القاهرة – تثير التطورات التي تشهدها الساحة الليبية مؤخرا والمتمثلة في خلط الأوراق بين أعداء وحلفاء الأمس تساؤلات حول الدور المصري، وأين تكمن مصالح القاهرة في ظل بوادر الانقسام لدى الجار الغربي بين حكومتين؟ وهل نسقت مصر مع تركيا في الملف المتأزم منذ سنوات بهدف التوصل إلى صيغة توافقية؟
ففي تطور مفاجئ، أعلن مجلس النواب الليبي المنعقد في طبرق (شرق) الخميس الماضي اختيار وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيسا للحكومة خلفا لعبد الحميد الدبيبة الذي رفض تلك الخطوة.
وأحدثت تلك الأجواء حالة محلية من التخبط السياسي والتحشيد الأمني والتصريحات المتباينة بين الموافقة والرافضة، فيما على الجانب الدولي لا تزال أغلبية القوى الفاعلة في الشأن الليبي تمسك العصا من المنتصف، دون أن تقطع بصورة واضحة موقفها بشأن تأييد أحد الطرفين.
هذه التحركات جاءت بعد فشل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وإن كانت تثير مخاوف من بوادر أزمة وانقسام جديد بين معسكرين، لكن تبدو الانقسامات التقليدية بين الفاعلين الليبيين حاليا غير مرجحة، حيث بات الدبيبة نفسه تهديدا ومزاحما لأغلبية الأطراف بشكل عزز تقاربها، وفق مؤشرات ومراقبين.
ويوم السبت الماضي، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري -في مؤتمر صحفي مع نظيرته الألمانية- إن القاهرة على اتصال مع كل الأطراف الليبية لتعزيز الاستقرار، وإن بلاده متفاعلة مع شركائها الدوليين للوصول إلى الانتخابات التي تأتي بحكومة منتخبة شرعية.
وجاء التصريح بعد يومين من إعلان القاهرة دعمها للبرلمان ومجلس الدولة والحكومة الناتجة عن تحالفهما.
وتسعى الجزيرة نت إلى الإجابة عن تساؤلات حول أبعاد الانقسام الليبي الراهن على مصر في ضوء الأسئلة التالية:
هل تدعم القاهرة طرفا على حساب آخر؟
جاء الموقف المصري الرسمي حاسما بتأييد قرارات مجلس النواب، حيث كانت القاهرة في مقدمة القوى الإقليمية والدولية التي رحبت بإعلان باشاغا رئيسا للحكومة، مع تأكيدها في الوقت ذاته التواصل مع كافة الأطراف، وأن مسار تسوية الأزمة يظل بيد الشعب الليبي وحده دون تدخلات أو إملاءات خارجية.
وفي هذا السياق، ثمّن السفير أحمد حافظ المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية في بيان صحفي دور المؤسسات الليبية واضطلاعها بمسؤولياتها، بما في ذلك ما اتخذه مجلس النواب من إجراءات بالتشاور مع مجلس الدولة وفقا لاتفاق الصخيرات، آخذا في الاعتبار أن مجلس النواب الليبي هو الجهة التشريعية المنتخبة والمعبرة عن الشعب الليبي الشقيق، والمنوط به سن القوانين ومنح الشرعية للسلطة التنفيذية وممارسة دوره الرقابي عليها.
وتعقيبا على ذلك، أوضح الخبير في الشأن الأفريقي والأمن القومي المصري اللواء محمد عبد الواحد أن القاهرة لا تدعم شخصا بعينه، لكنها ترحب بأي شخص توافقي كما حدث مع باشاغا، مشيرا إلى أنه قد يكون حدث تنسيق مصري مع فرنسا أو الجزائر أو ألمانيا في هذا الشأن، وربما أيضا مع تركيا وإن كان مستبعدا.
وفي تصريحات للجزيرة نت، قال عبد الواحد إنه في مرحلة ما بعد اختيار شخصية توافقية -كما حدث مع باشاغا- يمكن لمصر دعمه وتهيئة الأجواء الدولية -سواء الدوائر الأوروبية أو الأميركية- للقبول به.
في المقابل، اعتبر الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي علاء فاروق أن الدور المصري في ليبيا لا يزال ضبابيا، موضحا أن هناك إشارات بأن لمصر دورا في تشكيل تكتل باشاغا وخليفة حفتر (قائد قوات شرق ليبيا اللواء المتقاعد) وعقيلة صالح (رئيس مجلس نواب طبرق/ شرق).
وفي تصريحات للجزيرة نت، حذر فاروق من تداعيات التعاطي السلبي بما قد يعيد مصر من جديد لما قبل 4 سنوات حين كانت تحسب على فصيل وحيد، غير أنه استدرك بالقول إن الدور المصري في الجار الغربي لا يمكن اعتباره سلبيا.
وأوضح أن مصر لا تؤيد حفتر كشخص وإنما تؤيد تكتل حفتر عقيلة باشاغا، والأخير موجود في الغرب وله شعبية كبيرة وبدأ يسوّق بقوة لحكومته الجديدة باعتبارها شرعية، وربما تكون خطوته هي الانطلاقة التي بدأت فيها مصر تأييد قرار البرلمان.
لماذا باشاغا؟
بحسب الخبير الأمني عبد الواحد، فإن القاهرة حريصة على تفعيل إرادة الشعب الليبي وجهود الأمن والاستقرار وسيادة الدولة من منطلقات كثيرة، منها العمق الأمن القومي من جهة الغرب والحدود الطويلة بين البلدين، كما أن أي حالة فوضى وعدم استقرار في ظل وجود مرتزقة وجماعات مسلحة وجماعات شديدة التطرف ستؤثر على الداخل الليبي، حسب قوله.
