بات من الإحتمالات الكبيرة عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، واحتلال موقعها الذي أبعدت عنه في 16 تشرين ثاني/ نوفمبر 2011 مع حزمة من العقوبات الاقتصادية والسياسية بحقها، كمخرجات لاجتماع طارئ، في حينها، لوزراء الخارجية العرب، ذلك بعد انطلاقة الثورة المباركة في أواسط آذار/ مارس 2011، وبنتيجة همجية ووحشية نظام الأسد الابن، واستخدامه العنف المفرط في مقابل الإحتجاجات السلمية المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية.
عودة النظام السوري تأتي بعد اتصالات عديدة جرت معه وبشكل علني، في الآونة الأخيرة، بعد أن كان بعضها سراً وعلى خجل، وبعد مساع ومطالبات رعتها أطراف عربية عديدة منذ سنوات، ولكنها اصطدمت بمواقف إقليمية ودولية قاطعة وحاسمة بهذا الشأن، ولكن كما يبدو، اليوم، أن “الفيتو” الدولي قد بدأ يرفع عنها، أو تم تخفيفه، مع وضع النظام وسلوكه تحت “الإختبار” و”المراقبة”.
لا شيء تغير في الواقع الذي استحق عليه نظام دمشق العقوبات لجهة سلوكه حتى تفتح أبواب التطبيع مع الأسد الصغير على مصراعيها، وليعود إلى شغل موقعه في الجامعة العربية وترفع عنه العقوبات، فلا شيء تبدل في سلوكه وبنيته وطبيعته، بل أكثر من ذلك حوَّل سورية إلى مطية وقاعدة لأخطر مشروع يتهدد المنطقة في حاضرها ومستقبلها، وهو المشروع الإيراني بأبعاده الدينية والمذهبية، بما في ذلك النظم المطالبة بعودته والتطبيع معه، وفتح جدارًا في الأمن القومي العربي وأمن هذه النظم، كما أن مطالب الشعب السوري المكلوم وأحلامه المغدورة لم تتحقق، بل زادت معاناته التي تتخذ أشكالًا لم تكن في السابق، كما هي الحالة الإقتصادية المروعة اليوم، لعموم السوريين. فقط المتغير الوحيد الحاصل هو المرحلة والظرف التاريخيين، بين الأمس واليوم، ومابينهما من إخفاقات وتراجعات، فطرد نظام الطغيان الكوني جاء في سياق ربيع عربي بدا واعدًا ومزهرًا ومشرقًا، وعودته اليوم ليست إلا في سياق خريف عربي انتكست فيه معظم الثورات التي انطلقت في مشرق ومغرب الوطن العربي، بآمال لا حدود لها، وهي اليوم غارقة في بحور الدم والفوضى ولا يمكن التنبؤ بمستقبلها ومسارات الأحداث فيها.
ثمة ما يستدعي القول أن الجامعة العربية، على الأقل في العقود الخمسة الأخيرة، تحولت إلى مؤسسة رسمية تعبر عن النظم ومنظوماتها الأمنية وشبكات مصالح كينوناتها المرتبطة بالخارج الذي تستمد منه الشرعية والحماية ولا علاقة لها بالشعوب وتطلعاتها، قضاياها الكبرى وأحلامها العريضة، بل تحولت منصةً لتبرير وتمرير كل ماهو مناقض ومناهض لثوابتها الراسخة في التاريخ والوجدان والثقافة، ومن الخطأ الفادح اعتبار عودة نظام دمشق إليها تعبيراً عن عودة سورية أو القول بفجاجة “العودة إلى سورية”، كما أراد البعض، فسورية الشعب والدور، التاريخ والنضال، لم تغادر قلوب أحرار العرب وبقيت معاناة شعبها وأهلها حاضرة في وجدانهم وضمائرهم، وبقيت تطلعات السوريين بغدٍ أفضل هي تطلعات كل عربي في قطره أو بلده، أو إقليمه، والإنفتاح على أحد أفراد عائلة النظام الرسمي العربي أمر يخص مصالح تلك الأسرة فقط، التي تدعم وتساند بعضها البعض بكل ما تملك من القدرات والطاقات، وفية لما وجدت لأجله، وملتزمة بالكامل لما هو مناط بها من مهام.!!
لايمكن أن ننكر الكثير من الدعم الرسمي العربي للشعب السوري والثورة السورية، عند انطلاقتها، ولكن ذلك جاء في ظل متغيرات السياسة وأحوالها التي فرضها المزاج الشعبي في ساحات وشوارع العواصم والمدن العربية بقوة، وجعلت بعض الدعم الرسمي الذي نالته على مضض تماشيًا مع اتجاهات الريح القوية وانحناءً للعواصف التي بات الجميع أمامها مهددًا بالاقتلاع والزوال، أو تصفية لحسابات خاصة مع النظام السوري وبنيته وتوجهاته المذهبية البغيضة.
من نافل القول، هنا، أننا لانتحدث مطلقًا، عن الدعم الشعبي الذي كان بلا حدود، ونقدره حق تقديره، أو التعاطف الوجداني مع مالحق بالسوريين من مصائب وكوارث، والذي هو بدوره أصيب في عموم المنطقة بالخذلان، ليس فقط بما حل بالشعوب وأوطانها بل من أصوات الكثير من “النخبة” التدليسة والتبريرية.
احتمالات عودة سورية الدولة إلى أشباهها من النظم العربية تحصيل حاصل لواقع عربي مرير، بدأته بعض الأطراف الدولية، دولًا ومنظمات، تماشيًا مع تبدلات في أولويات السياسة وبراغماتيتها التي انكشفت بشكل فاقع ومتناقض مع دعاويها وقيمها الأخلاقية والإنسانية، وإن كان ذلك مؤلمًا للسوريين وسيرتب نتائج تعقد قضيتهم وتطيل أمدها، فإننا لانشك ولو لبرهة بقدرة شعبنا وقواه الوطنية بالتغلب على كل تلك المستجدات، إيمانًا منا بحركة التاريخ وقدرة الشعوب على تجديد وسائلها وأساليبها.
عودة “سورية” باختصار (إن حصلت)عودة ضال إلى ضالين من جنسه وشكله ونوعه، والعروبة الحقة براء منهم جميعًا.