قد يبدو غريباً في البداية أن يتصدر فجأة بلد يقع على أطراف أوروبا مثل أوكرانيا الساحة السياسية والسياسة الخارجية الأميركية المضطربة. وفيما يأتي تحقيق المساءلة في واشنطن ليضيف تفاصيل إلى قصة محاولات إدارة ترمب ربط الدعم العسكري الأميركي للبلاد بتعاون أوكرانيا في التحقيق بخصوم الرئيس دونالد ترمب الديمقراطيين، بات عهد ترمب نفسه على المحك. لكن تبعات هذا الموضوع لا تقف عند هذا الحد وحسب، إذ تثير تساؤلات حول شرعية واستدامة النفوذ الأميركي نفسه.
لكن في الواقع يجب ألا يكون وجود أوكرانيا وسط هذه العاصفة مفاجئاً على الإطلاق. خلال ربع القرن الماضي تحطمت جميع المحاولات الكبرى تقريباً لتأسيس نظام مستدام في فترة ما بعد الحرب الباردة في أوراسيا في المياه الأوكرانية الضحلة، فأوكرانيا هي النقطة التي تقدم المشهد الأوضح عن الانفصال التام بين أوهام نهاية التاريخ المنتشية بالنصر والواقع المستمر للمنافسة بين القوى الكبرى.
شكلت أوكرانيا، في أعين معظم واضعي السياسات الأميركيين، بلداً فتياً جسوراً نجح على الرغم من عبء التاريخ في الانطلاق بمسار التطور الديمقراطي باعتباره جزءاً من النظام العالمي الجديد بعد سقوط جدار برلين، ولكنه بقي في هذه الأثناء، من وجهة نظر الكرملين، جزءاً لا يتجزأ من دائرة نفوذه القديمة العهد، التي تخضع إجمالاً لقوانين السلطة القديمة، ويعود إلى هذا التباين بين وجهتي النظر هاتين شطر كبير من أسباب ودواعي تحول آمال ما بعد الحرب الباردة إلى حال الاقتتال والاضطراب السائدة في العالم اليوم.
لطالما تجنب واضعو السياسات الأميركيون والغربيون الأسئلة الصعبة حول مكانة أوكرانيا في نظام أوراسيا ودورها في العلاقة المشحونة بين واشنطن وموسكو. ربما أفضت نهاية الحرب الباردة إلى ختام منافسة جيوساسية، لكن لم تؤذن بنهاية الجغرافيا السياسية نفسها. كما أن حل الاتحاد السوفياتي لم يعن أن الهواجس والطموحات والقدرات السوفياتية اختفت. أفل الاتحاد السوفياتي نظرياً على الورق في ديسمبر (كانون الأول) 1991، لكن نفوذه لم يتوقف أو يندثر في ذلك التاريخ، فالامبراطوريات لا تتبدد ببساطة بين ليلة وضحاها، بل يكون مسار موتها طويلاً وفوضوياً، فتنكر تدهورها متى تسنى لها، وتتنازل عن أقاليم سيطرتها حين تضطر، وتطلق محاولات توسع كلما وجدت فرصة لذلك، وأوضح مثال على الانهيارالسوفياتي المزمن والمتواصل التي لم تنه فصوله إلى اليوم هو أوكرانيا، البلد الذي أطاح كل محاولات إرساء نظام دائم في قارة أوراسيا.
ويروي تاريخ أوكرانيا خلال ربع القرن الماضي قصة المثابرة المذهلة للتفكير السحري [منطق لا يفترض علاقات سببية بين العوامل]، والثمن الأعلى الذي يترتب عليه في النهاية ، ولم يعد الأوكرانيون وحدهم من يدفعونه، بل الأميركيون كذلك.
نهاية حقبة
في العام 1991 وبعد سقوط جدار برلين وانهيار حلف وارسو بعد ذلك، اعتقد آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، كما أول رئيس روسي، بوريس يلتسين، أنهما قادران على إعادة رسم وجه الاتحاد السوفياتي عوض حله، وروجا لفكرة تغيير شكل الاتحاد ليتحول عبر معاهدة إلى رابطة أكثر مرونة تجمع الجمهوريات الـ 15 التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي، وظنا أنهما قادران على تحقيق هذه الغاية من دون إعطاء المواطنين أي خيار حقيقي ليعبروا عن رغبتهم في البقاء ضمن امبراطورية خضعت للإصلاح من عدمه.
وكما يحدث عادة في المراكز السياسية للامبراطوريات، أساء غورباتشوف ويلتسين بشكل بالغ تقدير الميول والمشاعر في أطراف الامبراطورية. لم يكن لدى أغلبية الأوكرانيين أي مصلحة في مساندة بقايا امبراطورية، بل أرادوا الاستقلال التام. لكن في غياب ثاني جمهورية سلافية من حيث الكثافة السكانية، لم ير أي من غورباتشوف أو يلتسين مساراً ممكناً نحو اتحاد جديد، ويعود ذلك جزئياً إلى عدم رغبتهما في اكتساب الجمهوريات غير السلافية أهمية أكبر في ما سيكون بقايا اتحاد، وإلى صعوبة تمويل وضبط الروس هكذا اتحاد من دون أوكرانيا.
