بعيداً عن زوابع التحليلات والاستنتاجات التي يمكن أن تعقب لقاء النقب المنعقد في الثامن والعشرين من آذار 2022 ، الذي جمع وزراء خارجية أمريكا وإسرائيل والإمارات ومصر والبحرين والمغرب، يمكن الوقوف عند عبارة صرّح بها وزير خارجية الكيان الصهيوني( يائير لبيد) في أعقاب اجتماع ( سدية بوكر) إذ قال: ( نكتب التاريخ هنا، ونؤسس لبنية جديدة قائمة على التقدم والتكنلوجيا والتسامح الديني والاستخبارات). ربما يوحي كلام الوزير الإسرائيلي إلى حالة من الزهو حيال مُنجز تمثل بموجة جديدة من التطبيع العربي مع إسرائيل، وأعني الخطوة التي قامت بها كل من الإمارات والبحرين تجاه إسرائيل في إيلول من العام 2020 ، ولكن على أية حال، فإن مبعث الزهو الإسرائيلي لا يستمد مصداقيته من ( صنع التاريخ والتسامح الديني ) كما زعم مائير لبيد، فتلك كذبة بل فرية كبيرة على التاريخ، ولو كان الوزير الإسرائيلي قد خالف طبعه واقترب قليلاً من الصدق، لَجَهر بالقول: إن مبعث نشوتي – أيها الوزراء الأصدقاء – تكمن في أن إسرائيل تحوّلت من دور العصا الوكيلة بيد الشرطي الأمريكي في منطقتكم إلى شرطي أصيل بذاته. إذ لا يفوت الوزير الإسرائيلي أن ما دفع أصدقاءه الوزراء الذين يباركون له لحظة زهوه، هو خوف دولهم الذي بدا يتنامى بقوة، بالتوازي مع المفاوضات القائمة بين طهران والغرب حول الملف النووي الإيراني، إذ كلما ازداد منسوب التفاؤل بالوصول إلى إعادة الاتفاق الذي أبرمته حكومة أوباما وشركاؤها الأوربيون عام 2015 مع طهران، كلّما ازداد منسوب الخوف ارتفاعاً لدى العديد من الأنظمة العربية، لاعتقادها بأن التفاهم النووي المومأ إليه سيشرّع لعلاقة جديدة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الغربيين، ومن شأن هذه العلاقة المُتوقَعة أن تضفي الشرعية على ( الزعرنة الإيرانية ) التي باتت تقض مضاجع الحكام العرب، ومن هنا قد تجيز العديد من أنظمة الحكم العربية لنفسها البحث عن مجُير آخر – غير الأمريكي – لكي تستظل بعصاه من سطوة الخطر الإيراني، وذلك استناداً إلى موقف إسرائيل الرافض لعودة الاتفاق النووي بين إيران وخصومها الغربيين.
لعله لا جِدّة في تكرار القول بأن الهاجس الأمني ( أمن أنظمة الحكم ) هو الموجّه الأساسي لسياسات أنظمة الحكم العربية، بل هو المُحدّد لرسم أولوياتها الاستراتيجية، ولكن على الرغم من ذلك، كان يمكن لهذا الشاغل الأمني لتلك الحكومات، أن يكون دافعاً للسعي نحو إيجاد منظومات أمن وطني تنبثق من حاجات وطنية، ولا تستثني بالضرورة أمن ومصلحة نظام الحكم، أعني منظومات أمنية تتوخى مكامن أو مصادر الخطر الحقيقية، ومن ثم تعمل على بناء استراتيجية مناسبة للمواجهة، أو كان يمكن لهذا الشاغل الأمني أيضاً أن يكون حافزاً لإيجاد شراكات أمنية قائمة على مصالح حيوية متبادلة، لها صفتا الندّية والديمومة، إلّا أن واقع الحال كان يفصح على الدوام عن إيثار شديد للبناء على الأوهام، ومهما كانت الدوافع الكامنة وراء التمسّك بالوهم، إلّا أن الاستمرار بالبناء عليه إنما هو جذر المشكلة التي لا تتوقف تداعياتها الكارثية على الأنظمة التي تبحث عن شراكات إستراتيجية مع الكيان الصهيوني فحسب، بل على المنطقة برمتها.
