يذهب بعضهم للقول إن الولايات المتحدة خسرت في حرب فيتنام عام 1975، وبعد أقل من عقدين على ذلك سقط جدار برلين، كما انهار الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية، ثم انهار الاتحاد السوفييتي من الداخل، ما يعني أن الولايات المتحدة كسبت في الحرب الباردة، ولهذا، لا يوجد أي داع لتهويل صعود الصين والمبالغة في فشل الاستراتيجية الأميركية وقيادتها في كل من سوريا وأفغانستان وبحر الصين الجنوبي وفي أي مكان آخر. إذ ما يزال بوسع أميركا أن تستعيد بريقها ووهجها، وأن تؤكد هيمنتها على العالم، كما سبق لها أن فعلت عقب عام 1975. بيد أن الولايات المتحدة تواجه انقسامات خطيرة بكل تأكيد، غير أن تلك الانقسامات كانت موجودة بالأصل منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كما قد تبدو الصين قوية، إلا أنها تعاني من مشكلات اقتصادية حادة يمكن أن تضعف من قدرتها على الوقوف في وجه القوة الساحقة الماحقة لأميركا. وقد أخطأ المتشائمون عندما تنبؤوا بأن اليابان ستبز الولايات المتحدة بوصفها أهم بلد مبتكر في العالم وذلك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويخطئ هؤلاء أيضاً اليوم عندما يخيل إليهم بأن الصين قد تحقق ذلك هي أيضاً، وذلك لأن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الديمقراطية تتمتع بما يكفي من الدهاء والمرونة، ناهيك عن القيادة الحكيمة والسياسات الصائبة، بما يمكنها من استعادة توازنها من جديد والاحتفاظ بقوتها على صعيد التقانة والتكنولوجيا.
يظهر بين الفينة والفينة مصطلح “التنافر المعرفي” في حديث بعضهم، ويشير هذا المصطلح إلى انقلاب وتغير شديد في معتقدات المرء الأساسية وثقته بنفسه، وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع، وذلك عند تعرضه لكم من المعلومات أو الأحداث، وتلك عملية انفعالية وعقلانية تصل بالمرء إلى القلق.
إلا أن ما يتم إغفاله عند استخدام هذا المصطلح هو ذلك المصطلح الشبيه به الذي صاغه أوائل من درسوا التنافر المعرفي، والذي لا بد من فهمه هو أيضاً، ألا وهو “اختزال التنافر” وهي عملية يقوم من خلالها المرء بالتقليل من أهمية المعلومات والتطورات التي تبعث على القلق مع تسويغه للأسباب والمشاعر التي تؤكد ما يقلقه وتشدد على صواب رأيه التقليدي منذ البداية، وبذلك يهدّئ المرء من مشاعر الارتباك والقلق حتى يرجع الإنسان أو المجتمع لحالة العطالة المعرفية المريحة بصورة فعالة ومؤثرة.
وهنا يعتبر التقليل من أهمية الخطر الذي تمثله الصين والخطأ في المقارنة مع فيتنام بمنزلة أمثلة حول الركون إلى حالة اختزال التنافر بهدف تهدئة التنافر المعرفي وتجنب إثارة القلق الناجم عن أخذ الأسباب البنيوية للتراجع الأميركي على المستوى العالمي ولحالة الضعف التي تعتري الولايات المتحدة بعين الجدّية.
ينبغي علينا هنا أن نفكر بالفرق بين حقبة فيتنام والظروف الحالية، عندئذ سنجد في البداية بأن ديناميات القوة العالمية كانت لصالح الولايات المتحدة بشكل أكبر مما هي عليه اليوم. وفي كلتا الحالتين، كانت كل من الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفييتي) والصين تمثل عناصر فاعلة مهمة على المستوى الدولي (أما أوروبا فكانت كما هي اليوم عبارة عن مسرح تقام فيه نشاطات الجهات الأخرى، أكثر من كونها لاعباً دولياً حقيقياً). إذن كلما أصبحت القوة الثالثة بمنزلة رقم جيوسياسي مهم، تحالفت القوتان الأخريان ضدها. إذ في أعقاب الانقسام ما بين الصين والاتحاد السوفييتي، وظهور اشتباكات على الحدود الشمالية لكلا البلدين في عام 1969، وجدت الولايات المتحدة والصين سبباً مشتركاً للوقوف ضد الاتحاد السوفييتي. وابتداء من “دبلوماسية كرة الطاولة” التي ظهرت في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وتسارعها عقب وصول دنغ شياو بينغ للسلطة، بدأت الصين تتفوق بالمعارف والتقانة والموارد على تلك التي تصلها من الولايات المتحدة، في الوقت الذي أثبت النموذج السوفييتي فيه تشدده وجموده ونقصه وعدم ديمومته. وبذلك احتلت الصين الزاوية الرابحة ضمن ذلك المثلث.
