مع دخول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شهرها الثاني، وتعمّق الأزمة في العلاقات الروسية الغربية، تراهن روسيا على دعم الصين، أو حيادها على الأقل، حيال تدهور علاقاتها مع الغرب، وتحوّل بكين إلى الشريك الأساسي لموسكو في المجالين السياسي والاقتصادي.
ومن المؤشرات التي تدعم التوقعات بحياد الصين، امتناع بكين عن التصويت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للتنديد بالعدوان الروسي على أوكرانيا، مطلع مارس/آذار الحالي، والدعوات الأخيرة التي وجهها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى المجتمع الدولي للإسهام في المفاوضات حول القضية الأوكرانية، والاكتفاء بتقديم مساعدات إنسانية فقط لأوكرانيا.
ومع ذلك، ثمة مخاوف روسية من التزام بكين بعقوبات غربية ثانوية، في حال فرضها، أي عقوبات لن تشمل موسكو فحسب، وإنما أيضاً الأطراف المتعاملة معها، على غرار العقوبات الشاملة التي سبق لواشنطن أن فرضتها على طهران على خلفية برنامجها النووي.
وعلى الرغم من أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين يزيد عن 100 مليار دولار سنوياً، إلا أن نطاق التجارة الصينية الغربية يفوق هذا الرقم بأضعاف، ليبلغ نحو تريليون دولار سنوياً مع الولايات المتحدة، وما بين 800 و900 مليار دولار مع أوروبا، ما يقلل من واقعية الحد من اعتماد بكين على شركائها التجاريين في الغرب.
موقف الصين من العملية الروسية متزن
وفي هذا الإطار، يصف أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، الموقف الصيني من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنه متزن، ويعكس مصالح بكين، متوقعاً عودة قريبة للدول الآسيوية الكبرى إلى صدارة الاقتصاد العالمي.
ويقول كوكتيش، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الموقف الصيني متزن ويعكس مصالح بكين، إذ كانت المطالب الأميركية للصين تتلخص في إلحاق ضربة قاضية بروسيا، ولكنها لم تستجب لها، إدراكاً منها لمسؤوليتها الدولية كدولة تستعيد الاشتراكية في العالم بصورة متطورة عن تلك المعتمدة في الاتحاد السوفييتي السابق. كما أن هناك مخاوف في بكين من أن تكون هي الهدف المقبل بعد موسكو”.
ويلفت إلى أن الشراكة بين روسيا والصين لا تقتصر على الاقتصاد وأيديولوجيا الترويج لعالم متعدد الأقطاب، بل تربطهما عضويتهما في عدد من التكتلات الدولية، وفي مقدمتها منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة “بريكس”، التي تضم أيضا البرازيل والهند وجنوب أفريقيا.
ويشير إلى أن آسيا، وتحديداً الصين والهند، ظلتا على مر العصور مركزاً للاقتصاد العالمي، قبل أن ينتقل في القرون الماضية إلى أوروبا والولايات المتحدة، فتسعى الدول الآسيوية الرائدة لاستعادة مكانتها اليوم.
تايوان نقطة تكنولوجية للغرب
وحول توقعاته لتأثير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على الموقف الصيني من قضية جزيرة تايوان، يقول إن “تايوان هي نقطة تكنولوجية تتيح للغرب الإبقاء على تفوقه التكنولوجي. إذا استعادت الصين سيادتها على تايوان، فإنها ستتحوّل إلى القوة الاقتصادية رقم واحد في العالم، ولذلك تستثمر الولايات المتحدة وبريطانيا كثيراً في أستراليا لخلق بديل لتايوان وتحويلها إلى قلعة عائمة للغرب”.
بدوره، يحذر رئيس المركز الأوراسي للتحليل في العاصمة الروسية، نيكيتا ميندكوفيتش، من أن يؤدي تطبيق العقوبات الثانوية على الصين بسبب تعاونها مع روسيا إلى انهيار منظومة منظمة التجارة العالمية بشكل كامل، محمّلاً حلف شمال الأطلسي المسؤولية عن الأزمة الراهنة في العلاقات مع روسيا.
ويقول ميندكوفيتش، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الصين تربطها علاقة تحالف مع روسيا، وأقرت مراراً بأن حلف الأطلسي هو الذي تسبّب في هذه الأزمة. وهناك إدراك صيني بأن الولايات المتحدة تريد القضاء على روسيا والصين على حد سواء، وتعلم بكين أن واشنطن تدعم الانفصاليين في التيبت، بينما تدعم بكين وحدة الأراضي الروسية، بما في ذلك سيادة موسكو في شبه جزيرة القرم” التي ضمتها روسيا إليها في عام 2014.