وفي مواجهة هذه المحاولة وقع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب ضحية التفكير السحري، فمع أنه كان ترأس بلداً نشأ نتيجة التمرد على الامبراطورية [البريطانية]، أمل بوش كذلك أن يقنع أوكرانيا بالبقاء ضمن الاتحاد السوفياتي، فقد خشي أنه في حال انهياره قد يتحول الاتحاد السوفياتي إلى نسخة مرعبة من يوغوسلافيا، التفكك والغرق في العنف العرقي، تضاف إليه الأسلحة النووية.
في أغسطس (آب) 1991 وخلال رحلته الأخيرة إلى الاتحاد السوفياتي المحتضر، أدلى بوش بالتالي بخطاب “دجاج كييف” سيء الذكر، أملاً في ثني أوكرانيا عن الانسحاب. وتوجه إلى البرلمان الأوكراني فوعظه قائلاً “إن الحرية والاستقلال ليسا الأمر نفسه. لن يقدم الأميركيون دعمهم لمن يطمحون للاستقلال من أجل استبدال الطغيان البعيد بديكتاتورية محلية”. حمل الخطاب مفارقة ساخرة حادة، ها هو الرئيس الأميركي يسعى بجهد إلى إطالة عمر بلد كان حتى وقت قريب ألد أعداء الولايات المتحدة.
لم ينجح بوش في إقناع البرلمان الأوكراني، الذي استغل ضعف موسكو بعيد محاولة انقلاب فاشلة للإعلان عن نيته بالاستقلال الكامل. دعت كييف إلى انتخابات مزدوجة [استفتاء على الاستقلال وانتخاب رئيس] في ديسمبر 1991، أتاحت للأوكرانيين فرصة التصويت على ذلك الإعلان البرلماني واختيار رئيس جديد. أكثر من 90 في المئة من الناخبين اختاروا الاستقلال، بما فيهم 54 في المئة من الناخبين في شبه جزيرة القرم التي تسكنها أغلبية روسية وفيها ميناء سيفاستوبول الحيوي على البحر الأسود، أما في منطقة دونباس شرق أوكرانيا فتخطى تأييد الاستقلال نسبة 80 في المئة.
وحينها أدرك يلتسين متأخراً، بعد أن أزاح غورباتشوف من موقع الزعيم البارز في موسكو، مدى سوء تقديره لرغبة الأوكرانيين بالتحرر من الامبراطورية السوفياتية المتهالكة.
بعد الانقلاب الفاشل، كان يحاول إبقاء أوكرانيا داخل الاتحاد عبر تهديد كييف بضم شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس، ولكن ما أثبته اقتراع ديسمبر هو أن تهديدات يلتسين ولدت نتيجة عسكية، لأنها عززت المقاومة في كييف وأثارت قلق باقي الجمهوريات السوفياتية (وواشنطن معها).
وجد يلتسين نفسه مضطراً إلى تغيير استراتيجيته جذرياً. قرر لقاء قادة أوكرانيا وبيلاروس بعد مرور أسبوع على تصويت أوكرانيا لمصلحة الاستقلال في كوخ للصيد في بيلاروس، على مقربة من الحدود البولندية. وإذ أدرك أنه عاجز عن إبقاء أوكرانيا في الاتحاد، وأن جمهوريات عدة ستحذو حذو أوكرانيا وتنسحب منه بدورها، فضل أن يحطم الاتحاد، وهو النظام السياسي الوحيد الذي عرفه في حياته، على أن يعلق مع جمهوريات غير سلافية إجمالاً، واتفق القادة الثلاثة على إعلان نهاية الاتحاد السوفياتي ولم يبلغوا غورباتشوف سوى بعد إجرائهم اتصالاً هاتفياً ببوش.
نووية منذ المهد
فور استقلالها أصبحت أوكرانيا خطراً مباشراً على الغرب، فقد “ولدت نووية”. ورثت الدولة الجديدة نحو 1900 رأس حربي نووي و2500 سلاح نووي تكتيكي. لا شك في أن سيطرة أوكرانيا على الأسلحة النووية الموجودة على أراضيها كانت حسية وليس تشغيلية، لأن قوة التحكم بإطلاقها كانت ما تزال في يد موسكو، ولكن ذلك لم يكن مهماً جداً على المدى البعيد، نظراً إلى أنها غنية باليورانيوم وتمتلك قدرات تكنولوجية مذهلة كما قدرات إنتاجية، لا سيما إنتاج الصواريخ. كل الصواريخ الباليستية السوفياتية التي سلمت إلى كوبا في العام 1962 مثلاً، كانت أوكرانية الصنع.
أصبحت أوكرانيا بين ليلة وضحاها ثالث أكبر قوة نووية في العالم، تمتلك ترسانة أكبر من الصين وفرنسا والمملكة المتحدة. (ورث بلدان جديدان كذلك، هما بيلاروس وكازاخستان أسلحة نووية، ولكن ليس بهذا القدر أبداً).