لعل القناعات التي تفضي إلى أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد أولوية أمريكية، وأن إدارة أوباما – اليوم – تتوجه بقوة نحو تقويض الطموح الروسي من جهة، ومواجهة الغول الاقتصادي الصيني من جهة أخرى، فضلاً عن توجهاتها حيال الداخل الأمريكي، وهذا ما يدفعها إلى تقنين مواجهتها لإيران من خلال سياسة الاحتواء بدلاً من المجابهة، ربما هذه القناعات وسواها كانت وراء البحث عن مظلة أمنية وعصا واقية لبعض الدول، من الخطر الإيراني الذي سيتعاظم في ظل غياب الرادع ، وربما تكون إسرائيل هي الوريث المناسب للرادع الأمريكي المنزاح أو المستقيل، ولكن قبل المضيّ في التفكير بماهيّة الرادع الإسرائيلي الوريث، يجب التساؤل عمّا حققه الرادع المورّث ( الأمريكي) بخصوص مواجهة السياسات العدوانية الإيرانية، فمنذ وصول الخميني إلى السلطة 1979 وحتى اللحظة الراهنة، موازاة مع تعاقب الإدارات الأمريكية في البيت الأبيض بمختلف أشكالها، استطاعت إيران التوغّل في عدد من الدول العربية إلى درجة التحكّم بالبنى الأمنية والمرافق الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول ( سورية ولبنان والعراق واليمن)، وما تزال العصا الإيرانية تطال بالشر والعدوان المملكة العربية السعودية على مدى سبع سنوات، فما الذي فعلته المظلة الأمنية الأمريكية حيال التوحش الإيراني على مدى أكثر من أربعين سنة؟ وهل دعوة إيران للمفاوضات والمساومة على رفع صفة الإرهاب عن الحرس الثوري الإيراني سوى مكافأة لإيران على سلوكها العدواني حيال جيرانها العرب؟
لعل الإصرار على الاعتقاد بوجود عداء جذري بين شرطي الشرق الأوسط الجديد ( إسرائيل ) والأزعر التقليدي الإيراني يجسّد جانباً كبيراً من المشكلة، وذلك على الرغم من التأكيدات الإسرائيلية بأن وجه الخلاف بينهما هو حجم النفوذ وليس الوجود، أليست روسيا هي من يقوم بدور المنسق بين إسرائيل وإيران حول تموضع الميليشيات الإيرانية في سورية، وهل تقوم إسرائيل باستهداف ميليشيات إيران داخل الجغرافية السورية إلّا حين تتجاوز الأخيرة الخطوط المتفق عليها؟ ثمة مفارقة لعلها باتت مبتذلة من جهة تكرارها، إلّا أنها تصلح للإجابة على هكذا تساؤلات، إذ لقد نما الخطاب السياسي الإيراني واكتسى كثيراً من التعاطف والجماهيرية نتيجة الاشتغال على أكذوبة أريد لها أن تصبح حقيقة، ثم جاءت ثورات الربيع العربي فكشفت زيف هذا الخطاب الذي وجد ترجمة شعاراته المعادية لإسرائيل بقتل المزيد من السوريين وبمناهضته لجميع ثورات الحرية، وبالمقابل فإن إسرائيل التي ترى في شيطنة إيران سبيلاً لتعزيز القناعة بأنها تحارب الإرهاب، لا ترى سلامةً لأمنها القومي سوى بالحرص على نظام الأسد ورفض استبداله أو تغييره، مع إقرارها بأن استمراره في السلطة هو استمرار لحرب إبادة بحق السوريين.
دون الدخول في حيّز النوايا والاتهامات ، يمكن القول: إن استمراء الوهم بات حيلةَ من لا حيلة له، وخاصة حين يقع التفكير في لوثة عدم التمييز بين الشيء وماهيته، فالقول بأن إسرائيل هي كيان عنصري اغتصب دولة عربية وشرّد أهلها ومارس بحقهم كل أشكال التنكيل وانتهك جميع ما تقرّه الشرائع والمواثيق الدولية حول حقوق الإنسان وكرامته، لهو حقيقة وليس اتهاماً أو تخميناً، وكذلك القول بأن إيران هي دولة ذات نزوع عدواني توسعي تهدف إلى الهيمنة على الآخرين والتحكم بمصيرهم ومقدراتهم، بل ولا تتوانى عن ممارسة الإبادة البشرية في سبيل تحقيق نزوعها التوسعي، لهو أمر واقع أيضاً وليس اتهاماً أو استنتاجاً، بل إن ما تمارسه ميليشيات إيران بحق سكان الريف الدمشقي من اقتلاع من البيوت والاستيلاء عليها ، هو ذاته ما يمارسه المستوطنون الصهاينة بحق سكان فلسطين الأصليين، وإذا كان الطرفان يجسدان إرهاباً مفتوح الأمد على شعوب المنطقة، بل على ثورات الشعوب على وجه الخصوص، فهل يوجب علينا ذلك أن نجعل من أحدهما شيطاناً والآخر ملاكاً؟ ولئن كان الغاصب الإسرائيلي والقاتل الإيراني يتفاوتان من حيث درجة القذارة، فهل خيار التحرر ومقاومة العدوان والتطلع إلى الحرية مرهون بالمراوحة بين القذارات، أم عليه البحث عن السبل الأكثر تماهياً مع تطلعاته وأهدافه؟.
المصدر: تلفزيون سوريا