حين بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتناول جائحة كورونا المستجد في خطاباته وتعليقاته، كان الطابع العام لذلك التناول مزيجا من الاستخفاف والمفاخرة، الاستخفاف بالفيروس والمفاخرة بما هو متوفر للمجتمع الأمريكي من إمكانات طبيعة وعلمية وخدماتية.
الرئاسة الأمريكية لم تأخذ ملف كورونا على محمل الجد لفترة ممتدة، وسفهت تقديرات منظمة الصحة العالمية التي ذهبت في الثالث من مارس إلى أن نسبة الوفيات تصل الى 3،4 بالمائة من المصابين ثم رفعتها إلى 4،4 % من عدد المصابين، معتبرا أنه تقدير خاطئ، وأن النسبة لا تتجاوز واحد بالمائة من المصابين، أو أقل بكثير من واحد بالمائة حسب حدس الرئيس (مقابلة هاتفية مع فوكس نيوز). ووفق الاحصاءات الرسمية اليوم 12 / 4، تجاوزت نسبة الوفيات على مستوى العالم 6% من عدد المصابين، وفي الولايات المتحدة قاربت النسبة من 5% من عدد المصابين فيها والذي تجاوز 533 ألف مصاب.
وفيما كانت الدول المصابة تتجه إلى الحظر والعزل ومنع السفر باعتبار ذلك هي الوسيلة الأهم والأجدى في التصدي للفيروس وهي الوسيلة التي اخذت بها أولا الصين ثم تبنتها منظمة الصحة العالمية، دعا ترامب الأمريكيين في7 / 3 إلى أن يتصرفوا بأريحية حيال عدد من الموضوعات، ومن بينها حرية السفر معتبرا أن لا حاجة للذعر “ففيروس كورونا مثله مثل نزلة البرد، لا يقتل إلا المسنين ضعاف البنية الجسمانية”. وتوقع ترامب أن يتوصل العلماء الأمريكيون إلى العلاج خلال وقت قصير، وقال في التاسع من مارس ” إن 37 ألف أمريكي توفي العام الماضي من الانفلونزا العادية، ولم يغلق أي شيء بل استمرت الحياة والاقتصاد …. فكروا بذلك”.
وحين وقع الرئيس الأمريكي في 19 / 3 على القانون الأولي الخاص بالتخفيف من تداعيات الفيروس الذي أقره الكونغرس بقيمة 100 مليار دولار، وتضمن هذا القانون فيما تضمن الفحص المجاني للأمريكيين جميعا بشأن الفيروس ودفع أجر إجازة مرض بحد معين للعمال كان الفيروس قد أودى بحياة 110 أمريكيين واصاب نحو 7300 امريكي، أي أن النسبة كانت 1،5 %.
بعد أسبوع من ذلك أي في 25 / 3 / 2020 تجاوزت الاصابات في الولايات المتحدة 85 ألف إصابة والوفيات 1300 وفاة، واليوم الثاني عشر من ابريل وهو الحادي عشر من ابريل بالنسبة للولايات المتحدة تجاوز عدد الاصابات في الولايات المتحدة نصف مليون إصابة وتجاوز رقم الوفيات من 20500 حالة وفاة، أي أن أعداد الإصابات زادت منذ 19 مارس بنحو 73 ضعفا، وعدد الوفيات بنحو 186 ضعفا، وبالإجمال تجاوزت الولايات المتحدة اسبانيا التي كانت متقدمة في الاصابات بأكثر من ثلاثة أضعاف عدد المصابين، وباتت الأولى عالميا بعدد الاصابات وبعدد الوفيات، وتتجه بسرعة لتكون المركز الرئيسي للوباء في العالم.
ومنحنى التطور الذي ترسمه هذه الأرقام في الولايات المتحدة منحنى خطير جدا قد يشير إلى مئات الألوف من المصابين، وعشرات الأولوف من الوفيات خلال فترة قصيرة، وإذا كان الرئيس ترامب قد توقع في التاسع من ابريل أن يصل عدد الوفيات في الولايات المتحدة إلى مئة الف شخص، وبالقياس الى عشوائية توقعاته السابقة فلنا أن تصور الرقم الحقيقي الذي يمكن أن يصل إليه رقم الضحايا في هذه البلاد .
