بدأ العالم شيئا فشيئا التحول إلى نظام عالمي جديد، وما نشهده حالياً هو تحول كبير سيؤثر على الكثير من الدول، فمنها ما يصيبه السوء ومنها ما يصيبه غير ذلك. ولكن سيكون ذلك بطيئاً وعلى مراحل ما لم يحدث شيء فوق المتوقع. ذلك أن طبيعة الأشياء هي التطور وسيطرة القوي على الضعيف إذا تمكن من ذلك، وأن ينتفض الضعيف إذا توفرت لديه أسباب القوة ليفعل ذلك.
استطاعت الولايات المتحدة فرض سيطرتها على العالم بأسره تقريبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكانت قد بدأت بذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وساعدها في ذلك اقتصادها القوي وقدراتها العسكرية والبشرية الكبيرة، وربما كان الأهم من ذلك كله اندفاعها ورغبتها في أن تكون القوة الأكبر في العالم والمتحكمة به، وأن قدراتها فرضت ذلك وسهلته عليها. وكانت أيضا الجهة الوحيدة التي توفرت لها جميع تلك الشروط.
لكن الوضع تغير الآن. فقد فقدت الولايات المتحدة تفردها بالقدرات الاقتصادية والعسكرية والبشرية التي مكنتها من إخضاع منافسيها وإخراجهم من الجزء الهام والأكبر من دائرة النفوذ العالمي، فقد تمكنت الصين من الصعود اقتصادياً بشكل سريع وحاسم، ومن المتوقع أن يتجاوز اقتصادها القوة الاقتصادية الأمريكية في بضع سنين، كذلك فإن القدرة العسكرية لديها تسارعت بقوة، وبالرغم من عدم وصولها إلى مستوى القدرة الأمريكية إلا أنها وصلت إلى حد ليس بعيداً كثيراً عن ذلك، ويؤهلها لأن تكون منافساً عسكرياً لا يستهان به. علماً بأنه لا تمكن المقارنة في التفوق لأي من الأطراف التي لديها أسلحة نووية بالقدرات النووية والأخرى ذات التدمير الشامل.
كذلك فإن روسيا التي ورثت عن الاتحاد السوفياتي هزيمته النكراء، قد استيقظت وفي فمها طعم المرارة من ذلك الانكسار، وعادت لتنتقم وتحاول استعادة دورها القديم، فركزت على التسلح بشكل كبير لتصل إلى مستويات تعطيها القدرة على منافسة القوة الأكبر، ليس في المجال النووي الذي يعني استخدامه فناء الطرفين، بل في المجال التقليدي المسموح بالمواجهة من خلاله إلى حد ما في هذا الوقت، ولكن اقتصادها لا يزال يعاني الكثير مما لا يسمح لها بالوصول إلى ما وصلت إليه الصين والولايات المتحدة من قدرة اقتصادية فائقة تجعلها تفعل كل ما تريد لاستعادة الدور الآفل.
