في ظل النظام الرئاسي المعمول به في الجزائر، فإن البرلمان الجزائري بغرفتيه السفلى والعليا لا يملك سلطة تعيين وزراء الحكومة أو محاسبة رئيس الجمهورية أو فرض أي مشروع عليهما معاً، بل إن مهمته مختزلة أساساً، إما في تعديل القوانين أو في اقتراح تغييرات طفيفة عليها، وكذا مناقشة برنامج الحكومة.
أما بخصوص رئيس الدولة، فلا يحق للبرلمان الجزائري في وضعه الراهن التدخل في صلاحياته وممارساته التي يخولها له الدستور سلفاً لأنه هو الذي يحكم الجميع ولأن لديه قدرة على حلَه إذا رأى ذلك يصب في مصلحة البلاد.
وفضلاً عما تقدم، فإن رئيس الجمهورية يتمتع بحق اختيار وتعيين الثلث الرئاسي من أعضاء البرلمان (الغرفة العليا) من دون إخضاعهم للانتخابات الشعبية أو استشارة المجلس الدستوري أو الحكومة أو البرلمان نفسه.
في يوم الأحد الماضي في 26 أيلول (سبتمبر) الجاري، أشارت يومية “الشروق اليومي” الجزائرية التي توزع نصف مليون نسخة يومياً والتابعة للقطاع الخاص والمقربة أيضاً من أجهزة النظام الحاكم في الجزائر إلى وجود ثغرة في القانون الخاص بالبرلمان في غرفتيه، وينوي أعضاء غرفته السفلى السابقون والممنوعون بقوة القانون من خوض الانتخابات البرلمانية الجزائرية التي أجريت بتاريخ يوم 12 حزيران (يونيو) الماضي وذلك جراء قضائهم ولايتين متتاليتين أو منفصلتين في الغرفة السفلى، استغلال هذه الثغرة للعودة من نافذتها مجدداً إلى مجلس الأمة (الغرفة العليا من البرلمان).
ويتوقع أن يتم تنفيذ هذا السيناريو بواسطة “ترشح هؤلاء أولاً للانتخابات المحلية التي ستجري في أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل ومن ثم الترشح في شهر كانون الأول (ديسمبر) المقبل للانتخابات البرلمانية التي بموجبها يتم التجديد النصفي للغرفة العليا من البرلمان” بحسب صحيفة “الشروق اليومي”.
وهكذا سيكون بوسع هؤلاء القفز على “سرير بروكرست” السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات لأن القانون الجزائري يسمح لهؤلاء الترشح للغرفة الثانية من البرلمان ولكن لا يسمح لهم الترشح للغرفة السفلى من البرلمان نفسه.
وفي السياق ذاته أكد المحرر السياسي للصحيفة ذاتها المذكورة سابقاً، محمد مسلم، أن “الكثير من النواب الذين تعرّضوا للمنع سابقاً بموجب الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 200 من قانون الانتخابات، يستعدون لاقتحام سباق الانتخابات المحلية المسبقة بقوة، ومن ثم العودة إلى البرلمان من خلال انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة، المرتقبة في شهر كانون الأول (ديسمبر) المقبل”.
وهنا ينبغي التساؤل: لماذا يسمح القانون الجزائري أن يعمل البرلمان بغرفتيه بقوانين مختلفة ومتناقضة؟ علماً أن دور هاتين الغرفتين تشريعي بالدرجة الأولى وينبغي أن لا يكونا متضاربين أثناء سنَ القوانين أو عند ممارسة رقابة سير أعمال الحكومة وفقاً لها.
وفي الواقع تمثل ازدواجية هذا المعيار القانوني مشكلة كبيرة في البنية القانونية لهذه المؤسسة التشريعية الجزائرية، وزيادة على ذلك توجد هناك مشكلة أخرى لم تُناقش وتعالج وتتلخص في كون رئيس الجمهورية يتمتع بحق تعيين أعضاء الثلث الرئاسي في الغرفة العليا من البرلمان فقط من دون إخضاع ذلك لقبول أو رفض الغرفة السفلى من البرلمان نفسه؟
ويرى المراقبون السياسيون أن تطبيق هذا المعيار المزدوج يوحي للمواطنين أن الغرفة السفلى من البرلمان أقل شأناً من مجلس الأمة (الغرفة العليا) لأن الأولى تتشكل فقط من الأعضاء الذين ينتخبهم المواطنون وأغلبهم ليسوا من النخب السياسية أو الفكرية ولأنَ رئيس مجلس الأمة هو الذي ينفرد بموقع الشخصية الثانية في الدولة بعد رئيس الجمهورية وأنه هو الذي يحتكر تولي الرئاسة لفترة انتقالية قصيرة في حالة شغور منصب رئيس الدولة بسبب وفاته أو انسحابه طواعية أو بسبب إصابته بمرض خطير يمنعه من أداء وظائفه الدستورية!
