استطاع قطبا العالم السابقان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إدارة صراعاتهما على جبهات وساحات مختلفة، كان الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأفريقيا أهم مسارحها، كما استطاعا احتواء العديد من الأزمات المتفجرة التي نشأت بينهما خلال سنوات الحرب الباردة، من خلال التوازنات العسكرية والجيوسياسية التي حيث كان كلٌّ من الطرفين يقدّم تنازلات للطرف الآخر، بالتوازي مع احتواء المشكلات والتباينات التي نشأت بينهما في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وتلك هي القاعدة التي حكمت سلوك الدولتين العظميتين، ولعل أوضح مثال على ذلك هي أزمة الصواريخ الكوبية 1962، التي كادت أن تتحول إلى حرب نووية بين الطرفين، الا أن نوعية الصراعات الدولية التي شهدناها في العقود الأخيرة قدمت لنا مشهدا مغايراً عن تلك التي اختبرها العالم خلال الحرب الباردة.
القطب الواحد
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتسيّد القطب الواحد على العالم، أصبحت الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة التي بيدها قراري الحرب والسلم، وكان غزوها لأفغانستان والعراق تأكيداً على انصياع الدول والحكومات لإرادتها المنفردة، وقد أدى هذا الاستفراد إلى النتائج التالية:
أولاً، استخدامها لمعسكر الحلفاء الغربيين كتابع لسياساتها وليس شريكاً، مما أضعف الدور السياسي الذي كان يمكن أن يلعبه الاتحاد الأوربي بما يوازي دوره الاقتصادي الصاعد.
ثانياً، لم يعد هناك في العلاقات الدولية مكانٌ لنشوء أحلاف تمثل الدول النامية كما كان عليه الحال في حقبة الخمسينيات والستينيات التي شهدت بروز أحلاف إقليمية وقارية مثل دول عدم الانحياز والاتحاد الافريقي وغيرها، لتستفيد من الهوامش التي وفرتها لها الحرب الباردة.
ثالثاً، التحولات التي عاشها القطب السوفياتي بعد تفكك دويلاته ومحاولة روسيا إحياء أمجادها التي توارت خلف الثورات البرتقالية وانشغالها بأزماتها الاقتصادية.
طموح بوتين
مع استلام بوتين للسلطة في روسيا وطموحه نحو إعادة عقارب الزمن الى الوراء، بدأ فصل جديد من التحولات الدولية لاسيما بعد انشغال الولايات المتحدة بحروب العراق وأفغانستان، وبدء مرحلة جديدة تحولت فيها بعض الساحات إلى حروب بالوكالة في التدافع على مناطق النفوذ والهيمنة كما حدث في سوريا، ويحدث الآن في أوكرانيا، وهذه الحروب تتسم بأنها لا تقيم أي اعتبار لحقوق الشعوب ومصالح الدول التي تجري فيها، رغم ادعاءات الدول المتدخلة فيها الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الانسان.
لقد استطاع بوتين استثمار الانكفاء الأميركي عن استمراره بالتدخل العسكري وخوض معارك خارج الولايات المتحدة، مما دفعه للاستعجال نحو وضع يده في بعض البلدان التي أُتيح له أن يمارس دور المُستفرد أو الوصي على راهنها ومستقبلها، كبعض الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي، وكسوريا، ظنّاً منه أن الإدارة الأميركية لم تعد تعتمد استراتيجية المنافسة المباشرة على حيازة النفوذ، ولكن ربما أخطأ بوتين حين توهم أن استفراده بحيازة النفوذ في بعض الدول سيكون بمثابة تفويض مطلق من واشنطن، وربما تفاجأ بأن غياب الحضور الأميركي العسكري المباشر في بعض البلدان لا يعني غياباً مطلقاً، ما أفضى إلى شكل جديد من أشكال المواجهة والصراع على حيازة النفوذ، أي الحرب بالوكالة، واليوم تشكل أوكرانيا مثالاً حياً على هذا الشكل الجديد وهذا النوع من حروب الوكالة.
كانت حرب العراق 2003 آخر الحروب العسكرية التقليدية التي خاضها الجيش الأميركي خارج أرضه، وكان لهذه الحرب تداعيات شديدة الأثر على الجانب الأميركي، لعل أبرزها العدد الكبير لقتلى قواته العسكرية، وانعكاساتها وآثارها على المستوى الشعبي الأميركي، ما أدى إلى تكوين رأي عام أميركي رافض لمبدأ المشاركة في الحروب خارج الولايات المتحدة.
من هنا بدأت أميركا باستراتيجية الحرب بالوكالة، ولعل أولى هذه التجارب التي جربتها واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي هي مواجهة الوريث بوتين في سوريا، اذ ربما كان التفويض الأميركي مغرياً لبوتين حين أتاحت له إدارة الرئيس باراك أوباما زجّ قواته في سوريا نهاية أيلول 2015، ظناً منه بأنه سيحسم الصراع مع الثوار خلال ثلاثة أشهر على حد زعمه، ثم يضع يده على سوريا التي ستكون مرتكزا أساسياً له في الشرق الأوسط، وما زاد من الاغراءات هو تغاضي أميركا والغرب عموماً عن كل جرائمه في سوريا، ولكنه أصيب بخيبة امل موجعة عندما أدرك أن مكاسبه العسكرية من حصاده الاجرامي لن تتحول إلى مكسب سياسي واقتصادي دون الرجوع لواشنطن، فها هي حربه التي تدخل عامها السابع لم تفضِ بعد الى حل سياسي كما يريده بوتين، وأحلام المكاسب الكبيرة التي سوف تجنيها شركاته من عملية إعادة الاعمار يبدو أنها باتت وهماً، وعودة اللاجئين التي أرادها بوتين كمقدمة زائفة لحل سياسي لم تكن مقنعة للأطراف الدولية، كما أن سيطرة واشنطن على شرق سوريا بالتنسيق مع قسد، جعل الروس والنظام معاً محرومين من الغلّة الاقتصادية الأكثر أهمية في سوريا (البترول والحبوب والقطن)، وهكذا ربما يجد بوتين أن قدرته على استثمار منجزه العسكري مرهونة بيد واشنطن التي لن تتركه يستثمر ما أنجزه خلال سبع سنوات من حربه على السوريين.
