في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، اختير عبد المجيد تبون رئيساً للجزائر، في انتخابات جرت في ظروف بالغة الحساسية، إذ كانت تظاهرات الحراك الشعبي في ذروتها في تلك الفترة.
واليوم، بعد عامين من تسلم تبون الحكم، طرأت أحداث متلاحقة على المشهد السياسي والاقتصادي في الجزائر، لكنها بالنسبة للبعض لا تزال بعيدة عن تحقيق التغيير الذي طالب به الجزائريون في تظاهراتهم التي بدأت في فبراير/شباط 2019.
وعلى الرغم من أن تبون قدم 54 تعهداً انتخابياً قبل ترشحه، بما يفترض أن يتيح أساساً لقياس ما تحقق، إلا أنه من المبكر الحديث عن نجاحات أو الحكم على إخفاقات. وفيما لا يزال في جعبة الرئيس شوط ثان من عهدته الرئاسية الأولى (محددة بـ 4 سنوات) تتيح إجراء تقييم جدي، إلا أنه لا يمكن إغفال الظروف التي تلت انتخابه، خصوصاً بعد تفشي وباء كورونا ومن ثم مرضه ونقله للعلاج في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 لأكثر من شهرين في ألمانيا.
وإذا كان المشهد الداخلي قد اتسم بتحولات عدة، أهمها توالي الاستحقاقات الانتخابية، والتضييق على تظاهرات الحراك، فإن التغييرات على الصعيد الخارجي لم تكن أقل أهمية.
نجح تبون في استيعاب جزء من كتلة الحراك الشعبي
وعلى الرغم من أن محرك الطائرة الرئاسية لم يدر إلا في ما ندر، لكنّ العامين الماضيين شهدا تحولات عدة، بما في ذلك عودة الدبلوماسية الجزائرية في أفريقيا، إلى جانب أزمتين حادتين؛ الأولى مع فرنسا وبدأت تجد طريقها للحل، فيما الثانية كانت مع المغرب والتي لم تشهد أي تفكيك.
وبعد أقل من 90 يوماً من تسلمه السلطة في ديسمبر 2019، فاجأت أزمة وباء كورونا تبون، بكل تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة الإغلاق الذي فرضته ليس على الجزائر فحسب. وهو ما دفعه إلى إجراء تعديل في خطته التي كانت تستهدف أولاً تعديل الدستور وإجراء انتخابات نيابية، واضطره ذلك للتعايش مع مؤسسات ورثها من فترة سلفه عبد العزيز بوتفليقة، سواء تعلق الأمر بالمجالس البلدية والولائية أو البرلمان والمجلس الدستوري، وذلك حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حيث طرح مسودة دستور للاستفتاء.
يومها، شكلت نسبة المشاركة في التصويت على استفتاء الدستور، صدمة، إذ لم تتجاوز 24 في المائة. لكن تبون بدا غير مهتم بشكل خاص بنسبة المشاركة، ما كان يهمه بالتحديد هو الحصول على دستوره، خصوصاً أن التاريخ السياسي للجزائر يؤكد أن ما من رئيس بلغ سدة الحكم إلا وأنجز دستوره الخاص.
استحقاقات انتخابية
وعلى قاعدة الدستور الجديد، باشر تبون بتجديد المؤسسات الدستورية، فأجرى انتخابات نيابية في يونيو/حزيران 2021، حصل بموجبها على برلمان حافظت فيه كتلة الموالاة على أكثريتها، تلاها تركيز المحكمة الدستورية، ثم انتخابات محلية نهاية شهر نوفمبر الماضي.
في خضم هذه الاستحقاقات الانتخابية، نجح تبون في استيعاب جزء من كتلة الحراك الشعبي التي كانت تعارض المسار الانتخابي بالكامل. كما استدرج أبرز قوى المعارضة التي قاطعت انتخابات الرئاسة في 2019، نحو المشاركة في الانتخابات النيابية والمحلية التالية.
وبالمحصلة، أعادت هذه الاستحقاقات تشكيل مشهد سياسي، بالقوى السالفة نفسها، يتوزع بين سبع قوى سياسية؛ خمس منها موالية للرئيس (جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، وجبهة المستقبل، وحركة البناء الوطني، وصوت الشعب)، إضافة إلى حزبين يتمركزان في المعارضة هما حركة “مجتمع السلم” و”جبهة القوى الاشتراكية”، يضاف لهما أحزاب تقاطع المسار الانتخابي كـ”التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” و”حزب العمال”.
واعتبر الباحث في الشؤون السياسية، جمال خذيري، أن “ما تم إنجازه على صعيد إعادة تجديد المؤسسات الدستورية، ليس بالأمر الهيّن، وهذا يُحسب للرئيس تبون، وأعتقد أنه إنجاز مهم وأساسي قبل بدء أي إصلاحات سياسية واقتصادية في المستقبل”. ولفت إلى أنه “من دون وجود برلمان قوي ومؤسسات حكم محلية جديدة يغلب عليها حضور الشباب، لن يكون بالإمكان إنجاح أي إصلاحات. كما أن إبعاد المال الفاسد عن دوائر الحكم عامل مهم”.
