأميركية بشكل خاص عبر الاستثمارات الكبيرة في اقتصادات هذه الدول؛ وفتح سوقها لشركاتها للعمل في تنفيذ مشاريع بنى تحتية كبيرة الربحية؛ وشراء كميات أسلحة أكثر من حاجتها، كمّاً ونوعاً، مقابل الحماية الأمنية من التحرّكات المضادّة الداخلية والخارجية؛ وتصرّفت على قاعدة أبدية هذه الصفقة، متجاهلةً الفرق الجوهري بين تصوّراتها لمصالحها، وأساسه مركزيتها في هذا التحالف وأولوية مصالحها، وتصورات الولايات المتحدة مصالحها وأمنها القومي، في ضوء أنها قوة عظمى حساباتها كونية ترتبط بمعادلاتٍ كونيةٍ أكثر من ارتباطها بتغيرات محلية أو إقليمية ضيقة، ما يستدعي تحقيق توازنٍ بين مصالحها الإقليمية وتنافسها الدولي. يتعارض توجّه هذه الدول مع ألف باء السياسة وإدارة المصالح الوطنية، الذي يفرض تنمية الإمكانات الذاتية والتحرّر من الحاجة لضامن خارجي للأمن الوطني، فالقدرة الذاتية هي الصنو الحقيقي للاستقلال والسيادة الوطنية. لقد أضاعت عقودا وهدرت أموالاً هائلة في تنفيذ سياسةٍ خرقاء، وكان ردّ فعلها على تغيّر التعاطي الأميركي مع احتياجاتها الأمنية فعل الشيء نفسه: البحث عن حمايةٍ بديلة، فلجأت إلى استدراج حماية روسيا والصين عبر إقامة علاقات تجارية واسعة معهما، ومنحهما نفوذاً وفرصاً وازنة في بلادها والمنطقة، مع العلم أنّ الاعتماد على الخارج في توفير الأمن خدعة كُشفت مبكراً… فقد كان الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، قد برّر تبنّي خيار نووي فرنسي مستقل عام 1960 بعدم واقعية التعويل على دخول الولايات المتحدة حرباً نووية مع الاتحاد السوفييتي دفاعاً عن فرنسا، وهو ما لم تلتقطه دول الخليج العربية في تحالفها المديد غير المثمر. وخيبة أملها في الولايات المتحدة ليست أكثر من إقرار صريح بالعجز الذاتي وهدر الوقت والمال في خطط غير منطقية وفاشلة، أساسها شراء الأمن وتوظيف دول خارجية لتحقيقه، ووجدت نفسها عارية ومكشوفة.
لم تكتفِ هذه الدول بإضاعة الوقت وهدر الإمكانات المالية الكبيرة، بل عملت على إضعاف ارتباطها بالدول العربية الشقيقة، خصوصاً القريبة منها جغرافياً، وبالأمن القومي العربي، إذ اختارت مصيراً خاصاً بها بتشكيل مجلس التعاون الخليجي، بتجاهل تام لمستدعيات الأمن القومي العربي، واستبعدت دولاً عربية قريبة، كاليمن والعراق، من التحالف، واختارت تشكيله في لحظة سياسية لافتة، لحظة غرق العراق في حربه المجنونة مع إيران؛ كي تضمن عدم قدرتها على التأثير على عملية التشكيل أو المطالبة بالمشاركة فيه، موّهت فعلتها الخبيثة بمدّ العراق بدعم مالي ولوجستي خلال هذه الحرب، وقد تعمّق نهجها الانعزالي باستيراد العمالة الخارجية من دول غير عربية، وجرى استبدال العمال المهاجرين العرب في تلك البلدان بعمّال من جنوب آسيا بذريعة أنه أكثر أماناً من الناحية السياسية، إلى درجة تحوّل شعوبها إلى أقليات في أوطانهم، فغدت مجتمعاتها هجينة؛ حتى اللغة ضاعت، فالتعامل السائد في الأسواق والشركات باللغة الإنكليزية الطاغية. وها هي دولتان في الخليج ترتكبان جريمة بحق نفسيهما وحق الدول العربية الأخرى، بالتطبيع مع إسرائيل ضمن ما سميت اتفاقية أبراهام والتحالف معها بذريعة مواجهة الخطر الإيراني، وكأنها لا تعرف ماهية إسرائيل ومشروعها للهيمنة، لقد لفّت الحبل حول عنقها وعنق جوارها العربي وهي منتشية وبكامل وعيها.
أما مصر والسودان فمشكلة نظاميهما سلطوية، والعمل على تأبيد أنظمة فقدت مبرراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ضوء عجزها عن مواجهة احتياجات المجتمع المعيشية والصحية والتعليمية والخدمية، واعتمادهما القمع والقسر لمنع اعتراضات المجتمع وقواه ودفعه إلى الاستسلام للواقع المرّ والبحث عن غطاء خارجي وجداه لدى روسيا والصين اللتين لا تقيمان وزنا لحقوق الإنسان.
لم تكن الدول العربية الأخرى أحسن حالا، فقد انخرطت في صراعات جيوسياسية بينية، وحوّلت الإطار العربي، جامعة الدول العربية، إلى كيان فارغ، لا دور ولا قيمة فعلية له، فقد سادت النظرة الضيقة للمصالح، وتكرّست رؤى تهدف إلى تعزيز أنظمة ذاتية، ولو كانت شكلية وهشّة، وممارسات تتعمّد الابتعاد عن التعاون العربي بالتعاون والاستثمار خارج المحيط العربي. لقد تآكلت الروابط والعلاقات بين معظم الدول العربية، وانخرطت في صراعات بيْنية وتحالفات متعارضة ومتخاصمة، ففقدت وزنها وقدرتها على حماية أمنها الوطني، والدفاع عن مصالحها المشروعة بكفاءة.
لا يشكّل الأمن المستعار أو المُشترى بالمال حلا لحماية الأوطان وتحقيق المصالح الوطنية، لأنه خيار غير عملي، لا بد من توفير قدرات ذاتية حقيقية وتنميتها وتطويرها لتتناسب مع التغيرات التقنية والفنية وتوازنات القوى الإقليمية والدولية، وليس ثمّة ما يمنع الاستعانة بخبراتٍ عربية ودولية، لكن لتعزيز الإمكانات الذاتية وليس بديلاً لها. ولا تشكل السلطوية وصفةً ناجحةً لإدارة مجتمعاتٍ فقيرة ومحتاجة. ويبقى العامل العربي جوهريا في تعزيز الأمن العربي، عبر تبادل الخبرات وتكامل الإمكانات، وتبقى الديمقراطية والعدالة والمساواة بوابات الإبداع والنمو والازدهار.
المصدر: العربي الجديد