في “جرابلس”، يكلّفك الحصول على نسخة كتابٍ ما، فكري أو فلسفي، بحثاً قد يطول لأيام. غالباً ستيأس بعدها، وتوصي عليه من تركيا. أما في إدلب فلن ترهق نفسك، السؤال هناك عن رواية صدرت حديثاً مثلاً، يتم بصوت منخفض، كحال كل باحث عن الممنوعات والمحرمات، والأسوأ لو كنت تبحث عن آلة موسيقية، فهذا ينبغي أن يتمّ خلف أبواب مغلقة. على العكس من ذلك، فبالإمكان خلال أقل من ساعتين، شراء كمية من الأسلحة تكفي أكبر عصابات المافيا الروسية أو الإيطالية. سلاح B10 المضاد للدّروع معروضٌ على واجهة المحل، تماماً كما تعرض الملابس. سلاح AGS-17 الروسي القاذف للقنابل، يستلقي على الطاولة بجانب البائع، عندما يكونُ البازارُ مفتوحاً بين البائع وزبونٍ يرغبُ في قطعةٍ “محروفة” يعلقها في صدر المضافة. على الأرصفة، يجب أن تنتبه، فقد تتعثّر بشريط ذخيرة معلّق بمضاد طيران 23 مم، معروض للبيع بثمانية آلاف دولار أميركي. وللمُعسر نسبياً، هناك المضاد الأخف 14.5مم، من الممكن تأمينه بثلاثة آلاف دولار فقط. قذائف الدبابات ستكلف وقتاً أطول قد يستمر لساعات، بسبب التلف الناتج عن الرطوبة وسوء التخزين في معظم البضاعة المعروضة.
“سلاح المجاهد”، “الشامي”، “وأعِدّوا”، “الجزراوي”. وعشرات اللافتات الأخرى، لأسماء محال بيع السلاح. تنتشر في شارعي بستان غنّوم والجلاء، أو في ساحة الساعة في إدلب. وكذا في شارعي الفيلات وراجو، وعلى دوار 53 في عفرين. أما في جرابلس فالمحال تتركز في ساحة العين، وساحة كراج عين العرب. هذه ليست أسواق مختصة، فمحال بيع السلاح تنتشر جنباً إلى جنب مع محال البقالة وبسطات الخضار وعربات بائعي الذرة والفول. تصطفُّ بنادق الكلاشينكوف على مساند كتلك التي في مستودعات الجيوش الرسمية. على تلك الرفوف يتصالح المعسكران الرأسمالي والاشتراكي، بلغة الأمس. بندقية أميركية M16 تجاورُ قناصة سوفييتية “دراغانوف”، والمسدس الأميركي “كلوك” يتكئ على زميله التشيكي “ماكاروف”.
حاملو السلاح وانتشارهم في كل مكان، أمر عاديّ ألِفهُ المدنيون في الشمال السوريّ! حتى إن السلاح فقد هيبته إذا صحّ التعبير. أيّ هيبةٍ ستبقى لبندقية “فال كال” تتعلق بسبطانتها باقة جرجير وكيس موالح؟ يحملها جميعاً شابٌّ شاحب، يبدو من قسماته أنه منحوت من الفقر، يضع يديه في جيب بنطاله، مجتازاً ساحة بيع الخضار. ظاهرة مزمنة عصيّة على الضبط الذي تتحدّث عنه السلطات هناك. كل القرارات والتعليمات التي أصدرتها وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، غالباً لم تُطبّق، إلا بعد وقوع جريمة ما، حينذاك فقط سيصار إلى مصادرة سلاح الجريمة. أما الشرطة المدنية في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، فهي أول الباحثين عن السلامة حين يحصل شجار بين عائلتين كبيرتين، وتقع معركة تتصدر نشرات الأخبار. جميعنا يذكر المعركة الشهيرة التي نشبت في “الباب” بين أقارب أحد قادة فصيل أحرار الشرقية “أبو جمو”، وإحدى أكبر العائلات في البلدة. يومها استخدم الطرفان المتنازعان قذائف الهاون ومضادات الطيران ورشاشات BKC.