والحال، أن البرلمان الجزائري قد مرّ بأطوار كثيرة حيث كان في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين بغرفة واحدة فقط ومجرد منصة شكلية لتمرير القوانين التي كان يسنّها مجلس الثورة الذي كان يسيطر حينذاك على كل مقدرات سياسات البلد.
أما في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد فقد اضطلع البرلمان في بدايات حكمه بمهمة تسويق ما كان يدعى بالتمثيل الجهوي مع المحافظة على الغرفة الواحدة، ومن ثم أضاف إليه في عهد التعددية الحزبية الصورية مهمة الإشراف على مخاض الخيار الديموقراطي الذي لم يعمر طويلاً بسبب فسخ المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية التي كان متوقعاً أن يفوز بها بالأغلبية المطلقة “حزب جبهة الانقاذ الاسلامية”، الأمر الذي أدخل الجزائر بدءاً من 12 كانون الثاني (يناير) 1992 في دوامة العنف الدموي لمدة طويلة كادت أن تعصف بكل مقومات أركان الدولة الجزائرية.
أما برلمان مرحلة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة فقد كان برأسين (الغرفة العليا والغرفة السفلى) كما سُخر لتسويغ وتمرير قانون السلم المصالحة الوطنية وبعد ذلك ترسيم اللغة الأمازيغية وثم المصادقة على تعديل الدستور الذي فرض الولايات الرئاسية المتتالية، وهو السيناريو الذي قلَب السحر على الساحر وأدى إلى انفجار التناقضات التي عبّر عنها بالتفصيل الحراك الشعبي الذي لم يفرز بدوره أية قيادة شعبية وطنية بديلة أو أي تغيير جوهري في منظومة وبنية الحكم حتى يومنا هذا.
وفي هذا المناخ المتوتر رُفع شعار شعبي ساخر أطلق أصحابه على البرلمان الجزائري بغرفتيه لقب برلمان “الحلاقات” في إشارة متمركزة ذكورياً إلى تواجد عدد معتبر من النساء البرلمانيات المنتخبات والمعينات تحت قبته المخملية.
وفي الواقع، فإن الغرفة السفلى من برلمان مرحلة بوتفليقة لم تعرف الاستقرار وجراء ذلك تداول عليها 8 رؤساء بمعدل رئيس برلمان واحد كل عامين ونيف لغاية إجباره على الاستقالة من منصبه بالقصر الرئاسي بأعالي منطقة المرادية في حين عرف مجلس الأمة (الغرفة العليا) في عهده ثلاثة رؤساء فقط وهم على التوالي: الراحلان محمد الشريف مساعدية، وعبدالقادر بن صالح، وبعدهما صالح قوجيل الذي لا يزال في منصبه هذا حتى الآن، وذلك بمعدل 6 سنوات لكل واحد منهم.
ورغم هذا الاستقرار الشكلي، فإن مجلس الأمة الجزائري (الغرفة العليا) بقي فضاءً للسلطة وأبنائها المطيعين وأغلبهم وزراء ودبلوماسيون ومسؤولون سابقون كبار عرف عنهم أنهم لم ينجزوا أثناء تقلَدهم المناصب الحساسة أي تطوير حداثي استثنائي للمجتمع الجزائري في مختلف فضاءاته العميقة في الأرياف والمدن، كما أنهم لم يشركوا يوماً نخب الخبراء والمثقفين والمفكرين الجزائريين الأكفاء من أجل خلق حوار خصب يمكّن السلطة من رسم وتنفيذ مشروع دولة التنمية الوطنية العصرية.
المصدر: النهار العربي