وتزداد خطورة ما نتوقعه إذا استدعينا حقيقة أن الإعلان عن الاصابات وهو المؤشر الرئيس لتفشي الفيروس يستند إلى عدد من تم اجراء الفحوص لهم فقط، وهؤلاء لا يمثلون إلا نسبة بسيطة جدا من عدد السكان، وتؤكد منظمة الصحة العالمية كذلك أنهم لا يمثلون إلا نسبة بسيطة أيضا من عدد المصابين والمتوفين فعلا، الذين تم تسجيلهم رسميا.
وكشفت التصريحات الأخيرة للرئيس ترامب، وللمسؤولين في إدارته، عن افتقادهم المعيب لتحمل المسؤولية فيما آل إليه الوضع في بلادهم، فتارة يحملون الصين المسؤولية عن تفشي الفيروس في الولايات المتحدة، بزعم تأخرها في الكشف عن المعلومات الخاصة بالفيروس. وتارة يحملون منظمة الصحة العالمية المسؤولية، وأنها كانت متحيزة للصين خلال إصدار إرشاداتها أثناء تفشي الفيروس، ويهددون بوقف المساهمة الأمريكية في ميزانية المنظمة، (تصريح الرئيس ترامب 8/ 4).
والمشكلة التي باتت واضحة جدا في الولايات المتحدة أن عين صاحب القرار في هذا البلد الذي يقود النظام العالمي هو على الاستثمار ورأس المال، والأرباح، وليس على الإنسان والمجتمع، وإذا أصاب المجتمع شيء إيجابي من خطط مواجهة الإدارة الأمريكية للفيروس ـ وهو لا بد أن يصيبه ـ فهو من النتائج الجانبية لبرامج المواجهة وليس من صلبها.
صحيح أن مركز الوباء ما زال في دول القارة العجوز مجتمعة، وصحيح أن هذه القارة أثبتت عجزها عن التصدي الفاعل للفيروس، وأظهرت ضعف بناءها المتمثل بالاتحاد الأوربي، وعدم قدرته على القيام بدور الرافعة في تحمل أعباء التصدي لهذا الامتحان على مستوى القارة، لكن مؤشرات الضعف الأوربية سابقة على امتحان كورونا، ولم يستطع تجمع هذه القارة في أي امتحان سابق على اختلاف القضايا التي امتحن بها أن يثبت قدرة حقيقية ، لذلك فإن العين دائما تتجه نحو الولايات المتحدة، التي هي القوة العظمى، والمركز الرئيس للنظام الدولي، ومركز البحث العلمي الأول عالميا، والمنتج الأول للدواء، كما هي المنتج الأول للسلاح ووسائل الدمار، وهي التي يتصدر اقتصادها الاقتصاد العالمي.
وكان حريا أن تتصدر العالم في التصدي لهذا الفيروس، على مستوى الخطط والإجراءات، وعلى مستوى المعونات والإمدادات، وعلى مستوى الأبحاث واكتشاف اللقاحات، أي أن تتصدر العالم في مسؤولية مواجهة هذا التحدي، لكن الأمر لم يكن على هذا النحو، وهذه الحقيقة من أخطر ما يحيط بالأزمة التي يثيرها فيروس كورونا، الذي عبر الحدود، وعجزت كل الدول عن ايقاف انتشاره، وأوقف عجلة الاقتصاد، ووجه ضربة شديدة للأمن على المستوى العالمي، وهو ينذر بانهيار اقتصادي عالمي قد يكون غير مسبوق.
لقد عطلت الإدارة الأمريكية الراهنة، بنظرتها النفعية قصيرة المدى، دور وطاقات الولايات المتحدة في مواجهة هذا الحدث، وحولتها إلى مركز وبؤرة للفيروس بدل أن تكون طليعة في مواجهته، ومركز متقدم وفعال في التصدي له، ومرجع وموئل للدول التي تحتاج الى المعونة للوقف في وجهه.
وهذه الإدارة هي المسؤولة عن آلاف الضحايا من الأمريكيين من الوفيات والمصابين، الذين كان يمكن أن يتم انقاذهم لو تم التدخل مبكرا وفي الوقت المناسب، ثم إنها لم تملك الشجاعة لتتحمل مسؤولية هذا الوضع، وراحت ترمي بالمسؤولية في تفشي انتشار الفيروس على جهات أخرى دون التوقف عند مسؤوليتها هي.
إن وجود هذا النمط من القيادة لأكبر وأعظم دولة في العالم أصاب العالم كله بضرر قد يصعب حصر حجمه وأبعاده، ولعل امتحان كورونا يمثل الانعطافة الرئيسية التي ستخلخل مكانة الولايات المتحدة من على سلم قيادة النظام الدولي.