واليوم، تتحالف موسكو وبكين ضد واشنطن بالرغم من اختلاف غايات كل منهما، وذلك لأن الصين وروسيا اتفقتا على أن إضعاف القوة الأميركية شرط أساسي يجب أن يسبق أي شيء يمكن أن يخطر في البال. فأصبحت دبلوماسية البلدين وجيشاهما وكذلك مخابراتهما تتعاون على تقويض المصالح والمواقع الأميركية في كل مكان وبخصوص أي قضية. وهنا تشغل الصين زاوية مريحة من هذا المثلث، في حين أن الولايات المتحدة، التي لا تشغل أي زاوية مريحة هنا، لم تراع حتى ما تبقى من شبكة التحالفات لديها.
ثانياً: كان الاتحاد السوفييتي يمثل قوة عسكرية على المستوى العالمي كما كان يتمتع بموارد بشرية مهمة في مجال العلوم والتقانة، بيد أنه لم يكن منافساً حقيقياً للولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي، إذ لم يهدد بحياته الهيمنة الأميركية على العالم في أي منحى من المناحي، باستثناء المنحى الذي يتصل بالاعتماد على القوة الوحشية. أما الصين فتمثل قوة اقتصادية كبيرة، وذلك لأن دينغ وضع تصورات ونجح في تطبيق عملية تكيف مرنة لحكم الحزب الشيوعي وذلك فيما يتصل باحتياجات التنمية المادية، بخلاف ما فعلته القيادة السوفييتية، فأتت مقاربته الحكيمة القائمة على التفوق على المزايا الأميركية عبر الجمع بين الخطاب والابتكار (القائم بشكل كبير على سرقة التقانة بطريقة ماهرة وبصورة مستمرة)، وبناء القوة العسكرية لتعمل عمل دليل يهتدي به من خلفه في الحكم. كما أن مبادرة “الحزام والطريق” التي انتهجتها الصين تعدّ شيئاً لم يستطع الاتحاد السوفييتي حتى أن يحلم به، فكيف بأن يطبقه؟!
ثالثاً: إن الوضع الحالي للصين بوصفها منافساً للولايات المتحدة على المستوى الإقليمي لا العالمي من المحتمل أن يجعلها على استعداد أكثر من الاتحاد السوفييتي لمواجهة الولايات المتحدة بالقوة الصلبة، فقد تنافس السوفييت مع الأميركيين في كل مكان وعلى كل المستويات، ولكن تبين كما اتضح خلال أزمات برلين التي تعرض لها كلا الطرفين، بأنه لا يوجد مكان على البسيطة ولا مشكلة تستحق المخاطرة بما تخشاه كل من موسكو وواشنطن، أي تحول الأمور نحو حرب نووية كارثية. وهنا نجد بأن الصين تتجه نحو التحول إلى قوة عالمية، إلا أن نموها قد لا يدفعها للانحراف عن تركيزها الوحيد على استعادة تايوان وإقامة قواعد سيطرة لها في الحديقة الخلفية أي في غربي المحيط الهادي. أي أن حالة المقارنة يمكن أن تظهر في حال مواجهة الولايات المتحدة لهيمنة سوفييتية تظهر في فلوريدا مثلاً، وبما أن كوبا لم تكن بحياتها جزءاً من الولايات المتحدة، لذا فهي لا تعبر عن وضع مماثل.
وحتى لا نخلط الأمور لا بد من القول بأن تايوان تمثل مشكلة داخلية بالنسبة للصين، لا قضية تتصل بالقانون الدولي ولا القواعد النظرية القائمة على النظام الدولي، إذ منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، وافقت الأمم المتحدة وكذلك معظم الحكومات، بما فيها حكومة الولايات المتحدة، على انفصال تايوان عن الصين، فأصبحت القضية هي: هل تقوم بكين أو تايبيه بحكم الصين الموحدة؟ وفي سبعينيات القرن المنصرم، خرجت الولايات المتحدة بمنطق منمّق لتشرح من خلاله السبب الذي يدفعها لإقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الصين مع احتفاظها بعلاقة أمنية مع تايوان، وتزامن ذلك مع اعتراف عالمي بصين واحدة بما يتناسب مع المصلحة الأميركية، فبقي ذلك الاعتراف بمنزلة سلاح ماض بيد بكين حتى بعد تلك الفترة الزمنية.
رابعاً: إن التفسخ الداخلي الذي تشهده الولايات المتحدة اليوم أعمق وأخطر من حالة السخط التي عاشتها أميركا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على المستوى الاجتماعي والعرقي. فالولايات المتحدة تعاني على الدوام من انقسامات داخلية خطيرة سببها تاريخها مع العنصرية والاضطرابات الاقتصادية وحالات الظلم وانعدام العدالة فضلاً عن الانقسامات الإقليمية. ولكن طوال أول قرن ونصف لظهور هذه الدولة بقي محيطان يحميان الأميركيين المتناحرين فيما بينهم من القوى الخارجية، لدرجة أنه حتى سيدتها البريطانية السابقة أصبحت تدرك بأن العبث مع أميركا لا يستحق العناء. ومنذ أن تحولت الولايات المتحدة إلى قوة عظمى على مستوى العالم، أخذ أي منافس محتمل لها – سواء أكان صديقاً أم عدواً- يختفي من ساحة اللعب، وقد حدث ذلك مرتين خلال عشرين سنة بفضل حروب عالمية دمرت تلك القوى المنافسة، إلا أنها أغنت أميركا المحصنة نسبياً ضد أي هجوم فعلي. بيد أن هذه الظروف الفريدة قد رحلت دونما رجعة، ولهذا لم تعد الولايات المتحدة تتمتع برفاهية القدرة على خوض قتال شوارع داخل البلاد من دون أن تعاني نقصاً في قوتها الصلبة والناعمة على المستوى الدولي.
وهنا لا بد أن نتذكر النخب في كلا الطرفين ضمن المشهد السياسي الرسمي لأميركا والتي واصلت التعاون مع بعضها طوال المغامرة التي خاضتها أميركا في فيتنام وما بعدها. وخلال جلسات الاستماع التي عُقدت حول فضيحة ووترغيت، احتدّ النقاش بين الديمقراطيين والجمهوريين حول ما إذا قام الرئيس ريتشارد نيكسون بخرق القانون أم لا، إلا أن كلا الطرفين اتفقا على طريقة إدارة المحاكمة، إذ في عام 1980، تنازع الرئيس دونالد ريغان مع قادة الحزب الديمقراطي في الكونغرس حول قضايا كبرى وذلك في أثناء تعاونهم على إبقاء النظام السياسي الأميركي يعمل كما هو.
إلا أن الوضع تغير منذ أن وصل نيويت جينغريتش واليمين الجمهوري إلى رئاسة مجلس النواب في عام 1995، وذلك لأن جينغريتش قام بتسميم السياسة عبر رفضه التعامل مع الخصوم السياسيين باحترام ووصم أي جمهوري على استعداد للقيام بذلك بالعار، كما هندس ذلك الرجل لائحة اتهام متسرعة تم إعدادها على عجل لعزل بيل كلينتون، إلا أن هذه اللائحة كلفت جينغريتش وخلفه منصبهما، دون كلينتون. غير أن الديمقراطيين أثبتوا فيما بعد أنهم لم يحملوا سوى روحٍ انتقامية عندما أعدّوا أول لائحة اتهام تهدف لعزل دونالد ترامب مع افتقارها للصدقيّة، الأمر الذي قوّض الجهود الساعية لإعداد لائحة الاتهام الثانية ضد هذا الرئيس الذي قام أنصاره بمهاجمة مبنى البنتاغون بتشجيع منه في السادس من كانون الثاني الماضي.
قصارى القول: إن الولايات المتحدة كانت منقسمة لكنها بقيت فاعلة خلال سبعينيات القرن الماضي، غير أنها أصبحت مقسمة ومختلة وظيفياً اليوم. وفي ظل هذا السياق، تعمق حالة الإنكار الانعكاسي لوجود انحدار أصلاً من الضرر الذي يطالع المصالح الأميركية وما تبقى من قوتها وذلك في ظل الفشل الذي منيت به الولايات المتحدة في الخارج وبسبب الكراهية التي تعاني منها البلاد في الداخل. بيد أن الولايات المتحدة ما تزال تحتفظ بقدر كبير من الأصول والإمكانات، لذا مع القيام بحالات تدقيق وفحص ذاتية، وبوجود بعض مظاهر القيادة، يمكن للولايات المتحدة أن تدير موقعها العالمي بكل نجاح، إلا أن ذلك لن يقف في وجه مزيد من التراجع والانحسار. أي أنه إذ بقي الوضع على حاله، فإن عواقب الخلاف حول مستقبل بناء لن تكون محمودة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا