بعد ثلاثة أشهر تدخل الثورة السورية عقدها الثاني، وتطوي عقدها الأول بكل ما حوى من الدموية والوحشية التي مارسها النظام وبكل الآلام والعذابات، وبكل الخذلان والعبث والتجارب، بكل حروب الآخرين على أرضنا وكل صراعاتهم، بكل المشاريع الجنونية العابرة للقارات وكل ذلك لأن المجتمع الدولي أدار الملف ولم يقرر حسمه يوماً بجدية، وباعنا الكثير من الوهم، والأهم من ذلك هو طريقتنا الجمعية في إدارة الملف العسكري والسياسي بسلطات متعددة ومتوزعة أفقياً، وحال القوى الرسمية التي تم إيجادها بشكل استثنائي، لغياب القوى الفاعلة القادرة على إدارة الملف بما فيهم القوى التقليدية من الإسلاميين واليساريين الذين أدمنوا المعارضة بالشكل التقليدي وليس إدارة الملفات التي تُدار عبر كوادر مدربة وجاهزة، لنصل اليوم إلى الاستعصاء، حيث البلد المنقسم إلى ثلاث مناطق نفوذ، لكلٍ منها آليات الهيمنة المحلية الخاصة بها وقواها العسكرية وداعميها بل ربما خمس مناطق إذا ما أخذنا بالاعتبار أن النظام في سورية ما زال لا يسيطر على حوران والجنوب بشكل فعلي وكامل كما الحال في السويداء ودرعا، و مناطق «هيئة تحرير الشام» لها وضع خاص دون أن ننسى أن «داعش» ما زالت ذات نفوذ ولو أصبح محدوداً، وأن إيران باتت لها منطقة هيمنة مباشرة، وأصبحت الحرب خافتة نوعاً ما عسكرياً لكن لها أشكالًا أخرى ثقافية وفكرية وعرقية عبر المناهج وكسب الولاءات وغيرها.
واقتصادياً باتت كل مناطق النفوذ تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات الدولية وعلى تحويلات المغتربين، التي وصل مبلغها الإجمالي إلى ما بين ثلث ونصف الناتج المحلى.
لكن إلى متى يُمكن أن تبقى المساعدات الدولية على مستوياتها الحالية، رغم أنها أقل مما كان يُنفَق دولياً قبل عدة أعوام نتيجة أمور شتى منها اختلاف الفاعلين في الموضوع السوري.!
أما الإنتاج المحلى فلا شيء يدل على إمكانية تفعيله بجدية، عبر تلك الإدارات الموجودة بكل أشكالها بما فيها النظام فالتصدير المُعاق واقعياً وغياب «المرونة» الاقتصادية النسبية التي كانت قائمة بين مناطق النفوذ قابلة للاستمرار في ظل زيادة إيرادات نفوذ الدول في كل منطقة وتدهور أسعار الصرف في سورية وتركيا مؤخراً فضلاً عن التدهور الأسرع في لبنان. ولا زراعة وصناعة دون آليات داعمة من مؤسسات تحميها من التسلط.
ولا يقل الوضع الاجتماعي هشاشة، لقد أنتجت الحرب تركيزاً كبيراً في الثروة بيد قلة وغُيبت الطبقة الوسطى، وخسرنا المدن إلا إدلب وازدحمت الأرياف وامتلأت بالنازحين بين الأشجار، وجاءت موجة شباب حديثة لم يعرف أبناءها سوى الحرب ومآسيه وانهيار التعليم وصعوبة التنقل والانعزال في آليات فكرية متباينة، ولا رابط بينهم وبين أولئك الذين انتفضوا منذ عشر سنين طلباً للحرية إنهم يخرجون في «تظاهرات» للاحتفاء فقط بحدٍ أدنى اليوم مما عليه في السابق في ظل غياب أي أفق، والرغبة في الهجرة بأي ثمن. أما الذين هاجروا فلهم همومهم في التأقلم والعمل والعيش في المجتمعات التي لجؤوا إليها، فلم يعد ذلك الحماس لمساعدة من بقي في البلاد.
سياسياً، لا يُبدي النظام السوري في دمشق أي استعداد لأية جدية تفاوضية وحتى دستورية ويرى أن أي قبول هو خطر على منظومته الاستبدادية، في المقابل فقدت قسد عملياً إمكانية خلق «كيان مستقل» كانت تحلم به على الأرض ولكنها تلعب على الحبلين بين الولاء لأميركا وروسيا واتفاقات مع النظام بسلوك شوفيني وعبث بالجغرافيا والثقافة والمناهج، أما مناطق المعارضة، فتتعثر بين سلطات أفقية موزعة بشكل بقعي وتغيب فيه المركزية والسلطة بشكل حقيقي وفعلي رغم المحاولات المتعثرة التي تتقدم تارة وتتراجع أخرى، وغالباً ما تطرح المبادرات بنفس الطرق ونفس الأدوات فلن تعطي نتائج مختلفة.
إن كلفة استمرار الاستعصاء السوري بالنسبة لجميع السوريين بكل الأماكن باهظة، بل باهظة جداً، على الشعب السوري وعلى الشعب السوري وحده.
وإن التفكير بجرأة للخروج من ذلك الاستعصاء هو واجب الجميع، لأن تكلفة الاستعصاء تعم الكل وأولهم الشعب الذي تحمل الكثير، ونحتاج اليوم لتجاوز هذا الاستعصاء لنقترب من الخلاص المستعصي.
المصدر: اشراق