في بداية شهر كانون أول/ديسمبر الحالي، لم يستطع أهالي حي “وادي النسيم” في مدينة إدلب مغادرة منازلهم لساعات، بسبب خلاف بين جارين استخدما فيه من الرصاص، ما جعل السكان يتساءلون عن كمّية مؤونة الذخيرة المنزلية لدى كل منهما. عندما تدخلت دورية للأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام، ازداد الوضع سوءاً بسبب زيادة كثافة إطلاق الرصاص، فشبّت النار في منزل جار ثالث، لا ناقة له في تلك الحرب ولا جمل، مع ذلك حمل وزر قذيفة RPG ضلّت طريقها، ودخلت منزله.
الميلُ للعنف أيضاً صار سلوكاً شائعا في المدن والبلدات والقرى والمخيمات هناك، وأي شجار بسيط قد يتحول لمعركة، كما يحصل بشكل متكرر في تجمع الكرامة، (مجموعة مخيمات متداخلة، تقع في منطقة أطمة الحدودية مع تركيا شمالي إدلب). آخر تلك المعارك كان في حزيران/يونيو الماضي بين مخيمين قرب بلدة “معارة الإخوان”. في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر قتل أحمد الشاكر أطفاله الثلاثة، وأصاب أمهم بجروح خطيرة، حين أطلق عليهم نيران سلاحه في بلدة حارم شمالي إدلب. قبلها بأيام انقطعت أحلامُ طفلةٍ نائمة في خيمتها، حين اخترقت جمجمتها رصاصة أطلقها مبتهجون خلال حفلة عرس فرحاً بـ “فتح جديد”.
خلافٌ بين راكب دراجة نارية، وصاحب محل رفض أن تُترك الدراجة مقابل محله، حوّل سوق الصاغة في مدينة إدلب إلى ساحة معركة خلال لحظات. استنجد كلا الرجلين بأقاربه وأصدقائه لتبدأ حفلة إطلاق الذخائر في منطقة مزدحمة بالمدنيين. يومها بكت وانهارت النساء في السوق، وتبوّل الأطفال في سراويلهم. ربما كان عليهم أن يتبولوا على سلطات المنطقة، إضافة إلى كل المحافل الإقليمية والدولية.
قبل شهور، حاول “س ب”، وهو موسيقي نازح إلى إدلب، العثور على آلة “كمان”. بحث سرّاً في المدينة وكامل محيطها، ولم تفلح كل محاولاته. قيل له ربما تجدها في عفرين. هناك وجد محل “دلشان”، صبية عفرينية ما تزال تبيع آلات موسيقية وأوتاراً، وكتباً ممنوعة، في حالة مقاومة شاذّة عن كامل المحيط. عندما أخبرته أن لديها أحدث روايات أمين معلوف، وكماناً وأوتاراً وحتى “قلفونة” لمسح شعر قوس الكمان، هتف بينه وبين نفسه غير مصدق: “أنا في الجنّة”. عاد بكنوزه تهريباً إلى إدلب، لكن هناك، وخشية من أن يكون للجدران آذان، كما لدى نظام الأسد، لم يستطع العزف، فغادر نهائياً إلى عفرين. ليس على سبيل النكتة، لكن على عكس الآلة الموسيقية، فإن شراء دبابة ممكن بيسر.. دبابة؟ أجل. هناك دائماً وسطاء بين المشتري وقائد فصيل شحّ دعمه، أو أمير جهاديّ توصّل لقناعة أنّ أرض الشام لم تعد مباركة، وعليه أن يؤمّن المبلغ الذي يكفيه للوصول إلى أرضٍ أكثر بركة. في صفقةٍ كهذه قد يحصلُ الشاري على دبابة روسية T62 إن كانت نيّته تتجاوزُ عتبة الدفاع عن النفس، ليصل إلى تحقيق حلمه (المشروع) بتشكيل كتيبة جديدة. كتيبة ستوصله إلى جنّته الخاصة. جنّة بلا موسيقا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا