رأى المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما أن الحرب التي يشنّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا إنما تستهدف النظام الليبرالي العالمي، ولفت في مقالة رأي نشرتها “فاينانشيال تايمز” إلى أن القيم الديمقراطية كانت عرضة إلى تهديد في شتى أنحاء العالم قبل أن تجتاح روسيا جارتها الأصغر، وحض على إحياء الروح التي أحاطت بسقوط جدار برلين عام 1989. وكتب مؤلف كتاب “نهاية التاريخ” الصادر عام 1992 احتفالاً بسقوط الاتحاد السوفياتي يقول إن الحرب الروسية على أوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير (شباط) “يعد كنقطة تحول مهمة في تاريخ العالم، فكثر يقولون إنه يشكل نهاية المرحلة التي بدأت مع انتهاء الحرب الباردة، أو تراجع عن “أوروبا الكاملة [غير مقطعة الأوصال] والحرة” التي اعتقدنا أنها نشأت بعد عام 1991، أو حين نهاية (نهاية التاريخ)”.
وقال: “لا شك في أن العدوان الروسي له تداعيات تصل إلى ما وراء حدود أوكرانيا. فبوتين أوضح أنه يريد إعادة بسط السيطرة على أكبر قدر ممكن من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فيضم أوكرانيا إلى روسيا وينشئ دائرة نفوذ تشمل دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى حلف شمال الأطلسي من التسعينيات فصاعداً”. وإذ أكد أن الوقت لا يزال مبكراً لتوقع اتجاهات الحرب، شدد على أن من الواضح بالفعل أن بوتين لن يتمكن من تحقيق أهدافه القصوى، “فقد توقع [الرئيس الروسي] تحقيق انتصار سريع وسهل، وأن يستقبله الأوكرانيون كمحرر، لكنه بدلاً من ذلك أثار وكر زنابير إذ أثبت الأوكرانيون من مختلف الأطياف درجة غير مسبوقة من العناد والوحدة الوطنية”.
ونبه فوكوياما إلى أن الأزمة الأوكرانية أثبتت وجوب عدم اعتبار النظام الليبرالي العالمي أمراً مسلماً به، “فهو أمر يجب أن نناضل باستمرار في سبيله، وهو ما سنخسره فور تراخينا. والمشاكل التي تواجه اليوم المجتمعات الليبرالية لم تبدأ اليوم، ولن تنتهي مع بوتين، وسنواجه تحديات جدية جداً حتى لو تعثر في أوكرانيا. فالليبرالية تتعرض إلى هجوم منذ بعض الوقت من اليمين ومن اليسار”. وأشار إلى استطلاع “الحرية في العالم” الذي أجرته “دار الحرية” (Freedom House) عن عام 2022 وبين أن الحرية كانت تتراجع على مستوى العالم طوال 16 عاماً على التوالي، ليس فقط لقيام قوى استبدادية مثل روسيا والصين، بل كذلك لبروز ميل إلى الشعبوية واللاليبرالية والقومية في ديمقراطيات ليبرالية عريقة مثل الولايات المتحدة والهند.
وعرف الليبرالية بأنها “مذهب ولد في القرن السابع عشر ويسعى إلى ضبط العنف من خلال خفض الطموحات السياسية. وهو يقر بأن البشر لن يتفقوا على الأشياء الأهم – مثل الديانة الواجب اتباعها – لكن عليهم التسامح مع مواطنيهم الذين يحملون أفكاراً تختلف عن أفكارهم”. ويحقق المذهب ذلك “باحترام الحقوق المتساوية والكرامة لدى الأفراد من خلال حكم القانون والحكومات الدستورية التي تراقب موازين القوى في الدول الحديثة. وتشمل الحقوق الحق بالتملك وحرية عالم الأعمال، ولهذا السبب ارتبطت الليبرالية الكلاسيكية بقوة بمستويات عالية من النمو والازدهار الاقتصاديين في العالم الحديث. كذلك ارتبطت الليبرالية الكلاسيكية عادة بالعلوم الطبيعية الحديثة وبالرأي القائل إن العلوم تستطيع مساعدتنا على فهم العالم الخارجي والتحكم به لصالحنا”.
وهاجم فوكوياما الرئيس الهندي ناريندرا مودي متهماً إياه بالسعي إلى إقامة دولة هندوسية غير متسامحة، وكذلك الحزب الجمهوري الأميركي قائلاً إن بعض أوساطه تؤيد علناً القومية البيضاء في حين أن آخر رئيس أميركي جاء من صفوفه، دونالد ترمب، رفض قبول نتائج الانتخابات الرئاسية العام الماضي وحاولت عصابة عنيفة مؤيدة له اقتحام الكابيتول ولم يستنكر الجمهوريون عموماً ذلك بل أيدوا ترمب. أما يساراً. أضاف المفكر، فيرفض كثر القيم الليبرالية من منطلق أن استنادها إلى النقاش وبناء التوافقات يبطئ معالجة التفاوتات الاقتصادية والعرقية المترتبة على العولمة، ولا يمتنع بعضهم عن الدعوة إلى لجم حرية التعبير باسم العدالة الاجتماعية.
وكتب في “فاينانشيال تايمز” يقول: “لا تملك أنظمة روسيا والصين وسوريا وفنزويلا وإيران ونيكاراغوا قواسم مشتركة فيما خلا كره الديمقراطية الليبرالية والرغبة في الحفاظ على سلطتها الاستبدادية. وهي أسست شبكة من الدعم المتبادل سمحت، مثلاً، للنظام الحقير لنيكولاس مادورو في كاركاس بالاستمرار على الرغم من نفيه أكثر من خمس الشعب الفنزويلي إلى خارج البلاد. وفي نواة هذه الشبكة يقبع نظام بوتين الذي وفر السلاح والمستشارين والدعم العسكري والاستخباري لأي نظام يعادي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بغض النظر عن بشاعة تعامل هذا النظام مع شعبه”.
وشدد فوكوياما، الذي يصدر له قريباً كتاب بعنوان “الليبرالية وخيباتها”، على أن الحرب الأوكرانية هي شأن يهم العالم بأسره، “فالعدوان الروسي غير المبرر وقصف المدن الأوكرانية المسالمة، مثل كييف وخاركيف، يذكران الناس بأكثر الطرق وضوحاً بنتائج الديكتاتورية اللاليبرالية. وروسيا بوتين لا تبدو اليوم دولة لها مطالب مشروعة حول توسع حلف شمال الأطلسي، بل دولة ملؤها الحقد والانتقام مصممة على قلب النظام الأوروبي الذي نشأ بعد عام 1991 [تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية]، بل هي دولة لها قائد أوحد مهووس بما يعتبره غبن تاريخي سيحاول تصحيحه بغض النظر عن التكلفة التي سيتكبدها شعبه”.
وقال إن حلف شمال الأطلسي صار أقوى بعد الأزمة. فعلى سبيل المثل فنلندا والسويد تدرسان الالتحاق به، وضاعفت ألمانيا، صديقة روسيا الأقرب في أوروبا سابقاً، ميزانيتها الدفاعية، وأبدت استعدادها لمد أوكرانيا بالأسلحة. وأضاف: “من الصعب أن نرى بوتين يحقق أهدافه الأسمى المتمثلة في إنشاء روسيا الكبرى، لكن لا تزال الطريق أمامنا طويلة ومرهقة. فبوتين سيستعمل كل قوته العسكرية في أوكرانيا، والمدافعون الأوكرانيون بدأوا ينهكون وبدأت الأغذية والذخائر لديهم تنفد. وستيسابق كل من روسيا وحلف شمال الأطلسي على تعزيز الجيش الروسي والمقاومة الأوكرانية”. وإذ لم يستبعد خطر وقوع مواجهة عسكرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، أكد أن “الأوكرانيين هم من سيقاتلون بالنيابة عنا جميعاً”.
وختم قائلاً “إن متاعب الليبرالية لن تنتهي في حال هزيمة بوتين. فالصين تترقب مآل الأمور، وكذلك إيران وفنزويلا وكوبا والشعبويون في البلدان الغربية، لكن العالم أدرك قيمة النظام الليبرالي العالمي، وأن الحياة لن تقيض له إن لم يناضل الناس في سبيله ويدعموا بعضهم بعضاً. وأظهر الأوكرانيون أكثر من أي شعب آخر ما هي الشجاعة وأن روح عام 1989 لا تزال حية في منطقتهم. أما بالنسبة إلى سائر العالم، فهذه الروح كانت في سبات ويجري إيقاظها”.
المصدر: اندبندنت عربية