ترابط سوريا وأوكرانيا
وفي سياق حرب الوكالات ذاته، تأتي تصريحات الكرملين بفتح الباب أمام تطوع المرتزقة للقتال إلى جانب روسيا في أوكرانيا، وإعلان الرئيس الروسي بقدوم 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط للقتال الى جانب جيشه في أوكرانيا، في تفسير واضح لهدف ومغزى زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الأخيرة لسوريا قبل بدء غزو أوكرانيا، وما يؤكد على الربط بين الجبهتين قيام نظام الأسد بتجنيد المرتزقة وإرسالهم للقتال الى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، يقابل ذلك حالة تجييش كبيرة في البلدان الاوربية لذهاب متطوعين أوربيين للدفاع عن أوكرانيا، في حالة ترسيخ واضحة لحرب الوكالة.
وكما كانت الجغرافيا السورية ساحة استنزاف أميركي لروسيا، فيمكن أن تكون أرض أوكرانيا ساحة استنزاف أخرى ربما أسهمت في تقويض الحلم البوتيني، وكما كانت الاغراءات الأميركية لبوتين ناجحة في سوريا حين أتاحت له واشنطن الاستفراد بالملف السوري، كذلك كانت اغراءات واشنطن ناجحة في إيهام بوتين بان الولايات المتحدة وأوروبا لن يتدخلا في حرب أوكرانيا، مما عزز القناعة لديه بأنه يمكن ان يحسم المعركة خلال أيام قليلة، ويعززمن حصانة حدوده مع الناتو.
لكن يبدو أن الخذلان الروسي يتكرر مرة أخرى في أوكرانيا، فأميركا والغرب لم يقفوا على الحياد كما وعدوه، وصحيح أنه لا يوجد جيوش أميركية أو أوربية في أوكرانيا، ولكن تكنولوجيا الحرب الحديثة للناتو كلها مشاركة، بدءاً من استراتيجية الدفاع والخطط العسكرية وصولاً الى المعلومات الاستخباراتية والرصد والتنصت، والدعم اللوجستي، وتزويدها بكل أنواع الصواريخ المضادة للدروع والطائرات، وما عزز من صدمة بوتين التداعيات السريعة للعقوبات الاقتصادية التي بدأت تظهر انعكاساتها على الجانب المعيشي للشعب الروسي، ولا أحد يستطيع التكهن بنتائج هذه الحرب طالما أن المواقف الرسمية للدول المعنية حتى الآن لا تعكس حقيقة ما يجري، وما سوف يجري على الأرض.
استنزاف روسيا
لعل ما يحصل اليوم في أوكرانيا يمكن أن يكون امتداداً للمواجهة الأميركية الروسية، فبوتين ذلك الامبراطور الطامح يجب أن يبقَ في حالة استنزاف دائم وفقا لمخطط الإدارة الأميركية، وعليه أن يبقى في حالة صراع مع أحلامه بالهيمنة والنفوذ، فحاجة الولايات المتحدة لوجود مملكة الشر ما زالت قائمة، فكما أن إيران هي ضرورة استراتيجية لواشنطن وتل ابيب من أجل ابتزاز دول المنطقة، كذلك وجود روسيا البوتينية يبدو أنه ما زال ضرورة لواشنطن من أجل الإبقاء على تبعية أوروبا لها.
تتقاطع الحرب الروسية ضد أوكرانيا والمعركة التي خاضها الشعب السوري ضد النظام وحلفائه في كثير من الأمور وتتشابه في العديد من الأوجه، ولعل من بينها السياسة الأميركية التي كان أحد محددات استراتيجيتها هي الحفاظ على أوروبا ضعيفة وتابعة لها، حيث تكشف مجريات وتطورات التعامل الغربي مع الغزو الروسي لأوكرانيا عن مدى تبعية الموقف الأوروبي لواشنطن التي باتت تشكل مع بريطانيا ثنائياً يستعيد الحالة التاريخية التي كانت دائما موجودة في العصر الحديث، هذا الامر يذكرنا بحماس الأوربيين الشديد، وخاصة الفرنسيين والالمان لتوجيه ضربة قاصمة لنظام الأسد بعد استخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة عام 2013، وتم وضع الخطط وتحديد المواقع المراد استهدافهاعلى الخرائط العسكرية، وفي حين كانت اليد على الزناد تفاجأ الأوروبيون بتراجع إدارة أوباما في اللحظات الأخيرة وتقديم تنازل مجاني لروسيا.
السؤال الذي يطرح نفسه على ضوء تطور مجريات الأحداث في أوكرانيا، وفي ظل استيقاظ أوروبا على مطامح الدب الروسي وتهديده لأمنها القومي، وبقاء الولايات المتحدة كطرف مستفيد من تلك الحروب على حساب حلفائها، هل ستستمر الصراعات بحروب الوكالة على وقع الملفين الاوكراني والسوري؟، أم ستتحول إلى صراعات وحروب مباشرة مع القطب الروسي؟
المصدر: المدن