كانت الأسلحة الاستراتيجية الأوكرانية قادرة على تدمير المدن الأميركية، وأصبحت الأولوية القصوى والفورية لإدارة بوش بالتالي أن تحدد من سيمتلك قدرة التحكم بإطلاق الأسلحة والسيطرة العملية اليومية عليها.
قدم وزير الخارجية الأميركي جيمس بايكر لبوش تحليلاً قاتماً لما يترتب على هذه التطورات، وقال بايكر لبوش “على الصعيد الاستراتيجي ما من قضية خارجية تستحق انتباهك أو وقتك أكثر من” مستقبل الترسانة النووية السوفياتية في أعقاب انقسام البلاد. “إن تحول الوضع إلى وضع شبيه بما حدث في يوغوسلافيا، مع 30 ألف سلاح نووي يمثل خطراً هائلاً على الشعب الأميركي الذي لا يخفاه الأمر وسوف يحملنا المسؤولية إن لم نتصرف”.
رأى بايكر أنه لا مصلحة للولايات المتحدة في حصول منافسة نووية بين الدول السوفياتية السابقة، إذ يشكل هذا الموضوع خطراً كبيراً عليها، ولا يمكن بالتالي السماح سوى لقوة نووية واحدة بالانبثاق عن الاتحاد السوفياتي، وهي روسيا، وكان هذا التفضيل يعود من ناحية إلى تاريخ واشنطن الطويل في التعامل مع موسكو في مواضيع الحد من الأسلحة، فقد اعتبر بايكر أن التعامل مع الشيطان الذي تعرفه خير من التعاطي مع مجموعة جديدة من القوى النووية.
ونتيجة لذلك التقت مصالح واشنطن وموسكو فجأة، فكلاهما يريد إما تدمير كافة الأسلحة النووية للاتحاد السوفياتي السابق أو نقلها إلى روسيا. عملت إدارة بوش كما خليفتها بجد بالتعاون مع يلتسين لتحقيق هذه الغاية، مستخدمة سلسلة من الترغيب والإكراه الدبلوماسي.
بسبب الآثار العميقة التي خلفتها في أنفسهم أهوال كارثة تشيرنوبل النووية التي غطت إشعاعاتها أجزاء كبيرة من بيلاروس وأوكرانيا وغيرها من الدول الأوروبية، بدا أن الأوكرانيين يميلون في بادئ الأمر إلى الموافقة على الخطط الأميركية والروسية لنزع السلاح النووي من أوكرانيا، ولكن المنافسة الامبراطورية المستمرة مع روسيا، لا سيما على وضع شبه جزيرة القرم، أدت بكييف إلى تغيير رأيها. شهد مايو (أيار) 1992 صداماً بين موسكو وكييف حول مصير أسطول البحر الأسود التابع للاتحاد السوفياتي والذي كان يرسو في ميناء سيفاستوبول، واستمر الخلاف على تقسيم الأسطول والسيطرة على الميناء بعدها خمس سنوات، ومع اشتداد التوتر بدأ البرلمان الأوكراني بطرح مطالبات جديدة مقابل تسليم الصواريخ السوفياتية سابقاً: تعويض مالي، واعتراف رسمي بحدود أوكرانيا وضمانات أمنية.
في ديسمبر 1994 عقد مؤتمر قمة دولي في بودابست جمع أكثر من 50 زعيماً كان من المقرر أن يأسسوا منظمة الأمن والتعاون في أوروبا انطلاقاً من مؤتمر سابق يحمل الاسم نفسه. واستغل الزعماء البريطانيون والروس والأميركيون المناسبة لتقديم ما سمي بمذكرة بودابست للضمانات الأمنية لكييف في محاولة لتهدئة مخاوف الأوكرانيين. كان هدف المذكرة استئناف عملية نزع السلاح النووي والانتهاء من إزالة الأسلحة النووية من أوكرانيا، ومقابل التخلي عن كل أسلحتها تحصل أوكرانيا على تعهد بسيادتها الإقليمية وليس ضمانات وحسب، وهذا فارق مهم ولكن لم يبد أنه كان بالغ الأهمية في العالم المندفع والحافل بالآمال خلال فترة ما بعد الحرب الباردة.
بحلول ذلك الوقت كانت واشنطن قد قادت كذلك عملية إنشاء منظمة أمنية مرتبطة بحلف الـ “ناتو” اسمها الشراكة من أجل السلام. كانت هذه المنظمة مفتوحة أمام دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، أي أنها وفرت بر أمان بالنسبة إلى أوكرانيا، وحفزتها أكثر بالتالي على التخلي عن أسلحتها النووية.
قررت أوكرانيا التوقيع على المذكرة، على الرغم من عدم حصولها على ضمانات أقوى، وقد أقدمت كييف على هذه الخطوة لأنها كانت في موقع ضعيف، فالبلد كان على وشك أن ينهار اقتصادياً، ولكن في وجه تحالف الولايات المتحدة وروسيا ضدها في هذه المسألة كانت أوكرانيا أمام احتمال العزلة الدولية في حال لم توقع، وبدا أن توقيع المذكرة سبيل للإفلات من العزلة والحصول على المساعدة المالية التي هي في أمس الحاجة إليها.
