سأل أحد الأشخاص رجلاً يعمل في المخابرات: ما عملك؟
قال: مُخَا.
رد عليه ممازحاً: شي بِخَا
قال له مزمجراً : شو عم تحكي ولاك. أنا مخاااابرات؟
رد عليه مرتعداً وخائفاً: شي بخا بخَوّف سيدي.
ربما تكون هذه النكتة، وما تحمله من معانٍ أصدق تعبير عن حالة الخوف والرعب الذي يعيشه الإنسان في ظل حكم فروع الأمن المختلفة، حيث يباح لهذه الأجهزة والفروع أن تفعل ما تشاء بالمواطن المسكين، وليس هناك قانون يحميه ويخلّصه إذا وقع بأيديها.
عشنا في مملكة الخوف والرعب، وصار أحدنا يخاف حتى من ظلِّه، ومن أقرب المقربين له، في ظل كثرة المنافقين وكتاب التقارير، وكثيراً ما سمعنا أن أخاً تخلّص من أخيه، وكتب به تقريراً، ليوصله إلى بيت خالته معززاً بالضرب والإهانة، وذلك لكيلا يشاركه في ميراث أبيه، ويأخذ حصته عنوةً، وكثيراً ما سمعنا حتى عن تخلّص زوجة من زوجها بالطريقة نفسها، واللجوء إلى حماة الوطن الساهرين على الأمن وراحة المواطن، ولو كان في عش الزوجية.
الخوف من رجل الأمن والاعتقال جعل الناس يمشون الحيط الحيط، ويقولون يا رب السترة، كما يقال، ويعرفون بأن لهذه الحيطان آذاناً تسمع، لذلك يجب ألا يتكلموا بما يُغضب أولي الأمر، والمخابرات. هذا الخوف أصبح عند كثيرين فوبيا ورهاباً، وأوصل بعضهم إلى المرض، وتدهور الصحة النفسية، والهستيريا والجنون، والظن بأن الأمن آتٍ لأخذهم في ساعات الصباح الأولى.
من الأمور التي لا أنساها في شبابي رؤية عبارة مكتوبة بشكل سريع على دوار النعيم في مدينتي في ثمانينيات القرن الماضي على ما أذكر. تقول العبارة: لا للجوع لا للقمع.
بالتأكيد من كتبها كان بطلاً ويائساً من حياته بكل المقاييس، لأنه يعلم في قرارة نفسه أنهم لو رأوه، وهو يكتب هذه العبارة، لقطعوه إرْباً إرْباً قبل أن يوصلوه إلى بيت خالته.
وبالتأكيد، فإن رجال الأمن يومها نكتوا الحارة عاليها واطيها، واعتقلوا، واستجوبوا كثيرين، ليعرفوا هوية كاتبها، ولكنهم والحمد لله لم يفعلوا، كما في كوريا الشمالية (شيت كيم جونغ أون) عندما وجدوا كتابات مسيئة بحق الزعيم الكوري البدين على أحد جدران بيونغ يانغ العاصمة، فما كان من سلطات البلاد ومخابراتها إلا أن أخذت عينات، ونماذج من خطوط يد سكان العاصمة أجمعين (كما قيل) لتحديد هوية الفاعل الذي تجرّأ، وكتب عبارة: (كيم جونغ أون .. الناس يتضورون جوعاً بسببك)، ويا ويل ويله إذا عرفوه، فقد يضعونه في مقدمة مدفع، أو صاروخ، ويقومون بإطلاقه وقذفه!
ومن المصائب التي قد تحل على بعض الأحياء وسكانها الآمنين أن عنصراً، أو مسؤولاً في الأمن اختار حيهم، وسكن فيه، فتصبح حركاتهم محسوبة بدقة متناهية، وعليهم أن يقدموا فروض الطاعة والاحترام على الطالعة والنازلة، والويل لمن يجرؤ حتى على النظر إلى شرفته، أو حتى على المرور في الشارع المحاذي لبيته، وحتى إن كانت لمسؤول الأمن هذا بنات، أو قريبات دلّوعات أتين من مسقط رأس قريبهن، وخرجن على الشرفة كاسياتٍ عارياتٍ، فالمفروض أن يغض الجميع أبصارهم، وعلى تلك الفتيات اللواتي أتين من مجتمعاتهن المنفتحة أن يفعلن ما يحلو لهن، والوالد أو القريب (أبو علي) مسؤول الأمن سيتكفل بتأديب الحارة بشيبها وشبابها، كما حدث في إحدى الحارات التي انتكبت بسكن أحد مسؤولي الأمن فيها، وقيامه بحكم مسؤوليته التاريخية، وتحكمه برقاب العباد بتوجيه عدة دوريات للأمن، وجمع شباب الحارة، وأخذهم إلى المفرزة، وضربهم ضرباً مبرحاً، وجعل وجوههم منتفخة، كأنها أرغفة خبز خرجت حالاً من الفرن، بتهمة عدم غض الطرف، والنظر إلى الفتيات، وهن على الشرفة يتراقصن ويتمايلن.
نحمد الله بكرةً وأصيلاً أن لدينا أجهزة مخابرات قادرة على كشف أي عدو داخلي (داخلي فقط، وليس خارجياً)، وانتزاع الاعترافات من المشتبه بهم بسرعة الضوء، حتى قبل القبض عليهم! وكم اعترف أشخاص بأنهم إخوان مسلمون وهم من (الإخوان المسيحيين)، أقصد من الإخوة المسيحيين، لولا تدخل مرجعياتهم الدينية والكنيسة لبقُوا في السجن سنين عددا!
وفي هذا السياق لا بد من ذكر نكتة تعبر عن المخابرات لدينا بدقة. تقول النكتة: اجتمعت أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية والعربية، ولن أقول السورية، لكيلا نصاب بالعين في مسابقة لمعرفة أي منها تسبق في كشف ومعرفة مكان الغزال الذي أُطلق في الغابة.. المخابرات الأميركية قالت وجدناه، وأمسكنا به، وبسرعة رهيبة في المكان المحدد، أما المخابرات البريطانية قالت وجدناه، وسنمسك به لاحقاً، أما مخابراتنا فتأخرت كثيراً، ولم يصدر عنها شيء، فأُرسل من يعرف قصتهم، ويتحرّى الوضع، وسبب التأخير، فإذ بهم قد أمسكوا حماراً (أعزكم الله)، نعم حمار، ويقومون بتعذيبه، ويقولون له: اعترف بأنك غزال.
المصدر: العربي الجديد