كل ذلك أتى في وقت تراجعت فيه قدرات الولايات المتحدة، ليس في الكمية أو الكيفية، بل في الرغبة والدافع في القيام بالدور الذي كانت تقوم به في السابق، فقد تأثرت سلباً بخساراتها في فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها بحيث أصبحت غير قادرة على الزج بجنودها في حروب قد تكلفها بشرياً ما كانت تدفعه بسهولة في حروب أخرى كالحرب العالمية الثانية أو في الحرب الكورية أو التدخلات الصغيرة الأخرى، فقد أصبح الشعب الأمريكي أكثر حساسية تجاه مثل تلك الخسائر، ورفع تلك الحساسية القادة السياسيون كالرئيس السابق ترامب، وغيره من السياسيين الذين عادوا لسياسة الانطواء التي سادت في أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية، بسبب الهزات الاقتصادية التي تعرضت لها أمريكا في ذلك الوقت، وتكررت في العقد الأخير وما قبله، مما جعل الأمريكيون يفضلون الانطواء والاهتمام باقتصادهم وأنفسهم وبلدهم “أمريكا أولاً” بدلاً مما كان آباؤهم يسعون إليه في السيطرة على العالم تحت مسمى نشر الحرية والديمقراطية ومحاربة الشيوعية، ولم يعد يجدي الادعاء بمحاربة الإرهاب ليسوغ تدخلات جديدة في العالم كان أسوأ مثل لها التدخل في العراق وأفغانستان والذي أثبتت نتيجته كذب وادعاء السياسيين في حينه بمحاربة نظام صدام لأنه يهدد العالم بأسلحته غير التقليدية، ومحاربة القاعدة وفروعها بحجة محاربة الإرهاب، كما أصبح مؤخراً البديل للتعويض عن ذلك ممجوجاً ومبتذلاً، إذ كل حين وآخر يستهدف أحد “الإرهابيين” في بناء معزول لا يعرفهم فيه أحد حتى جيرانهم بأكثر الأسلحة تطوراً وأكثر الجنود عتاداً ثم الادعاء بأن ذلك كان نصراً مؤزراً على الإرهاب .
هذا التطور السلبي في قدرات الولايات المتحدة هو العامل الذي أعطى الآخرين القدرة على تحدي الولايات المتحدة كما نرى اليوم من الرئيس الروسي، فبالرغم من معرفته بأن القدرة العسكرية الأمريكية مع قدرات حلف الناتو تستطيع هزيمة قواته التي حشدها على الحدود الأوكرانية فيما إذا بدأ حرباً هناك، لكنه يعلم علم اليقين أن الولايات المتحدة والناتو ليسوا في وارد الدخول في أية مواجهة عسكرية ضده على الاطلاق، ليس لخشيتهم من هزيمة أمامه بل لأنهم يريدون تجنب دخول حرب تكلفهم خسائر بشرية لا تقبل شعوبهم بتحملها، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية والعسكرية وخسائر أخرى يحسبون لها ألف حساب قد تتسبب في عودتهم لمواجهة خراب كبير فيما إذا تطورت الحرب لما بعد الحرب التقليدية، وهو ما يمكن أن يقوم به بوتين باعتباره شخص مهووس بالسلطة والنفوذ، وخسارة كبيرة له في أوكرانيا قد تدفعه لهدم الهيكل على رأسه ورؤوسهم. لذا أصبحت لدى بوتين القدرة على اتباع سياسة حافة الهاوية والتهديد بالحرب والوصول بالحشود العسكرية لدرجتها القصوى، ليس للوصول إلى مواجهة عسكرية، بل للحصول على تنازلات يطالب بها وأهمها عودة النفوذ الذي خسره الاتحاد السوفياتي كنتيجة للمواجهة السياسية مع الغرب. وما المطالب التي يصر عليها حالياً فيما يتعلق بأوكرانيا إلا الرأس الظاهر من جبل الجليد، إذ أن طموحاته تذهب بعيداً جداً عن ذلك وتصل إلى خروج دول شرق أوربا من حلف الناتو، والأبعد من ذلك هو القبول به على المسرح الدولي كشريك متساوٍ مع القوة الأكبر في العالم، ومنحه ما يتبع ذلك من نفوذ وميزات ومنافع.
ولهذا يأتي اتفاقه الأخير مع الصين تماماً كما كان اتفاق هتلر مع ستالين وموسوليني، وهو تقاسم النفوذ في العالم بعد أو وجدوا انفسهم خارج لعبة فرض النفوذ والاستعمار التي استطاعت فرنسا وبريطانيا في حينه السيطرة من خلالها على معظم أنحاء العالم النامي، فروسيا والصين تريا الآن أنهما لا تأخذان ما تستحقانه من نفوذ وفرض مصالح في العالم بالرغم من قدراتهما اللتان تقتربا أو ربما تفوقا (كما يرى قادتهما) قدرات الآخرين، ذلك أن القدرات الصينية والروسية تكملان بعضهما بعضاً فيما يتعلق بالقدرات العسكرية والاقتصادية، فما تحتاجه روسيا تملكه الصين والعكس صحيح، كذلك فإن لدى كل منهما مشاكل سياسية ومواجهة مع الغرب في تايوان وبحر الصين، وأوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي التي تقع ضمن النفوذ الروسي كما يراها بوتين ويريد استرجاع النفوذ المطلق فيها وعليها.
