الحكم بالمؤبد على ضابط المخابرات السوري أنور رسلان، قد يعتبرها البعض المحطة الأخيرة لسلسلة محاكمات طويلة امتدت لشهور طويلة، وعدة جلسات، في حين يراها البعض الآخر بداية لسلسلة محاكمات جديدة سوف تستهدف النظام السوري وأنصاره في أوروبا، لا سيما أن هذا الحكم يفتح الطريق أمام العشرات ممن تعرضوا للتعذيب للإدلاء بشهاداتهم، كما أن الحكم سيشجع منظمات حقوقية في بلدان أوروبية أخرى على تكرار هذا المشهد، برصد أنصار النظام المتورطين بالتعذيب وفضحهم وتقديمهم للمحاكمة.
واتهم الإدعاء أنور رسلان بارتكاب 58 جريمة قتل في سجن بدمشق، وجاء في صحيفة الاتهام بأنه يشتبه أنه كان مسؤولا عن تعذيب ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص بسجن المخابرات العامة في العاصمة السورية دمشق بصفته رئيسا للتحقيقات آنذاك في 2011 و2012، ويشتبه أن 58 سجينا، على الأقل، لقوا حتفهم جراء ذلك.
وهذا هو ثاني حكم إدانة تصدره المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز بغرب ألمانيا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الحرب الأهلية السورية.
وكان المتهم قال في وقت سابق إنه ليس مذنبا، وطلب محاميه البراءة لموكله. وبدأت المحكمة في نيسان/ أبريل 2020، وأثارت انتباه العالم، وحضر جلساتها أكثر من 80 شاهدا وعدد من ضحايا التعذيب بصفتهم مشاركين في الإدعاء ضد المتهم.
مجلة شبيغل الألمانية قالت في تقرير لها بعنوان “ما فائدة محاكمة ضباط المخابرات السورية – في كوبلنز؟” إن الحكم التاريخي يؤكد المعتقد بأن محاكمة رسلان توجه أيضًا إلى جهاز المخابرات السرية بأكمله في سوريا، يبدو جيدًا من الناحية الرمزية. والتزم أنور رسلان الذي كان يرأس شعبة التحقيقات في الفرع 251 من جهاز أمن الدولة الواسع الانتشار الصمت طوال جلسات هذه المحاكمة التي بدأت في 23 نيسان/ أبريل 2020. ومن المرتقب أن تنطلق الأسبوع المقبل في فرانكفورت محاكمة أخرى على صلة بنظام بشار الأسد تطال طبيبا سوريا لجأ إلى ألمانيا.
واستمع رسلان صباح الخميس إلى حكم المحكمة الذي تُرجم ترجمة فورية إلى العربية، من دون أن يبدو عليه الانفعال، وفق ما نشرت وسائل الاعلام.
وفي أيّار/ مايو 2020، تلا محاموه إفادة خطّية نفى فيها هذا الضابط السابق مشاركته في تعذيب المعتقلين وقتلهم. وهو أعاد التأكيد على موقفه هذا في بيان تلاه مترجمه في مطلع كانون الثاني/ يناير، قبل أن يختلي أعضاء المحكمة للتداول.
هارب من الجحيم
هرب العقيد أنور رسلان من سوريا نهاية عام 2012، خاطر بحياته. على غرار المتهم في البداية إياد الغريب، وهو رقيب تم فصل إجراءاته وحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف من قبل محكمة كوبلنز الإقليمية العليا في فبراير 2021 بتهمة المساعدة والتحريض على جرائم ضد الإنسانية. وقد استأنف استئنافًا لم يبت فيه بعد.
عندما فر رسلان في عام 2012، احتفلت المعارضة السورية في المنفى بذلك باعتباره انتصارًا. كان احترامها السياسي للمنشق الذي لم يكن نشاطه السابق في المقدمة. لأنه كلما زاد عدد الجنرالات الذين يغيرون مواقفهم، كلما انهارت الديكتاتورية بشكل أسرع. كانت تلك هي نظرية المجموعة السياسية في ذلك الوقت. “لم يكن الثوار مدعومين من قبل القوى العظمى في العالم، ولذا كان كل فار مصدر قوة”.
وافتضح أمر هذا الضابط السابق حين تعرّف عليه في أحد شوارع العاصمة الألمانية مواطن سوري آخر هو أنور البنّي، المحامي والمعارض الذي يقوم الآن بمطاردة المتعاونين السابقين مع النظام اللاجئين في أوروبا.
وأوقف رسلان في شباط/ فبراير 2019 ووضع رهن الحبس الاحتياطي.
وفي دليل على مدى أهمّية هذا الحكم بالنسبة إلى الجالية السورية، قرّرت المحكمة التي سبق لها أن رفضت بثّ المداولات توفير ترجمة فورية إلى العربية وقت تلاوة الحكم.
ردود فعل مرحبة
منظمة “هيومن رايتس ووتش” رحبت بهذا الحكم، واصفة إيّاه بـ”التاريخي”. وقال مديرها التنفيذي كينيث روث خلال إحاطة صحافية في جنيف “إنه تاريخي بالفعل”.
من جهته قال ماركوس بيكو مسؤول منظمة العفو الدولية في ألمانيا إن المحكمة “ثبتت بشكل واضح ورسمي ظروف الاعتقال غير الإنسانية وأعمال التعذيب المنهجية والعنف الجنسي والقتل في سوريا”.
