يمكن تفسير أفول، أو تراجع، تيار الإسلام السياسي في البلدان العربية، ومؤخراً في السودان وتونس والمغرب، بعدد من العوامل التي يفترض ملاحظتها، والتي يتمثل أهمها في الآتي:
أولاً، إن ذلك التيار، بتنويعاته وتبايناته واختلافاته، يتعرض للتحولات ذاتها، أو المآلات، التي تعرضت لها التيارات الأيديولوجية الشمولية التي كانت عرفتها المنطقة العربية، في صعودها وهبوطها. فقد انحسر التيار القومي العربي، إثر هزيمة حزيران (يونيو) 1976، ثم انحسر بعده التيار اليساري، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ويبدو أن هذا هو مآل تيار الإسلام السياسي، تبعاً لإخفاقاته في الإدارة والحكم والسياسة، فتلك هي دورة الحياة.
ثانياً: أتى انحسار هذا التيار كنتيجة طبيعية لاختباره في السلطة والحكم، لأن استحقاقات تيار ما في المعارضة هي غير استحقاقاته في السلطة، وإذا كان هذا التيار صعد في بعض البلدان نتيجة مظلومية ما فإن وجوده في السلطة، وفي الحكم والإدارة، يجعله في موقع الامتحان والنقد والمساءلة، مثله كباقي التيارات؛ وهذا حصل في مصر سابقاً ثم في تونس وفي المغرب. ولعل هذا ما حذر منه محقاً عبدالفتاح مورو، أحد قادة “حزب النهضة” التونسي سابقاً، بدعوته إلى التخلّي عن شعار: “الإسلام هو الحل”، لأنه يحمّل الإسلام كدين ما لا يحتمل، ولأنه شعار مخادع، إذ إن الحل يكمن في الحرية، والعدالة، والتنمية، والتعليم، وخدمة الناس. ما يفيد بوعي التيار الإسلامي لذاته كحزب مثل غيره من أحزاب التيارات الأخرى، بنزع القداسة عنه، وكفه عن ادّعاء الوصاية على الإسلام والمسلمين.
ثالثاً، كل التطورات تفيد أن تيار الإسلام السياسي، كتيار أيديولوجي، لا يحظى بأغلبية في المجتمعات العربية، لأن الناس يميّزون بين الدين والأحزاب التي تتغطى بالدين، أو تستثمر في الدين، لتمرير أجنداتها السياسية، بمعنى أن الناس، في أغلبيتهم، يتصرفون بمعنى ما كعلمانيين، إن جاز التعبير، في شؤون حياتهم الخاصة، مع محضهم التأييد لتيارات سياسية يسارية أو يمينية، قومية أو وطنية، أو دينية أو علمانية.
رابعاً: فوق كل ما تقدم يمكن ملاحظة أن التيارات الإسلامية بتنوعاتها واختلافاتها (الدعوية والحركية، والمعتدلة والمتطرفة، والصوفية والسلفية والجهادية)، تخاصمت في ما بينها في الفترة الماضية، أكثر مما تخاصمت مع التيارات الأخرى، العلمانية أو القومية أو اليسارية؛ هذا حصل في مصر وفي المغرب وفي سوريا.
خامساً، ثمة خلاف هناك أيضاً بين الإسلام السياسي “السنّي” والإسلام السياسي “الشيعيّ”، في تمحوراتهما الطائفية، ما يفيد، أيضاً، أن نقد الإسلام السياسي “السنّي”، أو نزع وصايته على الإسلام والمسلمين، لا يستقيم من دون نقد الإسلام السياسي “الشيعي”، الذي هو أخطر وأكبر، إذ وصل به الأمر إلى حد تنصيب أحزاب باسم الله في أكثر من بلد، كما لديه دولة مركز هي إيران، وإمام هو “الولي الفقيه” في طهران، وله نوع من التراتبية الدينية (آيات الله، والسيد، والمقلد)، وفوق كل ذلك له مصدر تمويل منظم، ويقوم على ميليشيات مسلحة، على ما نشهد في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكلها أمور يفتقد لها الإسلام السياسي “السنّي”.
سادساً، لم تعمل التيارات الإسلامية المعتدلة والدعوية والسلمية والمدنية على نزع شرعية التيارات الإسلامية المتطرفة، التكفيرية والإرهابية والجهادية، ولم تدرك ضرورة ذلك، توهماً منها أنها تستطيع استثمار عملها، واعتقاداً منها أنها ربما تؤدي إلى خدمة مشروعها مستقبلاً. وفي الواقع أن التيارات الإسلامية المعتدلة لم تفهم ضرورة تمييز نفسها، عن التيارات المتطرفة، ولم تدخل في صراع معها على المستوى الفكري والدعوي، في ادعاءاتها الأساسية المتمحورة حول مفاهيم “الحاكمية لله”، والولاء والبراء، والخلافة، وشعار “الإسلام هو الحل”، وتكفير المجتمع، واعتبار الديموقراطية هرطقة. وبالنتيجة فإن هذا الأمر أثار المخاوف من مجمل التيارات الإسلامية، سواء كانت معتدلة أو متطرفة، سلمية أو جهادية، وشيوع اعتقاد أنه لا توجد تمايزات نوعية بين التيارات الإسلامية، وأن الفارق بينها هو فقط في الشكل أو في الدرجة، ولعل ذلك هو واحد من أهم عوامل انحسار تيار الإسلام السياسي في العالم العربي، بكل تلاوينه، على ما بتنا نشهد منذ سنوات.
هكذا، يفترض بهذه التجربة، باهظة الثمن، أن تحسم توجهات التيارات الإسلامية المعتدلة والحية للتصالح مع السياسة والواقع والعالم، ومراجعة فكرتها عن صبغ الصراعات السياسية الدنيوية بطابع ديني أو طائفي، ووضع الدين بمكانته المقدسة بعيداً من استغلال البشر ونزواتهم ومصالحهم الخاصة، وتالياً الاحتكام إلى موقف يتأسس على اعتبار قضايا الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة بمثابة المعيار في الصراعات على السياسة والسلطة؛ وبديهي أن هذا الأمر يشمل كل التيارات، دينية أو علمانية، وقومية وليبرالية ويسارية.
المصدر: النهار العربي