هذا هو الحال الآن والذي يبدو أنه يسير باتجاه تصاعدي ولا حل وسط قريب يمكن أن ينزع فتيل المواجهة. فالغرب لا يريد أن يتبع سياسية “المسايرة” أو “المهادنة” (appeasement) التي اتبعتها بريطانيا مع هتلر بالتغاضي عن ضمه لأراضي المتحدثين بالألمانية في تشيكيا قبل الحرب العالمية الثانية أملاً بتجنب الحرب ضده، لكن تلك السياسة المهادنة لم تؤد إلى ذلك، بل ربما شجعت هتلر وفتحت قابليته على غزو بولندا قناعة منه أن بريطانيا أضعف من أن تدخل معه حرباً تعلم أنها لن تتمكن من النصر فيها، وكانت تلك السياسة في وقتها تحظى بالدعم الشعبي تماماً كما هو المزاج الشعبي في أوربا والولايات المتحدة الآن بعدم دخول حرب في أي مكان، وخاصة في أوربا التي ذاقت ويلات الحربين العالميتين وخسرت عشرات الملايين من شعوبها نتيجة لذلك. كما أن الدخول في حرب ما، وإن كانت بالأسلحة التقليدية فإن خسائرها قد تفوق بكثير خسائر الحربين بعد أن أصبح التقدم التقني قادر على الفتك بأضعاف المرات ما كانت تفتك به أسلحة ذلك الزمن.
وفي الوقت ذاته، يبدو أيضاً أن الغرب ليس في وارد التنازل كثيراً عن سياسته الحالية خاصة في موضوع دخول أوكرانيا أو عدمه في حلف الناتو لأن ذلك سيجعل بوتين يطالب بأمور أخرى ستكون أصعب مستقبلاً، ولأنه سيكون فاتحة لتنازلات أخرى. أما بوتين فقد أصبح من الصعب عليه أيضاً النزول عن الشجرة دون أن يجني ثماراً تستحق ما قام به حتى الآن من تهديدات وضغوطات، وإلا فسيصبح بهلولاً يستهزأ به وبما يطالب به مستقبلاً. خاصة إذا كان الأمر كما يعتبره الآن يتعلق بحديقته الخلفية.
إن ما يحدث لا يبشر بالخير، فبالرغم من سياسات الغرب الاستعمارية والتسلطية، إلا أن سياسات روسيا والصين ليستا أرحم من تلك السياسات إن لم تكن أسوأ منها بمراحل كثيرة. وإذا حدثت المواجهة فلن يكون المستقبل في صالح بلدنا في جميع الأحوال، خاصة وأن سورية أصبحت قاعدة روسية بامتياز، وتستخدمها روسيا تحضيراً لمواجهة مع الناتو وتنشر قواتها في سورية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ففي الشرق تعمل للإحاطة بقوات الناتو في تركيا وخاصة بالقرب من قاعدة انجرليك وفي مطار القامشلي، وبالقرب من القوات الأمريكية الداعمة لقسد في شرق سورية، أما في الغرب فإن قاعدة حميميم ستكون من أهم القواعد لأية مواجهة مع الناتو في شرق المتوسط. كذلك أصبح مرفأ طرطوس قاعدة بحرية متقدمة رست فيها بوارج حربية مستعدة للدخول في مواجهة عسكرية واسعة، كما أن السيطرة مؤخراً على مرفأ اللاذقية تجعله مرفأً رديفاً في خدمة روسيا وخططها الحربية، ولا يدري أحد ماذا يخطط بوتين لسورية في المستقبل، فلا خير يرتجى منه.
****
11/2/2022م
المصدر: المجموعة المهنية الاستشارية