بسرعة كبيرة، تحرّك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لقمع الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في دار جاره الكازاخي، وتصرّف حيالها وكأنّ النار توشك أن تندلع في داره. المتابع لمسيرة الرئيس بوتين، والمتتبع لفلسفته في الحكم، يجد أنّه ما كان ليتصرّف حيال انتفاضة كازاخستان التي فاجأته وهو منشغل كلياً بالأزمة على حدوده الغربية مع أوكرانيا، بغير الطريقة التي تصرّف بها، أرسل ببساطة قواته وأخمدها. لدى الرئيس بوتين هواجس كثيرة، تبدأ من مساعي حلف الناتو تطويق بلاده، وصولا إلى محاولته استعادة مكانتها على الساحة الدولية، وإصلاح ما أسماها “الكارثة الاستراتيجية” المتمثلة بسقوط الاتحاد السوفييتي، لكنّه، وبحسب تجارب العقدين الماضيين من حكمه، لا يبدو أنّ هناك ما يفزعه أكثر من وقوع ثورة، في أيّ بقعة من الأرض، خصوصاً في جواره القريب.
ينطلق موقف بوتين من الثورة، أيّ ثورة، من رؤية محدّدة بزوايا مختلفة. الأولى نخبوية، ترى أنّ الشعوب عموماً غير قادرة على تحديد مصالحها، وأنّ الثورة فعل جماهيري غوغائي يستجلب الفوضى، ويؤدّي إلى عدم الاستقرار، وهو ما عبّر عنه بوضوح في تصريحاته التي أعقبت قمعه انتفاضة كازاخستان، وتعهّد خلالها بحماية حلفائه ومنع “الثورات الملوّنة”. الزاوية الثانية، ترتبط بميله إلى تفسير كلّ ثورة بأنّها مؤامرة غربية (أميركية خصوصاً) تسعى الى إطاحة الخصوم من الداخل من دون كلفة أو عناء. وغالباً ما يستشهد الإعلام الروسي بكتابات الأميركي جين شارب (Gene Sharp) عن الثورات، للتأكيد على عمق التورّط الأميركي في إثارة القلاقل والاضطرابات في دول غير صديقة. ولم تتغير هذه النظرة الروسية منذ الثورات الملوّنة التي انطلقت في دول الاتحاد السوفييتي السابق (أوكرانيا، جورجيا، وقرغيزيا) مطلع الألفية، مروراً بثورات الربيع العربي، وصولاً إلى انتفاضة كازاخستان أخيراً. ويسري اعتقاد لدى بوتين بأنّ الهدف النهائي هو إشعال ثورة في روسيا نفسها، وأنّ محاولةً فاشلة، رعتها واشنطن، حصلت بهذا الاتجاه خلال الاحتجاجات التي رافقت “انتخابات” عودته إلى الرئاسة في لعبة تبادل الأدوار بينه وبين رئيس وزرائه السابق، ديمتري ميدفيدف، 2011 – 2012.
تتعلق الزاوية الثالثة بالأجندة اليمينية المحافظة التي يتبنّاها بوتين، ويعبر عنها في خطاباته عادة بمصطلح “الديمقراطية السيادية” (sovereign democracy)، التي ليس لها من الديمقراطية إلّا الشكليات الإجرائية، وترى أنّ من حق السلطة انتهاج ما تراه مناسباً من سياساتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ في سبيل الحفاظ على وحدة الأمة وقوتها. بهذا المعنى، تعدّ الديمقراطية السيادية أقرب إلى الأيديولوجيات الاشتراكية القومية، مثل الفاشية والنازية، في اعتبارها أنّ الانضباط، والانبعاث القومي، وتقديس الأمة، هي بعض فضائل الحكم الوطني الصارم. في حين ترفض قيم الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها لا تتناسب وخصائص الأمة الروسية التي تحتاج إلى زعيم فرد قوي قادر على إبقائها قوية وموحدة، فالقادة المنتخبون، بحسب هذه النظرية، غالباً ما يكونون دمىً تابعة للغرب ومرتبطين بمصالحه.
يتصل بكلّ ما سبق رؤية بوتين للعالم الروسي باعتباره وحدة جغرافية تاريخية قائمة بذاتها، تسكنها الروح الأورو- آسيوية، واعتقاده أنّ هدف الغرب النهائي هو تدمير هذه الروح وفرط عقد الأمة الروسية، ابتداءً من أوكرانيا وصولاً إلى كازاخستان التي يمثل الروس نحو 20% من سكانها البالغ عددهم حوالي 20 مليوناً، وتشكّل، هي الأخرى، جزءاً أساسياً من مشروع الاتحاد الأوراسي. ولن يقبل بوتين، على الأرجح، عدم وجود علاقة بين انتفاضة كازاخستان أخيراً والتوتر القائم مع الغرب بشأن أوكرانيا، إذ يقرأه ليس باعتباره فقط محاولة من الغرب لإشغاله بجبهةٍ جديدةٍ بعيداً عن أوكرانيا التي يخوض معركة مصيرية لمنع انضمامها نهائياً للغرب، بل لإخراج عضو آخر مهم من أعضاء النادي الأوراسي، مشروع بوتين الاستراتيجي الكبير، الذي لن يبقى منه شيء إذا لحقت كازاخستان بأوكرانيا.
لكلّ هذه الأسباب، لن يفهم بوتين، على الأرجح، أيّ حديث عن تطلعات الشعوب وآمالها، ولن يقتنع بوجود إرادة حرة خاصة بها، مستقلّة عن الأجندات الأجنبية، خصوصا الآن، وقد نصّب من نفسه عدوا لها، ويسعى إلى تشكيل جبهة عالمية في مواجهتها، تضم إليه الصين ومن لفّ لفّها. المواجهة ستكون بالتأكيد صعبة، ومكلفة، لكنّ نتيجتها محسومة لصالح الشعوب.
المصدر: العربي الجديد