بعد سبع سنوات من خروجها عن سيطرة النظام السوري، تبدو الأوضاع في محافظة إدلب شمال غربي سورية، والمحكومة بتفاهمات روسية تركية، مفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل هيمنة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) على هذه البقعة الجغرافية الضيقة التي تضم أكثر من 4 ملايين نسمة يعانون الفقر والبطالة وانعدام الأمل.
سيطرة “هيئة تحرير الشام” على إدلب
أواخر مارس/آذار من عام 2015، سيطرت فصائل سلفية، كانت منضوية في ما كان يُعرف بـ”جيش الفتح”، على مدينة إدلب، مركز المحافظة التي تحمل الاسم ذاته، بعد معارك لم تستمر طويلاً مع قوات النظام التي تراجعت سريعاً.
وكانت السيطرة على مدينة إدلب حدثاً بدّل الكثير من معادلات الصراع في سورية، وهو ما دفع النظام للاستنجاد بالجانب الروسي في سبتمبر/أيلول من ذلك العام، ليترتّب على هذا التدخّل تمركز مسلحي “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب نتيجة “صفقات” مع النظام.
فرضت “الهيئة” سيطرة كاملة على محافظة إدلب في منتصف عام 2017، حين طردت حركة “أحرار الشام” عن معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
وتبدو إدلب اليوم معقلاً لهذه “الهيئة”، التي تدور في فلكها مجموعات أكثر تشدداً تنتشر في عدة مناطق ضمن محافظة إدلب، وعملت الهيئة خلال العامين الأخيرين على تحييدها في محاولة لتسويق نفسها على أنها مشروع يمكن التفاهم معه من قبل الأطراف الفاعلة في الملف السوري.
وينحصر وجود فصائل المعارضة السورية في بعض المقار في مدن وبلدات في المحافظة، وفي نقاط تمركز على خطوط التماس مع قوات النظام في ريف إدلب الجنوبي.
وتعد إدلب من المحافظات السورية الصغيرة لجهة المساحة، والتي تبلغ نحو ستة آلاف كيلومتر مربع، ليست كلها تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام”، إذ استعادت قوات النظام، أواخر عام 2019 وفي الربع الأول من عام 2020، مناطق واسعة في الريفين الشرقي والجنوبي، تضم ثلاث مدن رئيسية في المحافظة هي: خان شيخون، سراقب، ومعرة النعمان.
وتدير “تحرير الشام” المناطق التي تقع تحت سيطرتها من خلال ما تسمّى بـ”حكومة الإنقاذ”، ومن خلال جهاز أمني يضم آلاف العناصر.
اتفاق موسكو بشأن إدلب والوجود التركي
وتحكم محافظة إدلب والشمال الغربي من سورية بمجمله تفاهمات روسية تركية، وُضعت في اتفاق وُقّع في موسكو في مارس/آذار 2020، عُرف بـ”اتفاق موسكو”. وقد ثبّت هذا الاتفاق وقفاً لإطلاق النار، يخرقه الروس والنظام بين وقت وآخر، خصوصاً عندما تطفو على السطح خلافات روسية تركية حول العديد من الملفات، سواء في سورية أو خارجها.
وفشل الطرفان في استعادة الحركة على الطريق الدولي حلب اللاذقية “أم 4″، الذي يخترق محافظة إدلب آتياً من محافظة اللاذقية غربي البلاد، إلى حلب كبرى مدن الشمال السوري.
وعقب “اتفاق موسكو”، أدخل الجيش التركي آلاف الجنود إلى محافظة إدلب ونشرهم في عشرات النقاط والقواعد العسكرية، لعل أبرزها قاعدة معسكر المسطومة في ريف إدلب الجنوبي، وقاعدة تفتناز الجوية (مطار تفتناز العسكري)، شمال شرق إدلب.
وباتت إدلب شديدة الأهمية للجانب التركي على مختلف الصعد، وهو ما يفسر دفع آلاف الجنود الأتراك إليها، فالسيطرة على الشمال الغربي من سورية المتاخم لجنوب تركيا، تمنع حدوث موجات هجرة كالتي حدثت في عام 2015، وتعطي أنقرة أوراق قوة تعزز حضورها في المشهد السوري المعقد.
وضع كارثي في إدلب
في السياق، أكد صحافي مقيم في إدلب طلب التعريف عنه باسم محمد الأموي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “كل شيء في محافظة إدلب للعسكر. إنهم يستأثرون بكل شيء؛ بالمعابر والاقتصاد”.