أعطت مذكرة بودابست في البداية الانطباع بأنها تمثل لحظة مهمة من الانتصار المشترك والوحدة بين واشنطن وموسكو، وكما قال الرئيس الأميركي بيل كلينتون في معرض إسدائه النصح ليلتسين، كان الطرفان شريكان في قضية محقة “أمامنا الفرصة الأولى منذ صعود الدولة القومية [بروز الدولة الأمة] لجعل القارة الأوروبية تعيش بسلام”، وشدد كلينتون بشكل محق على أن أوكرانيا تمثل “ركيزة” ذلك الجهد.
ولكن الوثائق التي رفعت عنها السرية أخيراً تشير إلى أن الانتصار كان مجتزءاً، وهو أمر أدركته أوكرانيا في ذلك الوقت ولكنها لم تكن قادرة على التصرف حياله.
بحسب اعتراف دبلوماسي أوكراني لنظرائه الأميركيين قبل توقيع مذكرة بودابست بقليل، لم يكن بلده “يتوهم أبداً بأن الروس سيحترمون الاتفاقات التي وقعوا عليها”. علمت كييف أن مركز الامبراطورية السابق لن يدع أوكرانيا تنجو بهذه السهولة، وفعلاً كانت الحكومة الأوكرانية تأمل ببساطة “في الحصول على اتفاقات تسمح (لكييف) بطلب المساعدة في المنتديات الدولية حين ينتهك الروس” هذه الاتفاقات.
وفي إشارة إلى أن القادم أسوأ، فاجأ يلتسين كلينتون خلال المؤتمر نفسه بشنه هجوماً على الخطط الأميركية من أجل توسيع الـ “ناتو”، فقال إن كلينتون يرغم العالم على الانتقال من حرب باردة إلى “سلام بارد”. تكشف وثائق أصبحت متاحة حديثاً أن هذا الانتقاد أثار مواجهة حامية في واشنطن قبل عيد الميلاد في العام 1994. أصر وزير الدفاع الأميركي ويليام بيري على مقابلة الرئيس لتحذيره من أن موسكو الجريحة سوف تشن هجوماً رداً على توسيع الـ “ناتو” وتعرقل المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا حول الحد من الأسلحة الاستراتيجية، ولكن محاولات بيري لم تنجح.
مع استئناف إزالة الأسلحة النووية من أوكرانيا بعد توقيع مذكرة بودابست لم تعد أوكرانيا أولوية بالنسبة إلى واشنطن، وفي هذه الأثناء اكتسب معارضو الشراكة من أجل السلام، الذين أرادوا توسيع الـ “ناتو” بأسرع وقت ممكن وضم عدد من الدول المختارة عوضاً عن بناء حلف أمني جديد أقل انضباطاً من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، زخماً جديداً بفضل انتصار الحزب الجمهوري الذي يؤيد توسيع الـ “ناتو”، خلال الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1994.
وعلى الرغم من محاولات بيري، أوضح كلينتون لوزير دفاعه أن الولايات المتحدة سوف تباشر بتوسيع الـ “ناتو” نحو أوروبا الوسطى والشرقية، وهكذا وجدت أوكرانيا نفسها مشتتة بشكل متزايد وخطر، فهي تقع على حدود امبراطورية روسية مبتورة ترسم أحلام خروجها من إذلال هزيمتها الأخيرة، وتقع في الوقت نفسه خارج نظام ما بعد الحرب الباردة الناشئ في الغرب. ليست مستقرة في مكانة ثابتة وليس أمامها حتى طريق واضح لتسلكه نحو أي مكانة ثابتة سواء في المنظمة الأمنية الرئيسة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، التي اتضح أنها الـ “ناتو” وليس الشراكة من أجل السلام، أو في الاتحاد الأوروبي، ونتيجة لذلك عانت في سبيل التحول نحو الديمقراطية ومكافحة الفساد وشياطينها الداخليين، فيما قبعت في مساحة رمادية ملتبسة، وفي وضع استقطب الروس مع أحلامهم في استعادة مجد الماضي، وفي النهاية خلف صراع أوكرانيا تبعات تخطت حدود البلد نفسه، ومست في الواقع نظام حقبة ما بعد الحرب الباردة نفسه.
بعد مساعدتها في إزالة الأسلحة النووية من أوكرانيا، اعتبرت واشنطن بأنه يمكنها التوقف بشكل عام عن القلق بشأن البلد، لاعتقادها بأن استقلاله أمر واقع، ولكن في الحقيقة لم تتقبل موسكو أبداً هذا الاستقلال، وأحد أسباب ذلك هو أنها لم تعتبر أوكرانيا جزءاً حيوياً وأساساً من امبراطوريتها السابقة وحسب، بل اعتبرتها القلب التاريخي والعرقي لروسيا الحديثة، الذي يستحيل فصله عن الجزء الرئيس من البلد ككل.
