يتراوح مزاج السوريين إزاء التدخلات الخارجية في شؤونهم، منذ العام 2011، بين حدي الشكوى منها والشكوى من عدم حدوثها في الوجهة التي يرغبون، مع اختلاف هذا الموقف بالنسبة لمختلف أطراف النزاع الداخلي. ففي حين يعتبر النظام الأسدي وأنصاره أن التدخلات الخارجية هي السبب الأصلي لاندلاع الصراع ـ ولا يسمونه ثورة ـ وأن حل المشكلة يتوقف، الآن، على انسحاب القوات التركية والأمريكية، وتوقفهما عن «دعم الإرهابيين» تشكو الأطراف المعارضة من عدم تدخل الدول الغربية، الولايات المتحدة بخاصة، في الوجهة التي ترضيها، أي ضد النظام. أما قوات سوريا الديمقراطية فهي تخشى من توقف الولايات المتحدة عن دعمها وسحبها لقواتها الرمزية من مناطق سيطرتها. أما الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا في بعض مناطق الشمال فهي قانعة بالغطاء العسكري التركي ولا تريد له أن يرفع. كذا بالنسبة للنظام وأنصاره في موقفهم من التدخل الروسي والإيراني الذي لا يريدان له أن ينتهي قبل استتباب الأمر للنظام بصورة تامة.
لا يمكن معرفة مواقف السكان في مختلف مناطق سلطات الأمر الواقع، ولن تكون هناك إلا تكهنات غير موثوقة، حتى لو بنيت على بعض المؤشرات، ينطبق هذا، بصورة خاصة، على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بسبب صعوبة التعبير عن الرأي في ظل الآلة القمعية الثقيلة والإعلام الأحادي الكاذب. تتفاوت في المناطق الأخرى هوامش التعبير عن الرأي بما يتيح بعض المؤشرات بصدد مواقف السكان من موضوع التدخلات الخارجية. ويمكن الزعم، بقليل من المجازفة بأن السكان، سواء في مناطق سيطرة قسد أو في مناطق «درع الفرات» و«خفض التصعيد الرابعة» في محافظة إدلب وجوارها، لا يريدون عموماً عودة سيطرة قوات الأسد، على رغم ما يتعرضون له من انتهاكات على يد القوات المسيطرة، وهو ما يعني تمسكهم ببقاء القوات الأمريكية والتركية. في حين قد يكون المزاج الغالب في المناطق ذات الغالبية الكردية، عفرين والجيب التركي بين تل أبيض ورأس العين، هو الرغبة في انسحاب القوات التركية ومعها الفصائل المسلحة التابعة لها، وذلك بصرف النظر عن القوة التي قد تحل محلهما.
في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لاحظنا في السنتين الأخيرتين مظاهر تذمر بسبب استمرار تدهور الأوضاع المعيشية والأمنية وغيرها، لكنها تبقى في إطار لا يشكل خطراً على النظام. لكننا لم نلاحظ أبداً مؤشرات رغبة في خروج القوات الروسية والإيرانية التي تشكل ضمانات بقاء النظام. ويختلف الأمر بالنسبة لسكان محافظتي درعا والسويداء اللتين مازالتا تشهدان أنشطة معارضة للنظام على رغم سيطرته الأمنية على الوضع فيهما.
وعموماً يدرك السوريون أن مصيرهم ومصير بلدهم هما خارج سيطرتهم، وفي يد دول أخرى متدخلة، بهذا الشكل أو ذاك، في الصراع الذي تحول، إلى حد كبير، إلى صراع بالوكالة عن تلك الدول. ربما هذا الإدراك هو من الأمور النادرة التي يجمع عليها السوريون في جميع المناطق، بمن فيهم سوريو الشتات.
لنفترض الآن أن جميع الدول المتدخلة قد انسحبت معاً من الأراضي السورية وتوقفت عن دعم الجهات المحلية التابعة لها، وذلك قبل الوصول إلى تسوية سياسية بصرف النظر عن محتواها، وكذا بدون وجود برنامج دولي لإعادة الإعمار أو لاستمرار تدفق المساعدات الأممية، وتركت السوريين وجهاً لوجه مع أنفسهم، أي مع بعضهم بعضاً. فما الذي يمكن توقع حدوثه؟
في غياب الحليف الروسي، سيكون من الصعب على النظام شن الحرب على المناطق الشمالية، من محافظة إدلب إلى أقصى الشرق، فهو لا يملك الموارد الحربية والبشرية لذلك. لكنه لن يتوقف عن شن معارك موضعية في تلك المناطق بهدف القضم التدريجي. لكن حروباً أخرى من المحتمل أن تندلع بين هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لتركيا من جهة، وهذه الأخيرة ووحدات حماية الشعب الكردية من جهة أخرى، إضافة إلى احتمال تفكك قوات سوريا الديمقراطية إلى مكونين عربي وكردي، مع احتمال تطور هذا الشقاق إلى حرب ساخنة. ولن تنجو مناطق سيطرة النظام من صراعات بينية، إذا قرر النظام تقليم أظافر أمراء الحرب من قادة الميليشيات المسلحة الموالية له، إضافة إلى أرياف درعا والسويداء التي قد يعود فيهما التمرد المدني أو المسلح حسب الإمكانات.
وهناك عامل جديد قد يدخل على معادلات القوة هذه، هو احتمال عودة ملايين السوريين من دول أخرى، تركيا ولبنان بصورة خاصة المرشحتين أكثر من غيرهما لحركة «عودة قسرية» من هذا النوع. وإذا كان النظام واضحاً في موقفه من هؤلاء العائدين المحتملين، بدلالة ما جرى لأعداد محدودة منهم في الشهور الأخيرة، فنحن لا نعرف كيف يمكن لسكان مناطق الشمال أن يتعاملوا مع العائدين من تركيا مثلاً، ناهيكم عن قوى الأمر الواقع التي لن تكون مرحبة بهم بدوافع تختلف من قوة إلى أخرى، أساسها «البرنامج الديموغرافي» لتلك القوى إذا جاز التعبير. وحتى بالنسبة للسكان في هذه المناطق، ليس من المتوقع أن يلاقي العائدون الترحيب، لأنهم سيشكلون عبئاً إضافياً على الاقتصاد الهش أصلاً.
قد ينفع هذا التمرين الذهني القائم على افتراض نظري في الدفع باتجاه التفكير في اليوم التالي الذي لا بد أن يأتي في يوم ما بهذا السيناريو أو ذاك، لأن سوريا باتت دولة فاشلة بكل المعايير. مع العلم أن افتراض انسحاب جميع القوى الأجنبية معاً هو افتراض متفائل، بالمقارنة مع افتراض أكثر قرباً من الواقع هو بقاء روسيا وحدها في سوريا لخمسين عاماً قادمة.
المصدر: القدس العربي