وبخلاف سابقيه، لم يزر تبون حتى الآن أي ولاية في الداخل الجزائري. ويفسر البعض ذلك بطبيعة السياقات التي كانت تحكم الفترة الأولى من حكمه من جهة، وبطبيعة تبون نفسه الذي لا يميل إلى حشد الجماهير في الشوارع، إضافة إلى أنه لم يجد نفسه مدفوعاً لإثبات شرعيته السياسية والشعبية.
وفي غضون عامين، شهد حكم تبون حكومتين؛ الأولى لعبد العزيز جراد ثم تلتها حكومة ما بعد الانتخابات النيابية الأخيرة بقيادة أيمن بن عبد الرحمن، فيما بلغ مجموع الوزراء الذين تعاقبوا منذ تسلمه الحكم 70.
ولم ينجح تبون خلال الحكومة الأولى في إحداث أي فارق في النشاط الحكومي، على الرغم من بعض التغييرات التي أدخلها على هيكلة الحكومة وبعض الوزارات، ما دفعه إلى تغيير وإلغاء عدد من الوزارات، كوزارة الجالية ووزارة الصناعات السينمائية، وإعادة دمج بعضها كالطاقة والمناجم بعد فصلهما.
ولم يكن النصف الأول من عهدة تبون الأولى في الحكم، كافياً لإبراز توجهات جدية نحو الإصلاح الاقتصادي ومعالجة المشكلات الاجتماعية. فإضافة إلى التعطيل الذي تسببت فيه أزمة كورونا، فإن الرئيس نفسه ظلّ حتى آخر خطاب له ألقاه قبل أسبوع في ندوة حول الإنعاش الاقتصادي، يشكو من تلكؤ الإدارة وبعض القطاعات الوزارية، وتعطيلها لخطط الإصلاح الاقتصادي التي طرحها.
واستمرت شكاوى الرئيس مما يصفها بالثورة المضادة واللوبيات الإدارية التي يقول إنها مرتبطة بمافيا مالية بعض رجالاتها في السجون، لإبطاء نسق الإصلاحات والخروج من التبعية لعائدات النفط.
وعلى الرغم من نشوة يبديها تبون بتحقيق الجزائر عام 2021، وللمرة الأولى، عائدات بأربعة مليارات دولار من صادرات غير نفطية، فإن مراقبين محليين يعتقدون أن الاقتصاد الجزائري لم يحقق تطوراً، وأن المشكلة التي تبطئ إصلاح الاقتصاد ترتبط بعدم استقرار الرئيس على نسق تنموي واضح.
وفي السياق، قال الباحث في الشؤون الاقتصادية شكيب قويدري، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “الرئيس نفسه قال في تصريح أخير له، إنه آثر البدء بالتغيير المؤسساتي قبل الإقلاع الاقتصادي، ووعد بتسريع وتيرة الإصلاح الاقتصادي بعد أن أتم إعادة انتخاب كل المجالس”.
وأضاف قويدري “يمكننا أن نلاحظ غياب رؤية واضحة وتوجه صريح للنمط الواجب اتباعه. فمثلاً من غير المنطقي عدم صدور قانون الاستثمار بعد عامين، خصوصاً في ظل تنافس شرس بين دول المنطقة لاستقطاب الاستثمار الناجع للدول الأوروبية الكبرى الراغبة في إعادة توطين إنتاجها بالقرب منها”.
وتابع “هناك تعطيلات إدارية، لكن في المقابل هناك أيضاً تأخر كبير في مسألة الرقمنة التي هي السبيل الأمثل لتخطي هيمنة وعرقلة البيروقراطيين. فأي إقلاع حقيقي يجب أن يمر لا محالة على رقمنة الحياة العامة كأرضية للإصلاحات”.
لكن ما يحسب لتبون خلال العامين الماضيين، تكريسه لتوجه اقتصادي لافت نحو أفريقيا عبر موريتانيا، وهو عمق اقتصادي أهملته الجزائر منذ عقود. إذ تبدي الجزائر اندفاعاً كبيراً نحو أفريقيا، وتعيد ترتيب علاقاتها الاقتصادية مع دول الجوار كموريتانيا وتونس وليبيا ومالي والنيجر.
وتمثل إعادة فتح المعابر التجارية مع هذه الدول، والقوافل التجارية التي تسير باتجاهها محملة بالبضائع والمنتوجات الجزائرية، متنفساً مهماً للاقتصاد الجزائري وللمؤسسات المحلية التي طرح تبون خططاً لتشجيعها.
