هناك ما يشبه الذكرى الغامضة والملتبسة، وهي ذكرى عتيقة كانت مؤهلة للنسيان، لولا أن الزمن استعادها ومزجها بمشاعر القلق والحب والسحر.
تأتيني نابلس من ذاكرة الطفولة، حين كان تجار نابلسيون يأتون لزيارة خالي من أجل استيراد زنانير الحرير من المشاغل التي كان يديرها، وهي زنانير جميلة وملونة، كان رجال الريف النابلسي آخر زبائنها، بعدما استبدلت الحداثةُ بالأثواب العربية ثياباً إفرنجياً.
كانوا يعتمرون الطرابيش، ويأتون بهداياهم المدهشة: الصابون والجبنة والكنافة، وباقة الحلويات التي لا مثيل لها، التي كانت وستبقى عنوان تفوّق دمشق الصغرى على شقيقتها الكبرى، وعلى كل مدن البلاد الشامية.
بدت نابلس في كلام هؤلاء الرجال، الذين بهرتهم بيروت بحداثتها، وكأنها مجموعة من بساتين الزيتون والأقواس والمَصابن التي تفوح منها روائح الزيت والجبنة المقلية والحلويات التي تُبهر المذاق.
المدينة التي تمتد على جبلي جرزيم وعيبال، وتحتضن في حاراتها القديمة عبير المدن المشرقية، عادت إلى الوعي بشكل جديد، يختزن الحلم الفلسطيني، وقد ارتسم على جسد أحمد الطبوق ورفاقه بالدم والألم.
في الانتفاضة الثانية نبضت قلوبنا مع نابلس القديمة وجنين ومخيمها، وكنا شهوداً على أسطورة الصمود التي افترستها الآليات والجرافات. لكن المدينة أبت أن تتحول إلى ذكرى، فهي اليوم مع الفرسان الثلاثة: محمد الدخيل وأدهم مبروكة وأشرف المبسلط، كما كانت بالأمس مع شادية أبو غزالة ولينا النابلسي، مدينة الجرح الذي ينزف والحلم الذي يتجدد.
أشاهد نابلس من بيروت أو دمشق أو عواصم التطبيع أو رام الله، فتجتاحني مشاعر متناقضة. أنتقل من اليأس إلى ما بعده، ومن الأمل الخادع إلى الحلم.
أسال نفسي، كيف يتزامن الانحطاط العربي الذي يجتاحنا، مع هذا النبض الذي يسري في دمنا وعيوننا؟
من بيروت لا أرى سوى الخراب الذي نحاول صدّه بما تبقى لنا من إرادة. ففي مواجهة أسوأ لحظات واقعنا السياسي والاجتماعي، يحاول المجتمع اللبناني إيقاف خرابه بالإرادة والإصرار على حقه في الحياة.
ومن دمشق لا أرى سوى الألم الذي يسحق الأرواح تحت احتلالات متعددة الرأس.
أما من دول التطبيع الإبراهيمي المشؤوم، فلا أرى سوى ذلّ الذين جعلوا من ذلهم باباً للولوج إلى الخراب.
ومن رام الله أرى عجباً؛ في القرية الجبلية الجميلة التي تحولت إلى عاصمة لسلطة صارت أشبه بأداة للاحتلال، في المدينة التي صمد فيها «الختيار» أمام الحصار، وسقط بالسم الإسرائيلي. في هذه المدينة تجري أكثر الأشياء غرابة. كافكا الذي كتب «المحاكمة»، كحدث كابوسي، لم يستطع أن يتخيل مشهد محاكمة الموتى، الذي يجري في رام الله.
في الماضي أخذوا باسل الأعرج، بعد استشهاده، إلى المحكمة الفلسطينية بتهم مخجلة، وضربوا والده ورموه أرضاً، ومنذ بضعة أيام تجري محاكمتان أشار إليهما عبد الرحيم الشيخ بمرارة وتعجب:
الأولى جرت في محكمة بداية نابلس، للشهيد أدهم مبروكة، الذي أعدمته فرقة «اليمام» هو والشهيدين محمد الدخيل وأشرف المبسلط ظهر يوم الثلاثاء 8 شباط- فبراير 2020، وقد أسقط القاضي الدعوى بعدما قال محامي الدفاع إنه يحيل القضية إلى محكمة السماء.
والثانية جرت في محكمة صلح رام الله، لهيثم سياج، وهو أسير يقيم في سجن عوفر!
كافكا بكل خياله الكابوسي، يقف اليوم عاجزاً أمام هذا النوع من المحاكمات، الذي ينظّمه قضاء السلطة لملاحقة الشباب، سواء أكانوا موتى أم أسرى.
ولا يكتمل هذا المشهد الكافكوي إلا بأخبار الشَبْح والتعذيب التي ترشح من سجون السلطة!
غير أن خيال السلطة والمتسلطين خان أصحابه هذه المرة؛ ففي الوقت الذي انعقد فيه المجلس المركزي لانتخاب، أو تعيين مسؤول التنسيق الأمني حسين الشيخ عضواً في اللجنة التنفيذية، كانت فرقة اليمام تنصب كميناً في حي المخفية في جبل جرزيم، وتعدم بكل راحة بال الفرسان الثلاثة. وأغلب الظن أن هذا الإعدام هو أحد ثمار التنسيق الأمني، وجزء من خزانة أسراره المخفية.
والطريف أن المجلس المركزي أصدر في الجلسة نفسها، قراراً سبق له أن واظب على إصداره منذ سبع سنوات، بإيقاف التنسيق الأمني!
لكن يبدو أن هذا التنسيق أقوى من كل القرارات، لأنه يخفي الحقيقة التي يحاولون طمسها بفُتات الكلام.
في المجلس المركزي، وفي المحكمتين، انكشفت العلاقة بين الظاهر والمخفي. منطقة المخفية التي تقع في أعالي جرزيم، قرب الحرم القديم لجامعة نابلس، والتي استدرج إليها الشباب، تحمل في اسمها بعداً رمزياً.
قيل إنها سميت «المخفية» لأنها بعيدة، وقيل أيضاً إنها سميت كذلك لأن سكان البلدة القديمة لا يستطيعون رؤيتها. أسماء الأماكن تخفي ذاكرات محاها الزمن، لكنها تبقى شاهداً يختزن الكثير من الأسرار.
وبصرف النظر عن سبب إطلاق اسم «المخفية» على هذا الحي، فإن الاسم صار اليوم يمتلك معنى جديداً.
كأن الاسم صار جزءاً من قاموس الأضداد، فهو يخفي ويكشف في آن معاً.
التزامن بين جريمة المخفية وانعقاد المجلس المركزي لم يكن مصادفة، بل كان تعبيراً عن ضرورة انكشاف المستور بطريقة فجة وفضائحية.
فالمخفية التي كانت مسرحاً للموت، صارت أيضاً مسرحاً للفضيحة.
هذا هو سر نابلس، أو دمشق الصغرى، الذي باحت به في الأسبوع الماضي. سرها هو أنها نجحت في كشف الواقع الكابوسي الذي صارت فلسطين مسرحاً له.
قد تقولون إن هذه المسرحية الدموية الكافكوية تدور في كل بلاد العرب، وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً هو أن دمشق الصغرى لم ولن تيأس أو تستسلم.
المصدر: “القدس العربي”/ المدارنت”..