لم يسع مذكرة بودابست إخفاء هذا الانفصام والتباين إلى الأبد. لو كانت المذكرة وفرت ضمانات السيادة الإقليمية التي طالب بها الأوكرانيون عوضاً عن تطمينات وحسب، فلربما كانت روسيا لتواجه عوائق أكبر بكثير تمنعها عن انتهاك حدود أوكرانيا، بما في ذلك في شبه جزيرة القرم وفي منطقة دونباس. (وكان من الممكن اعتماد بديل سياسي آخر وهو تعزيز الشراكة من أجل السلام، التي كانت أوكرانيا عضواً فيها، بدل تهميش الشراكة ودعم توسيع الناتو في عدد قليل من الدول). لم تمر فترة طويلة قبل أن تتضح تبعات غياب وسائل الدعم هذه.
نذر شؤم
ظهر تفكير واشنطن السحري مجدداً بشكل جلي حين أصبح عميل سابق في جهاز الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) اسمه فلاديمير بوتين فجأة الرئيس المؤقت لروسيا في 31 ديسمبر 1999. في أعقاب ما بدا أنه صفقة سرية (تسليم السلطة مقابل التمتع بالحماية بعد التقاعد)، أدلى يلتسن من دون سابق إنذار بتصريح عبر شاشات التلفزيون في ليلة رأس السنة أعلن فيه استقالته الفورية وتولي بوتين السلطة، وفجأة ما عادت البيئة الاستراتيجية متساهلة مع محاولات أوكرانيا المستمرة بالتأكيد على استقلالها.
على النقيض من يلتسن كثف بوتين جهود إعادة بسط النفوذ الروسي في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، بداية من طريق الوسائل السياسية والاقتصادية، وبعدها من طريق اللجوء إلى القوة العسكرية، ولكن واضعي السياسات في الغرب تمسكوا باعتقادهم بأن بوتين عيّن لكي يتابع المسيرة الداخلية والدولية التي بدأها يلتسن.
لم يظهر الخلل في هذا التفكير للوهلة الأولى، إذ أعطى بوتين الانطباع بأنه مستعد للتعاون مع الغرب، لا سيما في أعقاب أحداث الـ 11 من سبتمبر(أيلول)، ولكن بوتين لم ينظر إلى هذا التعاون على أنه انعكاس لمصالح مشتركة، بل اعتبره تنازلاً يجب أن تجني موسكو مقابله تنازلات من الغرب، ولكن واشنطن رفضت أن تنفذ ما توقعه منها الكرملين مقابل دعمه الاجتياح الأميركي لأفغانستان، أي السماح له بالتصرف بحرية في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق وإطلاق يده هناك، بل استمرت الولايات المتحدة بدعمها لسيادة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ورفضت الاعتراف بما اعتبره بوتين حق روسيا الدائم في السيطرة على امبراطوريتها السابقة.
وتفاقمت المشكلات حين وضع توسع الـ “ناتو” من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى في أوروبا الشرقية، حداً لشهر العسل القصير بين بوتين والرئيس الأميركي جورج بوش الابن.
في مارس (آذار) 2004 قبل حلف الـ “ناتو” انضمام دول البلطيق الثلاثة إليه، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، كانت سابقاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وأربع دول غيرها، وآذن انضمام دول البلطيق بأن توسع الـ “ناتو” لن يقف عند الحدود السابقة للاتحاد السوفياتي. وسار الاتحاد الأوروبي على هذا المسار أيضاً في مايو (أيار) 2004، حين مد حدوده باتجاه الشرق لتشمل عدداً من دول الاتحاد السوفياتي السابق وحلفائها، بما فيهم دول البلطيق وتشيخيا وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا، نظراً إلى أن بوتين، قائد امبراطورية تنكر انهيارها، كان ما يزال يعتبر الحدود السوفياتية مهمة ووازنة، فقد رأى في هذه الخطوات إساءة بالغة.
سلطت هذه التوسعات الضوء على ضعف أوكرانيا، باعتبارها إحدى الدول المعدودة المتبقية شرق الـ “ناتو” وحدود الاتحاد الأوروبي التي تلتزم نظاماً ديمقراطياً تدور عجلته على أفضل وجه، وجدت أوكرانيا نفسها فجأة عالقة على نحو مؤلم بين الشرق والغرب، وهذا أحد أسباب اندلاع الثورة البرتقالية التي عبر الأوكرانيون من خلالها بوضوح عن رغبتهم في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
تدفقت الحشود إلى شوارع كييف في نوفمبر وديسمبر 2004 في أعقاب انتخابات رئاسية مشكوك في شرعيتها، ونجحت في المطالبة بإجراء انتخابات جديدة وحرة حقاً، وأسفرت الانتخابات عن نجاح المرشح الموالي لأوروبا فيكتور يوشتشينكو.