ووصف حال أكثر من 4 ملايين شخص يعيشون تحت سلطة “هيئة تحرير الشام” هناك بـ”الكارثي”، حيث “البطالة والفقر”، مضيفاً: “المال بيد قلة قليلة من التجار المرتبطين بشكل أو بآخر بهيئة تحرير الشام”.
وأشار المتحدث نفسه إلى أن “هيئة تحرير الشام تحتكر قطاع المحروقات في شمال غرب سورية عن طريق شركة وتد، كما تحتكر قطاع الصيرفة”.
وأوضح أن “الهيئة” تسيطر على المعابر التي أقامتها مع مناطق سيطرة “الجيش الوطني” المعارض في شمال سورية، وأبرزها: معبر دير البلوط مع منطقة “غصن الزيتون” (عفرين ومحيطها)، ومعبر الغزاوية مع منطقة “درع الفرات” (في ريفي حلب الشمالي والشمالي الشرقي).
واستبعد الأموي حصول انفجار شعبي في المدى المنظور في المناطق الخاضعة لـ”تحرير الشام” في محافظة إدلب، “لأن الناس متوجهة لتأمين لقمة العيش، ولا أظن أنها متفرغة في الوقت الراهن لشيء آخر”.
لكنه استدرك بالقول “خلال 11 عاماً (بعد انطلاق الثورة ضد النظام)، حدث في سورية ما لا يخطر على بال، ومن ثم كل شيء ممكن في إدلب. مستقبل هذه المحافظة مفتوح على كل الاحتمالات، وهذا الأمر يُخيف كثيرين”.
واعتبر الأموي أن “من مصلحة الروس والأتراك بقاء الحال في إدلب كما هي عليه في الوقت الراهن”، مضيفاً أنه “لا مصلحة للجانبين بأي صدام بين قوات النظام والفصائل في المحافظة، فأي تقدّم لهذه القوات يعني كارثة إنسانية جديدة، فهذه الملايين ترفض بالمطلق العودة لسلطة النظام تحت أي ظرف”.
وأعرب عن اعتقاده بأن الأزمة الأوكرانية “جمّدت ملف إدلب في الوقت الراهن”، مضيفاً “أعتقد أن الأوضاع في إدلب لن تتغير قبل التوصل إلى حل سياسي في سورية”.
انخفاض المساعدات الإنسانية لإدلب
من جهته، قال محمد حلاج، مدير فريق “منسقو الاستجابة” الذي يهتم برصد الأوضاع الإنسانية في شمال غرب سورية، إن “الأوضاع الإنسانية باتت أضعف اليوم مما كانت عليه في الأشهر الأولى بعد تحرير إدلب في عام 2015”.
وأضاف في حديث مع “العربي الجديد”: “بعد تحرير مدينة إدلب، دخل الكثير من المنظمات الإنسانية التي كانت تقدم خدمات للناس، أما اليوم ونتيجة النزوح الكبير من مختلف المناطق السورية إلى إدلب، بات العبء كبيراً، فانخفض أداء المنظمات كما انخفض التمويل الذي كان يُقدم”.
وأوضح حلاج أن التمويل الذي يقدّم من مؤتمر المانحين الذي يعقد في بروكسل لمساعدة السوريين “انخفض بشكل كبير من عام 2017 وحتى اليوم”، مشيراً إلى أن “استبدال العملة السورية بالعملة التركية في إدلب والشمال السوري أدى إلى خلخلة الاقتصاد”.
وأشار إلى أن “أسعار المواد الأساسية في إدلب ارتفعت إلى مستويات عالية جداً. واليوم أجرة العامل ربما لا تكفيه لشراء مادة الخبز لعائلته”.
وتوقع حلاج أن تزداد الأوضاع الإنسانية في محافظة إدلب سوءاً “في حال انخفاض التمويل أكثر من الدول المانحة”، لافتاً إلى أن “منتصف هذا العام يشهد انتهاء العمل بالقرار الدولي 2585 الخاص بإدخال مساعدات إنسانية عبر معبر باب الهوى وعبر خطوط التماس”.
وبيّن أن “آلاف الشاحنات الحاملة للمساعدات الدولية دخلت إلى الشمال السوري منذ أن مدد مجلس الأمن الدولي، منتصف العام الماضي، آلية إدخال المساعدات إلى سورية، في حين دخلت 29 شاحنة فقط لإدلب”.
وأضاف: “إدخال المساعدات عبر خطوط التماس كما تريد روسيا والنظام سيخلق أزمات إنسانية كبيرة، خصوصاً أن النظام غير ملتزم بآليات إدخال المساعدات. وإذا لم تمدد الأمم المتحدة قرار إدخال المساعدات عبر الحدود فسندخل في كارثة”.
المصدر: العربي الجديد