تراجع الحريات
من جهة أخرى، بالنسبة لكثير من المتابعين لتطورات المشهد الجزائري، فإن إحدى أبرز القضايا التي ازدادت سوءاً خلال العاميين الماضيين، هي ما يتعلق بملف الحقوق السياسية والحريات العامة. فقد ازداد التضييق على التظاهرات والتجمعات في الفضاءات العامة، ومُنعت اللقاءات السياسية، خارج الفترات الانتخابية، وتعرضت أحزاب المعارضة لمضايقات إدارية بمنعها من تنظيم اجتماعاتها، كما تفاقمت الاعتقالات وملاحقة الناشطين، إذ يقبع أكثر من 260 ناشطاً اليوم في السجون.
كما شهد العامان الماضيان حالة من التشنج في علاقة السلطة بقوى المعارضة، وكانت واضحة رغبة السلطة في إعادة السيطرة على المشهد السياسي.
في المقابل، وعلى الرغم من تطوير تبون للأداء الاتصالي لمؤسسة الرئاسة ولشخصه مع الرأي العام، عبر سلسلة من الحوارات الصحافية الدورية، إلا أن استدعاءه في الحوارات المتلفزة العشرة التي أجراها إلى الآن، للصحافيين نفسهم تقريباً، وأغلبهم من الصحافة العمومية والموالية للسلطة، يعطي انطباعاً بأن الرغبة في انفتاح إعلامي جاد ليست مكتملة لدى الرئيس بعد، بما يفسر تشديد السلطة الرقابة على القنوات والصحف.
وخلال العامين الماضيين، حافظت الجزائر على نفس ترتيبها المتدني على لائحة حرية الصحافة والتعبير. كما شهدت الدولة سلسلة محاكمات لصحافيين بسبب مواقف سياسية وكتابات لهم. ومن بين هؤلاء مصطفى بن جامع، وإحسان قاضي، وخالد دردراني، وعبد الحكيم شتوان، ورابح كارش، وكنزة خطو، وسعيد بودور، وجميلة لوكيل، وحسن بوراس وغيرهم. وقد سجن بعض هؤلاء بعد إدانتهم بتهم وصفتها هيئة الدفاع بالفضفاضة كالمساس بالوحدة الوطنية وإضعاف معنويات الجيش.
في السياق، لفت رئيس شبكة “أخبار الوطن” ورئيس نقابة ناشري الصحف، رياض هويلي، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن “هذه الفترة تميّزت بانفتاح الرئيس نفسه على الإعلام من خلال حواره الشهري مع وسائل الإعلام وندواته الصحافية بين الحين والآخر، وهذا السلوك لم نعتده مع رؤساء الجزائر السابقين. كما شهدنا ميلاد عشرات الصحف الورقية والإلكترونية، وهذه أيضاً نقطة تبدو في ظاهرها إيجابية”. غير أن هويلي أضاف “لكن لاحظنا في المقابل تعطل حزمة مشاريع القوانين التي كان يرجى منها إصلاح القطاع الإعلامي، ومنها قانونا الإعلام والسمعي البصري”.
عودة الدبلوماسية الجزائرية
أما خارجياً، وباستثناء مشاركة الرئيس الجزائري في مؤتمر برلين الأول حول ليبيا في يناير/كانون الثاني 2020، وقمة الاتحاد الأفريقي في إثيوبيا في فبراير 2020، وإجرائه زيارة خاطفة إلى الرياض في فبراير 2020، فإنه لم يزر أي دولة، ولم يتحرك على الصعيد الدولي في الإطار الثنائي، سواء لغايات سياسية أو لأهداف اقتصادية. ويبرر البعض هذا الأمر بأزمة وباء كورونا في المرحلة الأولى، ثم مرض تبون في مرحلة ثانية.
لكن ذلك لم يمنع من تسجيل عودة لافتة للدبلوماسية الجزائرية إلى المشهد الإقليمي تحديداً، إذ انتقلت هذه الدبلوماسية من خيار “العمل بصمت” إلى خيار “مكبر الصوت” هذه المرة.
لكن برزت أيضاً بعض الأزمات، وتجلى ذلك مثلاً في الصدام الدبلوماسي الحاد مع فرنسا، إذ تجمدت الاتصالات بسبب الفتور بين الدولتين منذ إبريل/نيسان 2021، وازدادت العلاقة تأزماً في أكتوبر الماضي بعد تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون حول تاريخ الجزائر، قبل أن تشهد الأزمة حلحلة أخيراً، مع زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى الجزائر.
كما برزت خلال العامين الماضيين أزمة مستحكمة مع الرباط، اتخذت الجزائر بموجبها قرارا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في 24 أغسطس/آب الماضي. كما عادت لخوض صدام في المحافل الدولية ضد إسرائيل، بقيادة حملة لطردها من الاتحاد الأفريقي ومنعها من أن تكون عضواً مراقباً في الاتحاد. في المقابل، عملت الجزائر على توطيد علاقاتها مع الحلفاء الأربعة؛ إيطاليا، وروسيا، والصين، وتركيا.
المصدر: العربي الجديد