شكلت الثورة البرتقالية هزيمة مزدوجة لبوتين، فلم يقف الموضوع عند خسارة مرشحه (على الرغم من توجه الرئيس الروسي شخصياً إلى أوكرانيا لشن حملة انتخابية بالنيابة عنه)، فالتظاهرات المطالبة بالديمقراطية في أوكرانيا عززت الشعور المعادي لروسيا في الدولتين الأخريين اللتين شهدتها “ثورات ملونة”، جورجيا وقرغيزستان.
كان بوتين حساساً بشكل خاص للثورات الشعبية التي يمكنها أن تؤدي إلى تظاهرات شعبية واسعة، (كان عميلاً لجهاز “كي جي بي” في شرق ألمانيا حين زعزعت تظاهرات شبيهة بهذه القيادة المؤيدة للاتحاد السوفياتي في البلاد عام 1989)، ولأنه رفض القبول بأن أوكرانيا أخرجت نفسها فعلاً من نطاق سيطرته، اعتبر أن احتجاجات الشارع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتظاهرات المناوئة لسلطته في الداخل الروسي، ومن وجهة نظره كانت هذه الاحتجاجات تشبه بعضها، وهي تهديد مباشر لاستقرار نظامه الشخصي، ولكن إدارة بوش استنتجت من جهتها أن هذا هو الوقت المناسب لتحفيز توسع الـ “ناتو” أكثر، بحيث يشمل جورجيا وأوكرانيا.
كان التوقيت أسوأ ما يكون وفي غير محله كما اتضح بعد ذلك، إذ أضاعت الولايات المتحدة فرصتين قبل ذلك من أجل تعزيز أمن أوكرانيا بكلفة أقل. كانت قادرة على إعطاء كييف الضمانات التي طلبتها كجزء من مذكرة بودابست في العام 1994، كما كان بإمكانها إعطاء الأولوية للبرنامج الأكثر شمولية، الشراكة من أجل السلام، بدل الـ “ناتو”. عوضاً عن ذلك، كانت إدارة بوش تدفع باتجاه توسيع الـ “ناتو” مع بلوغ صدمة روسيا ما بعد انتهاء الامبراطورية حد العنف. أرادت إدارة بوش أن تستغل مؤتمر قمة الـ “ناتو” المنعقد في العام 2008 في بوخارست من أجل حشد الموافقة على بداية إجراءات ضم جورجيا وأوكرانيا، ولكن بعد حصول تدخلات في آخر لحظة، لا سيما من جانب واضعي السياسات الفرنسيين والألمان، اكتفى المؤتمر بالإعلان أن جورجيا وأوكرانيا “سوف تصبح عضوتين في الـ “ناتو””، فحافظ بالتالي على وعد العضوية فيما أغلق باب الحلف، ولكن الضرر وقع وسبق السيف العذل.
بعد وقت قصير، قرر بوتين غزو جورجيا [في 2008]، وهي إشارة لم يدرك الغرب معناها الكامل حينها، لم يكن الغزو حادثة منفردة وحسب نتجت عن تهور جورجيا، بل أظهرت حجم الرضة [الصدمة] الروسية الناجمة عن انهيار الامبراطورية المستمر والنقمة على الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، ولكن التفكير السحري وصل عندها كذلك إلى أغلبية الطبقة السياسية في كييف التي وافقت الغربيين في اعتقادهم بأن هذا المصير لن يطال بلادهم لأن الحرب بين أكبر دولتين في الاتحاد السوفياتي سابقاً أصبحت (برأيهم) شبه مستحيلة في عالم ما بعد الحرب الباردة. نظراً إلى الروابط التاريخية والثقافية بين الدولتين السلافيتين، قلة من الأشخاص في كييف كانت قادرة على تخيل حصول تبادل نيران بين الروس والأوكرانيين.
واعتبرت الحرب الروسية – الجورجية في ذلك الوقت عثرة في طريق “إعادة ضبط” العلاقات الأميركية – الروسية في ظل حكم رئيس روسي جديد هو ديمتري ميدفيديف.
تحسنت العلاقات لفترة وجيزة، مما أتاح توقيع معاهدة جديدة لخفض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت) في العام 2010 في عهد الرئيس باراك أوباما، ولكن على غرار مذكرة بودابست في العام 1994، لم يسهم هذا الاتفاق بشكل كبير في تحسين الوضع الأمني في منطقة الاتحاد السوفياتي سابقاً بشكل خاص، مع أنه عزز عدم انتشار الأسلحة بشكل عام.
انبعاث روسيا
في العام 2014 بعد مرور 20 عاماً على توقيع مذكرة بودابست، اندلعت أعمال العنف مجدداً حين حاولت كييف التي تلاشت آمالها بالانضمام إلى الـ “ناتو”، أن تعزز علاقتها مع الاتحاد الأوروبي عوضاً عن ذلك عبر التفاوض على اتفاق تجاري. أغضبت محاولة أوكرانيا الجديدة في التأكيد على استقلالها بوتين، كما سعت روسيا إلى الحفاظ على رقعة نفوذ لها في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق من طريق وقف توسع الـ “ناتو” والاتحاد الأوروبي حتى أوكرانيا التي تحدها من الغرب، ونجح بوتين في الضغط على الرئيس الأوكراني الموالي للروس فيكتور يانوكوفيتش لكي يرفض هذا الارتباط التجاري المقترح، ولكنه صدم أمام عنف رد فعل الشعب الأوكراني، تظاهرات الميدان الأوروبي في أواخر العام 2013 ومطلع العام 2014.