حضر حوالي 12 من الضحايا على الأقل جلسة النطق بالحكم. وتجمعت عائلات سورية صباحا أمام المحكمة وحمل الحاضرون لافتات كتب عليها “أين هم؟” في إشارة إلى أشقائهم وشقيقاتهم الذين فقدوا في مراكز الاعتقال السورية.
وفي سابقة من نوعها، عُرضت أمام المحكمة صور من “ملّف قيصر”، وهو أمر لم يسبق حدوثه في أي محاكمة حتى اليوم.
وقيصر هو الاسم الذي أُطلق على مصور سابق في الشرطة العسكرية السورية هرب من بلاده وبحوزته 50 ألف صورة وثّقت 6786 معتقلا سوريا وقد قتلوا بطرق وحشية بعدما تضوّروا جوعا وتعرّضوا لشتّى صنوف التعذيب.
استهداف مجرمي النظام السوري
وبعد تعديل قانوني يتيح للمحاكم الألمانية محاكمة مجرمي الحرب، حيث تطبّق ألمانيا المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية الذي يسمح لقضائها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطرة، بغضّ النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكاب الجرائم. تستهدف دعاوى قضائية عدة أطلقت في أوروبا النظام السوري، خصوصا في ألمانيا حيث يتحرّك القضاء ضد تجاوزات وثّقتها منظمات غير حكومية.
وبحسب تقارير حكومية ألمانية تضاعفت في ولايات ألمانية مختلفة الشكاوى القضائية لسوريين يؤكدون أنهم تعرّضوا للتعذيب في سجون النظام، علما بأن برلين تطبّق المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية الذي يسمح لقضائها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطرة، بغضّ النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكاب الجرائم.
المنظمة الألمانية غير الحكومية “إي سي سي إتش آر” أعلنت في حزيران/ يونيو 2020 أن سبعة سوريين ممن تعرّضوا للتعذيب أو ممن شهدوا عمليات اغتصاب واعتداءات جنسية في مراكز احتجاز تابعة للنظام تقدّموا بدعوى قضائية.
وتستهدف هذه الدعوى خصوصا تسعة من كبار المسؤولين في الحكومة وفي جهاز “المخابرات الجوية”، بينهم الرئيس السابق للجهاز جميل حسن المقرّب من الرئيس بشار الأسد. وقالت مجلة شبيغل إن حسن الذي أصدرت ألمانيا وفرنسا بحقه مذكّرتي توقيف دوليتين، تولى قيادة المخابرات الجوية حتى العام 2019.
ونهاية تموز/ يوليو 2021 وجّه القضاء الألماني الاتهام إلى طبيب سوري سابق في سجن حمص العسكري بارتكاب الجرائم الإنسانية بضلوعه في تعذيب معتقلين، وستبدأ محاكمته في فرانكفورت الأسبوع المقبل.
ملاحقة مجرمي النظام
بحسب تقارير إعلامية أوروبية فتحت السلطات الفرنسية نهاية تشرين الأول/ أكتوبر تحقيق لكشف ملابسات اختفاء سوريين يحملان الجنسية الفرنسية في سوريا في العام 2013، وانقطعت أخبارهما مذّاك.
وفي نيسان/ أبريل 2021 فُتح تحقيق قضائي في هجمات كيميائية وقعت في العام 2013 ونُسبت إلى النظام، بناء على شكاوى تقدّمت بها ثلاث منظّمات غير حكومية.
وكانت هذه المنظّمات قد تقدّمت بشكاوى مماثلة في ألمانيا عن تلك الهجمات وعن هجوم بغاز السارين وقع في العام 2017.
ونهاية كانون الأول/ ديسمبر وجّه الاتّهام إلى فرنسي-سوري يُشتبه بتزويده الجيش السوري بمواد يمكن استخدامها في تصنيع أسلحة كيميائية.
كذلك قدّمت شكاوى في النمسا والنروج والسويد التي أصبحت في العام 2017 أول بلد يدين قضاؤه عنصرا سابقا في قوات النظام بجرائم حرب.
وفي السويد، تقدّمت أربع منظمات غير حكومية في نيسان/ أبريل 2021 بشكاوى قضائية ضد الرئيس السوري وعدد من كبار مسؤولي النظام إثر هجومين كيميائيين وقعا في عامي 2013 و2017. وفي إسبانيا، رد القضاء دعوى تقدّمت بها مواطنة متحدّرة من أصول سورية ضد تسعة من كبار مسؤولي النظام تتّهمهم فيها بالاحتجاز القسري وبتعذيب شقيقها وتصفيته في محاكمة الفارين فقط.
وبحسب المجلة الألمانية شبيغل، فإن محاكمة الفارين فقط من مجرمي النظام، يطرح سؤالا أخلاقيا، وهو قدرة أو رغبة أوروبا الحالية بمحاكمة الفارين فقط. وتقول المجلة: “جهاز سلطة الأسد متهم بارتكاب فظائع: لأول مرة يتم إصدار أحكام في ألمانيا على هذه الجرائم ضد الإنسانية. لكن فقط أولئك الذين هربوا هم من يقفون أمام القاضي”.
المصدر: “القدس العربي”