وأضاف أن بلاده لا تدعم باشاغا فحسب، بل أطرافا أخرى لحفظ الأمن والاستقرار، وقد تشجع على عقد وإجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن، ورغم أن باشاغا باعتباره محسوبا على غرب ليبيا وله علاقات قوية مع تركيا فإن القاهرة وجدت فيه الرجل المناسب والقوي وعليه توافق من كافة الأطراف.
وثمة إشارة مهمة شدد عليها الخبير الأمني المصري تتمثل في أن انتخاب باشاغا جاء بعد تنسيق بين المجلس الأعلى للدولة والبرلمان الليبي وقوات حفتر، وهي خطوة تهدف إلى توحيد الصف الليبي لأول مرة في جيش واحد وقوات أمن داخلية يرأسها باشاغا سابقا، كما أن القوات التابعة له ومجموعات من مدينة مصراتة لها وزنها وثقلها قد تتعاون، وبالتالي خلق قوة تستطيع فرض الأمن وقادرة على طرد المرتزقة والجماعات المتطرفة، بحسب وصفه.
كما أن انتخاب باشاغا -وفق عبد الواحد- فرصة جيدة لاستمرار المسار السياسي بالتوازي مع المسار الاقتصادي ومع مجموعة “5+5″، وهي لجنة عسكرية شكلت مناصفة بين عسكريين من الشرق والغرب لتثبيت وقف إطلاق النار، وقد يشجعها على طرد وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، وقد يصل بالتوافق إلى إنهاء الأزمة الليبية في أقرب وقت.
كيف ستتعامل القاهرة مع حكومتين؟ وما تبعات ذلك؟
في هذا الصدد، أشار عبد الواحد إلى أن هناك من يرى في انتخاب باشاغا تعميقاً للأزمة والانقسام في ظل رفض الدبيبة التنازل عن موقعه، محذرا من خطورة حدوث نزاع مسلح داخل العاصمة.
كما توقع أن كل السيناريوهات ستكون مفتوحة في ظل تباين الرؤى في الداخل الليبي حول عملية انتخاب باشاغا، كما أن هناك تباينا في المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة التي لا تزال تعترف بالدبيبة رئيسا شرعيا للحكومة.
وحول تبعات الانقسام على المصالح المصرية، أكد أنه ليس في صالح القاهرة في ضوء مخاوف الفوضى وتكلفة تأمين الحدود الغربية لمنع تسلل الجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة، وترقب وجود قوات إقليمية وأجنبية ما زالت في ليبيا، مما يؤثر سلبا على الأمن القومي المصري، إضافة إلى تمدد التداعيات السلبية على العمالة المصرية في ليبيا، والتي عاد منها الكثير إلى مصر.
إضافة إلى ذلك -وفق عبد الواحد- هناك مشاريع سبق التعاقد عليها من قبل بين القاهرة وحكومة الدبيبة، لكنه توقع استكمالها مع الحكومة الجديدة المرحبة بالدور المصري، باعتباره بلا أطماع في ليبيا وإنما يبحث عن الاستقرار والأمن، على حد قوله.
ومتفقا مع الطرح السابق قال الباحث علاء فاروق إن تبعات الانقسام الليبي بين حكومتين على مصر تتمثل في التأثير على الاتفاقيات التي وقعتها القاهرة مع حكومة الدبيبة، إضافة إلى التداعيات على العمالة المصرية.
وأشار فاروق إلى أن مصر تتعامل مع الملف الليبي في الفترة الأخيرة بإستراتيجية تترك من خلالها خط رجعة، وهو ما بدا في تصريحات وزير الخارجية شكري قبل أيام حين أكد على انفتاح بلاده على الجميع في ليبيا.
هل تمثل حكومة باشاغا مؤشرا على تنسيق مصري تركي؟
بحسب اللواء عبد الواحد، كل الاحتمالات في ما يتعلق بالتنسيق بين مصر والمهتمين بالشأن الليبي واردة، حيث إن خطوات التنسيق مع الأطراف الخارجية تسهل تحقيق وفرض الأمن والاستقرار طبقا للمصالح المشتركة.
وفي ما يخص تركيا، أشار إلى أن اختيار باشاغا جاء من الشعب الليبي ممثلا في البرلمان، ويمكن لمصر دعم أي حكومة قوية إقليميا ودوليا والترويج لسياستها، بحيث تفرض الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن.
بدوره، رأى فاروق أن التنسيق المصري التركي في الملف الليبي من الصعب التكهن به حاليا، لأن تركيا في حالة صمت تجاه ما يحدث، ولم تعلن دعمها لطرف على حساب آخر.
لكنه أشار إلى أن سرعة التنسيق وكثرته مع رئيس مجلس الدولة خالد المشري توحيان بأن تركيا تؤيد ضمنيا خطوة تشكيل حكومة جديدة، خاصة أنها منذ فترة ابتعدت بشكل واضح عن حكومة الدبيبة، وكان لديها تقارب كبير مع الشرق الليبي ومع حفتر وصالح، وفتحت قنصليتها في بنغازي، وزار وفد من برلمانها شرق ليبيا.
هذا الانفتاح -حسب فاروق- يمكن تفسيره بوجود تفاهمات أو تهدئة بين تركيا ومصر في الملف الليبي، وربما يصل إلى تنسيق كامل حال تم الاعتراف بحكومة باشاغا أو تأييدها من المجتمع الدولي.
المصدر: الجزيرة. نت