وإزاء سخطه من هذه التظاهرات، أطلق بوتين العنان لغرائزه الامبريالية، وفي انتهاك لمذكرة بودابست سيطرت القوات الروسية النظامية وشبه العسكرية على شبه جزيرة القرم، وسعى بوتين علناً إلى إعادة ضم منطقة الاتحاد السوفياتي سابقاً إلى تحالف عسكري وسياسي واقتصادي جديد في أوراسيا لتحقيق بعض التوازن، مقابل كل من الاتحاد الأوروبي والصين، كما شنت روسيا حرباً هجينة في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، وكان هدف موسكو جعل “التحول إلى الفيدرالية” أمراً ضرورياً في أوكرانيا، بحيث تقرر كل مقاطعة في البلاد سياستها الخارجية الخاصة، مما يعني نهاية الطموحات الأوكرانية الموالية للغرب.
قاومت أوكرانيا بكل الوسائل المتاحة لها، بما فيها مساعدة كتائب من المتطوعين وقواتها العسكرية الخاصة التي أعيد تشكيلها بسرعة بعد سنوات من الإهمال، ونتيجة لذلك حولت روسيا حربها الهجينة إلى حرب تقليدية عبر إرسال وحدات عسكرية نظامية إلى المعركة، وتدخل القادة الأوروبيون للتفاوض على إبرام اتفاق مينسك في سبتمبر (أيلول) 2014 وفبراير (شباط) 2015 التي وفرت إطاراً للحوار على الأقل، ولكن القتال مستمر وقد ذهب ضحيته زهاء 13 ألف شخص منهم جنود وعناصر في الوحدات شبه العسكرية ومدنيين، وأصبح الملايين لاجئين فيما أربعة ملايين شخص تقريباً عالقون الآن في جمهوريات انفصالية غير معترف بها، تمولها روسيا وتدعمها عسكرياً وسياسياً، ولكنها تحافظ بالكاد على استمراريتها الاقتصادية.
بعد نجاحه في الاستيلاء على مساحات جغرافية وزعزعة استقرار أوكرانيا، تشجع بوتين لكي يتوسع في مناطق أخرى، ونشر نظامه قوته العسكرية في المناطق التي تتخطى نطاق الاتحاد السوفياتي السابق باتجاه الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما طور حربه السيبرانية إلى حد كبير، لا سيما في الولايات المتحدة عام 2016 حين استخدمت روسيا في عام الذكرى الـ 25 على وقوع الحدث الذي ولد المرارة في بوتين، أي انهيار الاتحاد السوفياتي، وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الأدوات بهدف التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وبما أن بوتين يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن الـ 20 (على الرغم من احتدام المنافسة على هذا اللقب المؤسف)، لم يكن بالتأكيد سينظم موكباً احتفالياً للمناسبة، بل قرر الانتقام من وزيرة الخارجية الأميركية السابقة ومرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية هيلاري كلينتون، التي اعتبر أنها خططت للعديد من التظاهرات في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق من موقعها في وزارة الخارجية، عبر التدخل في الانتخابات الأميركية لمصلحة خصمها، وكان لتدخله عواقب مصيرية، وها هي المظالم غير المفهومة جيداً للمركز الامبريالي السابق تبدد مرة جديدة الآمال بإنشاء نظام بعد الحرب الباردة.
جرح لم يندمل
بسبب عدم حل قضايا أمن أوكرانيا وموقعها في النظام العالمي الجديد لعقود عدة، تحول البلد إلى ميدان خطر، وقد أصبح حلبة صراع تتصادم فيها مصالح القوى الكبرى من غير التوصل إلى حل أي صراع، كما أصبح مكاناً يمكن للمستشارين الخارجيين أن يجنوا منه المال عبر تقديم المشورة للجهات المحلية حول أفضل الطرق للتفوق على خصومهم، وقد برزت شخصية أميركية بشكل خاص في هذا الإطار هي بول مانافورت.
يعود الفضل في تولي يانوكوفيتش رئاسة أوكرانيا في العام 2010 بشكل كبير إلى إدارة مانافورت لحملته الانتخابية، ومقابل عمله جنى مانافورت من يانوكوفيتش مبلغاً أكبر من ذاك الذي صرح به الأميركي لسلطات بلاده، وبعد اتخاذه القرار المشؤوم بتكليف مانافورت أمر إدارة حملته الانتخابية الرئاسية، ورط ترمب نفسه ومستشاريه في المياه الأوكرانية الضحلة كذلك.