العقوبات الغربية غير مدعومة آسيوياً
وحول توقعاته لتداعيات العقوبات الثانوية الغربية في حال فرضها، يضيف: “لا تحظى فكرة العقوبات الثانوية بدعم الدول الآسيوية، مثل الصين والهند وفيتنام، وسيكون تطبيقها بمثابة تفكيك منظومة منظمة التجارة العالمية بأكملها. وفي حال أقدم الغرب على فرضها، فإنه سيخلق بنفسه تكتلاً حول روسيا”.
لكن ما يزيد المخاوف الروسية من الانحياز الصيني للغرب، هو وجود سوابق تاريخية لجر بكين إلى مواجهة الاتحاد السوفييتي، بما فيها انضمام بكين إلى مقاطعة الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980، ودعم “المجاهدين” الأفغان في مواجهة الغزو السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي.
إلا أن ميندكوفيتش يقلل من أهمية الحالات السابقة، قائلاً: “صحيح أن العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والصين كانت سيئة في الثمانينيات، امتداداً للخلاف بين البلدين منذ عهد الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، ولكن 40 عاماً قد مرت، ووضع العلاقات الروسية الصينية مختلف تماماً اليوم”.
ويعود الخلاف الأساسي بين الاتحاد السوفييتي والصين إلى عهد الزعيم السوفييتي الراحل نيكيتا خروتشوف، الذي تولى زمام السلطة في عام 1953، وذلك إثر رفض الصين الامتثال للإرشادات الأيديولوجية السوفييتية، وتباين رؤى خروتشوف وماو تسي تونغ لتوجهات السياسة العالمية وتحقيق الأهداف.
وفي الوقت الذي بلغ فيه الحزب الشيوعي السوفييتي مرحلة من النضج السياسي دفعته للمشاركة في الأجندة الدولية، والبحث عن سبل التقارب مع الدول الرأسمالية، كان الحزب الشيوعي الصيني، في ذلك الوقت، حزباً شاباً مهمشاً في العلاقات الدولية يحلم بالمقاومة الثورية للرأسمالية.
وبالعودة إلى وضع العلاقات الروسية الصينية اليوم، يعتبر المستشرق والباحث في الشؤون الصينية، ميخائيل كاربوف، أن بكين لا تنظر إلى موسكو على أنها شريك يمكن الاعتماد عليه.
ويقول، في حوار مع صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية ذات التوجهات الليبرالية المعارضة: “يمكن تفهّم هذا الموقف الذي يراه الصينيون محقاً تماماً. في البداية، وقع تفكك الاتحاد السوفييتي الذي لم يكن يتوقعه أحد، ثم تقارب حاد بين روسيا والغرب، ثم خلاف بينهما، ثم تقارب مرة أخرى في بدايات عهد (الرئيس فلاديمير) بوتين”.
تأرجح تاريخ روسيا
ويضيف: “يعني ذلك أن تاريخ روسيا على مدى آخر 30 عاما عبارة عن تأرجح تبادر به روسيا في كل مرة، وليس من المعروف إلى أين ستتجه بعد نصف عام أو عامين”.
ويرجح كاربوف أن الصين “لا تعتزم التضحية بالعلاقات مع روسيا، ولكنها لا تريد الموت من أجلها”، مقللاً من واقعية التوسع الاستثماري للصين في روسيا، أو شرائها أي أصول روسية.
ومع ذلك، يتيح الموقف الصيني المحايد لبكين أداء دور فعال في تسوية النزاع الروسي الأوكراني، وسط دعوات كييف لوحدة بلدان الشرق والغرب في نية “ردع روسيا”. وكان مدير مكتب الرئيس الأوكراني، أندريه يرماك قد أعرب، الأسبوع الماضي، عن أمل بلاده في إجراء محادثات بين الرئيسين الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والصيني شي جين بينغ، قائلاً إن “الصين هي واحدة من الدول الرائدة عالمياً. تأمل كييف في أداء بكين دوراً أكبر في تقريب هذه الحرب من نهايتها. نترقب بفارغ الصبر محادثات بين الرئيسين”.
المصدر: العربي الجديد