من المحتمل أنّه لولا ما كشفته صحيفة نيويورك تايمز عن المجزرة التي ارتكبتها القوات الأميركية في قرية الباغوز في دير الزور (سورية)، في مارس/ آذار 2019، لطُمست، كما غيرها من مجازر يرتكبها المحتلون بحقّ شعوب يحتلون بلدانها. ولم يعترف الأميركيون بوقوع المجزرة إلّا بعدما نشرت الصحيفة تقريرها عن الحادثة، لكنّهم قالوا إنها كانت مبرّرة، ناكرين العدد الكبير للضحايا المدنيين فيها. ويبدو أنّ الأميركيين عادوا إلى استخدام استراتيجيتهم المعتادة في تكثيف النيران على منطقة ضيّقة ومكتظة بالسكان، بحجّة وجود عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيها. ومجزرة الباغوز استمرار لسياسة الولايات المتحدة في اقتراف جرائم ضد الإنسانية بذرائع جاهزة دائماً، وقد اقترفتها الآن في سورية المنكوبة بعدد كبير من القوات المحتلة التي اقترفت من المجازر ما جعل المجتمع الدولي يضيق بإحصاء ضحاياها، فيرسلهم إلى النسيان ليهدأ باله.
كانت معركة الباغوز بمثابة المعركة الختامية في حرب التحالف الدولي بقيادة أميركية على تنظيم الدولة الإسلامية، والتي بدأت، في سبتمبر/ أيلول 2014. وتميّزت بتركيزها على الجيب الأخير المكون من عدد من القرى، بعد اندحار التنظيم وفرار أعضائه وتبعثرهم في سورية والعراق، وكذلك انسحاب أعدادٍ منهم إلى مخيم الباغوز الذي كان يضم آلافاً من المدنيين، علاوة على عدد كبير من مقاتلي التنظيم. وكانت قوات سورية الديمقراطية (قسد) تعدّ العدّة للانقضاض على المخيم وقرية الباغوز، منتظرة انتهاء المهلة التي أعطيت لعناصر التنظيم للاستسلام. لكن، وما إن انتهت المهلة حتى أغار طيران التحالف على المنطقة، مستخدماً الصواريخ والقنابل بكثافةٍ، أدت إلى تفحُّم جثث أعداد كبيرة من المقاتلين ومن المدنيين الذين لم يغادروا المنطقة. وتحدّث صحافيون أجانب دخلوا المنطقة بعد انتهاء المعركة عن مشاهداتهم، وعن أكوامٍ من الموتى، وعن رائحة الجثث المتفحّمة المنتشرة في المنطقة، حيث أحصوا عدداً كبيراً من النساء والأطفال بين الضحايا.
وكتبت الصحيفة في تحقيقها، في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن الضربة نفذت عبر إلقاء الطائرات الأميركية ثلاث قنابل على تجمُّعٍ كبير من الناس، وأن صور طائرات الاستطلاع المسيّرة أظهرت وجود مدنيين في المنطقة المستهدفة. وعلى الرغم من أن الصحيفة تحدثت عن مقتل 80 شخصاً، لم يكن بينهم سوى 16 شخصاً تأكد انتماؤهم لـ”داعش”، إلّا أنّ العودة إلى الأنباء عن تفاصيل تلك المعركة يومها تؤكد أنّ العدد كان يتجاوز هذا بأضعاف، علاوة عن الحديث يومها عن استخدام التحالف الصواريخ والقذائف في ضرب المنطقة. وقد قدّرت مصادر محلية أن عدد الضحايا يصل إلى 400 من مدنيين وعناصر من التنظيم. وبسبب كثافة عدد قاطني المنطقة واختلاط المدنيين بعناصر “داعش”، ربما يكون العدد أكبر، ومع ذلك، لم يدفع إيراد الصحيفة عدداً أقل القيادة العسكرية الأميركية إلى الاعتراف سوى بمقتل 16 شخصاً، بينهم أربعة مدنيين لا أكثر. وقد أوردت الصحيفة أن ضباطاً أميركيين سابقين كانوا يخدمون في الوحدة السرّية التي أمرت بتنفيذ الضربة قالوا إنّ حصيلة القتلى كانت عالية بشكل صادم، وإنّ ما شاهدوه يرقى إلى جريمة حرب.
ولم تكن هذه هي المرّة الأولى التي تعتمد فيها الولايات المتحدة على استراتيجية تكثيف النيران على المنطقة التي يُراد إنهاء المقاومة فيها، إذ فعلت ذلك في مدينتي الرّقة السورية والموصل العراقية. وجرّاء هذه الاستراتيجية، تحوّلت أجزاء كبيرة من المدينتين والمناطق المجاورة إلى أنقاض، وتفحّمت جثث كثيرة بقي أصحابها مجهولين. ومن المجازر الأميركية المنسية، وقبل الباغوز، ارتكبت قوات التحالف، في مارس/ آذار 2017، مجزرة في مدرسة قرية المنصورة في الرّقة راح ضحيتها 33 مدنياً بينهم أطفال. وقد كذبت صور لطائرات استطلاع ألمانية التقطت قبل يوم من المجزرة قول قائد القوات الأميركية في العراق إنها كانت “ضربة نظيفة”، في حين أن الصور رصدت وجود مدنيين نازحين في المدرسة.
تذكّر واقعة الباغوز بوقائع من قَبيل ضرب الحلفاء مدينة هامبورغ الألمانية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية، للحصول على أكبر ختام ممكن للحرب، ولو كان ذلك فعلاً منافياً للأخلاق بسبب إعلان الخصم استسلامه. وتذكّرنا أيضاً بإغارة ألف طائرة على سبع مدن يابانية بعد استسلام اليابان وتدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنبلتين الذريتين قبل أيامٍ من إعلان الاستسلام وانتهاء الحرب، وذلك كله من أجل الوصول إلى “الختام الكبير”. وبحسب ما ذكر تشومسكي، في كتابه “سنة 501 الغزو مستمر” (دار المدى، بغداد، 1996)، فإن جنرالاً أميركياً أراد إسقاط قنبلة نووية ثالثة على طوكيو، غير أن المدينة كانت مدمّرة، وضربها بقنبلة نووية لن يجعلهم يحصلون على الختام الكبير الذي أنجزته ألف طائرة حربية.
اعتماداً على ذلك، تتأكد لنا الآلية التي تعمل وفقها السياسة الأميركية، وتريد دائماً صنع أكبر أثر ممكن من الدمار والقتل لتختتم به حروبها. وبهذا الأثر، تتحقق لواضعي تلك السياسة نشوة الانتصار، التي لا تعادلها نشوة لدى جنرالات لا يتوقفون عن فعل القتل، ما داموا قادرين على ارتكابه. وفي استعراض سيناريو الحروب الأميركية، ومنها حربهم في سورية، يخال للمرء أن الأمر بالنسبة لهم يجري كما صناعة الأفلام في هوليوود؛ مقدّمات وتحضيرات وتحشيد إعلامي، ثم ضربات مباغتة، ليعتلي جنرال أميركي المنبر معلناً الانتصار في حربٍ نظيفةٍ استهدفت الإرهابيين بدقة العمليات الجراحية، بينما في الواقع، يستمر المدنيون بدفع الأثمان طويلاً، والبحث عن أحبّائهم تحت أنقاض منازلهم ومدارسهم، ورهن مستقبلهم لإعادة بناء حياتهم، كما الأمر حالياً بالنسبة للسوريين.
المصدر: العربي الجديد