وبعد فترة قصيرة بدأت “أوكرانيا غايت” حين سربت وثائق تكشف الدفعات غير القانونية التي تلقاها مانافورت إلى الصحف الأوكرانية، وأصبحت العلاقة الوثيقة بين مانافورت ويانوكوفيتش قيد التحقيق من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالي، مما أدى إلى إزاحته عن قيادة حملة ترمب الرئاسية. خضع مانافورت للمحاكمة في العام 2018 بتهمة التهرب من الضرائب والاحتيال، وقد حكمت عليه محكمتان في مقاطعتين أميركيتين بالسجن لمدة 90 شهراً، ولكن قبل أن يختفي وراء القضبان يبدو أن مانافورت وشركاءه الأوكرانيين الموالين لروسيا قد زرعوا داخل رأس ترمب فكرة أن المسؤولين الأوكرانيين الفاسدين يسعون إلى إضعافه وتقويض رئاسته.
سرعان ما نمّى الرئيس أفكاره السحرية الخاصة في شأن أوكرانيا، وقرر على الرغم من إجماع آراء المجتمع الاستخباراتي الأميركي ألا يصدق بأن روسيا اخترقت الانتخابات لمصلحته، بل بأن أوكرانيا اخترقتها بالنيابة عن كلينتون، كما تمسك بنظرية مؤامرة تقول بأن نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، المرشح لمنصب الرئاسة الآن، أسهم في طرد مدع عام أوكراني فاسد ليس خدمة لسياسات الولايات المتحدة المعادية للفساد، كما كان الحال، بل لحماية ابنه هنتر بايدن.
كان هنتر قد انضم إلى مجلس إدارة بوريسما، أكبر الشركات الأوكرانية المنتجة للغاز، التي كانت تخضع في ذلك الوقت للتحقيق بتهمة تبييض الأموال، وأدى التفكير السحري في عهد ترمب عملياً إلى تعليق المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا، وهو ما أفرح موسكو أيما فرح، وأضر بشكل بالغ بسمعة الولايات المتحدة في المنطقة.
لقد قام بوتين فعلياً بتجنيد ترمب في محاولاته التوسعية، والآن تهدد أوهام ترمب بتقويض ثقة الناخبين الأميركيين الضعيفة أصلاً في النظام الديمقراطي الأميركي، وإيمان باقي العالم الذي بدأ يتزعزع أساساً في النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، وكان من المفترض أن يجلب عقوداً من السلام والازدهار بعد انتهاء الحرب الباردة.
ركزت تحقيقات المساءلة والعزل السابقة في الولايات المتحدة إما على السلوك غير الأخلاقي أو النشاطات السياسية الداخلية غير المشروعة، ولكن عملية المساءلة الحالية تركز على إقدام الرئيس على إساءة استخدام النفوذ الأميركي في الخارج.
بعد مرور عقود على تلاشيها المزعوم، زعزعت الطموحات الامبريالية لموسكو التي يسعى بوتين الآن إلى تحقيقها من خلال شبكة تمر من الكرملين وتصل إلى البيت الأبيض عبر أوكرانيا، الديمقراطية الأميركية نفسها، وفي هذه الأثناء ما تزال قضية الأمن الأوكراني مفتوحة، وأثبتت العقود الماضية بأنه طالما ظل وضع أوكرانيا غير محسوم وغير مستقر، فسوف تظل تبعات هذا الموضوع تنعكس خارج حدود البلاد.
اعتقدت واشنطن بأنها قادرة على ضمان سيطرة أوكرانيا على مصيرها من دون أي جهد كبير وبكلفة متدنية، ولكن الواقع هو أنها لم تكن قادرة على ذلك، والأسوأ هو أن أفضل السبل لتعزيز أمن أوكرانيا أصبح شيئاً من الماضي، فتوسيع الـ “ناتو” بحيث يضم أوكرانيا الآن سيفاقم الصراع مع روسيا بدل أن يخفف من حدته.
أفضل الحلول المتوافرة لواشنطن الآن هي تعزيز روابطها السياسية والأمنية المشتركة مع أوكرانيا بالتزامن مع عملها الوثيق مع الحلفاء الأوروبيين لضمان قدرة أوكرانيا على حماية سيادتها، ومع أنه من غير المرجح أن يفعل ذلك، فعلى ترمب التوقف عن اللعب بالمساعدات التي وعد أوكرانيا بها، وعليه إعطاء الأولوية للمساعدة الأمنية والجهد الدبلوماسي بدل التعاملات الخاصة، وعلى واشنطن قبل كل شيء أن تحمي عملية المساءلة من أي تدخل روسي، وتتخلص من وهم قدرتها على الترويج لنظام سياسي مستقر، سواء في الداخل أو في الخارج من دون النجاح في عبور المياه الأوكرانية الضحلة.
*سيرهي بلوخي أستاذ التاريخ الأوكراني ومدير معهد الدراسات الأوكرانية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب بوابات أوروبا: تاريخ أوكرانيا.
**ماري إليز ساروت هي أستاذة مميزة في مركز ماري جوزيه وهنري آر كرافيس، في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، كما أنها مؤلفة كتاب الانهيار: السقوط العرضي لجدار برلين
مترجم عن “فورين أفيرز” يناير(كانون الثاني) /فبراير(شباط) 2020
المصدر: اندبندنت عربية