في فترات الهزيمة وما بعدها، تكثر التلاطمات الموجية في السياسة، وتتعدد حالات الارتكاس المباشر وغير المباشر، وتُراكم الشعوب الخبرات الناتجة عن الممارسات السياسية لقادتها وقواها الفاعلة.. إلا أن هذه الفترات تكون – عادة- مشوبة بنوع من ضياع البوصلة، وفقدان التوازن، وإمحاء الاتجاه، وهذا ما نلحظه الآن لدى العديد من توضعات “الانتلجنسيا” العربية الرثة، وهي حالة مرضية بالضرورة، لا يمكن تجاوزها إلا بعد حين.
هذا إذا أخذنا الأمور بحسن النوايا، ولم نأبه للاتهامات اللفظية الارتباطية، التي وإن كانت غير بعيدة عن توجهات البعض، إلا أن في السياسة فعلاً وحركة، نتيجة ومؤدى، وممارسة آنية، وهي أهم من رمي الاتهامات هنا أو التشكيك هناك، وهي لا تفيد بالتحليل العلمي للسياسة، ولا تعطي وقائعية سياسية متوازية مع المعطى الموضوعي للمسألة.. فبعد سقوط بغداد المدوي، وبعد تصاعد حراك المقاومة العراقية ضد الوجود الأميركي الأنغلوساكسوني على أرض العراق، وبعد حالة الارتباك الواضح في السياسة الأميركية الاحتلالية هناك، كثرت الأقاويل والتحليلات حول ماهية المقاومة العراقية، ومدى فائدة العمل المسلح في مواجهة الاحتلال، ومن يقف وراء هذه العمليات، وإلى أي شيء يمكن أن يؤدي انتصار هذه المقاومة مستقبلاً.. فهناك من يعتقد بأن انتصار المقاومة يعني بالضرورة عودة النظام البعثي السابق وبالتالي عودة “الاستبداد والدكتاتورية”، ويذهب البعض إلى أكثر من ذلك فيقول: إن المقاومة العراقية ستودي بالعراق إلى الهاوية وإلى التفتيت الطائفي والاثني، وأن المطالبة الآن بخروج الأميركان شيء من العبث، إذ أن بقاءهم كما يقال هو أكثر فائدة لوحدة العراق.. حتي يتمكن “مجلس الحكم الانتقالي” من الإمساك بزمام الأمور تحت القيادة الأميركية غير المباشرة… هذا الكلام وسواه يعود بنا إلى حالة من التنظير “اليسراوي” البائسة، وفيها الكثير من بؤس السياسة نفسها، فهي سياسة مهترئة وغير آخذة بالاعتبار لنضالات الشعوب عبر الأزمان، وهي لم تدرس التاريخ جيداً، ولم تعرف على الإطلاق أن حالات الكفاح ضد المستعمر كانت وفي كل الحالات وضعية سياسية توحيدية للشعوب، وليست تفتيتية، وكانت عامل صحة، وليس عامل مرض، وأن من حق الشعوب، التاريخي والحضاري، والقانون الدولي، أن تقاوم مستعمريها مهما كانت مبررات الاحتلال الكولونيالي، وليس هناك من شعب في الدنيا احتلت أرضه وجلس ينتظر فرج المنظرين، أو رحمة المستعمرين، أو تأويلات الخائفين والمستسلمين، والخانعين المتأمركين.
لا ضير أن نقول بأن أمتنا عاجزة ومتعاجزة، بنظامها السياسي الرسمي المتهالك، عن فعل أي شيء حقيقي نصرة للعراق، علما بأنها تدرك أن حالتها المستقبلية قد لا تكون بمأمن من الذي جرى للعراق.. لكن ليس من الموضوعية أبدًا أن نفلسف الهزيمة ونُشرعن الاحتلال، وندين المقاومة، تحت ذرائع ومسميات شتى، إذ أنه لا يهم الآن من يقوم بالمقاومة ومن يدعمها، ومن يخطط لها ومن ينفذها.. بل المهم كل المهم أن المقاومة جارية، وهي حالة صحية في الأمة من بغداد إلى فلسطين إلى لبنان وحتى الجولان، وعدم وجود مقاومة يؤشر إلى معطى غير طبيعي، وإشكالي يجب البحث في كينونته، وبواعثه الداخلية والخارجية. وحتى في الشريعة الاسلامية السمحة، فإن الجهاد في حالة احتلال البلاد والغزو الخارجي، يصبح “فرض عين” وليس “فرض كفاية” والمتقاعس عنه آثم آثم.. فكيف بالذي يدعو إلى عكسه.
أيها السادة من مثقفين ومتثاقفين.. يا من لفظتكم المجتمعات العربية بيسراويتكم الشخبوطية، إن مواقفكم البائسة من الوضع العراقي ستودي بكم إلى مزبلة التاريخ.. وسوف لن تنفعكم قوالبكم الجاهزة في “المادية التاريخية” بل إنه لمن مهازل التاريخ أن يتوجه “الماركسي اللينيني” إلى أحضان الأميركان، تحت حجج شتى، وتهويمات “هميونية” هي من سمات “الأنتلجنسيا” العربية المنفلتة من عقالها والمتوضعة في أتون التمظهر الاستعراضي لبعض “المثقفين العرب”. يا مثقفي “البوصلة المفقودة” إن الولايات المتحدة الأميركية تمارس في العراق وسواه بربرية ليست خافية على أحد، وهي أبعد ما تكون عن أية تسمية ديمقراطية أو حضارية، وتأتي سياستها هذه من فكر إمبراطوري استعماري تنظر له “كوندا ليزا رايس” اليوم وهو امتداد تاريخي لدوام هيمنتها البربرية على العالم، منذ تأسيسها وحتى اليوم فها هي “رايس” هذه تقول: ” ليس من القيادة، كما أنه ليس بالموقف الانعزالي القول بأن للولايات المتحدة الأميركية دوراً خاصاً في العالم، لذا ليس من واجبها أن تنتسب لأي اتفاقية أو معاهدة دولية تقترح عليها”.
فهي العولمة المتوحشة في غابة لا ضابط لها ولا رادع، وهي لا تفهم على الإطلاق لغة المواجهة بالمثل.. ونحن هنا لا نُنَظِّر لأعمال عسكرية في أميركا أو خارج الأرض العربية، بل من حقنا كأمة محتلة أراضيها في العراق وفلسطين ومزارع شبعا والجولان، من حقنا الطبيعي أن ندافع عن وجودنا المهدد بعد الاحتلال الكولونيالي المباشر لأرضنا العربية.
فهل هو الخوف والتردد والأيدي المرتجفة من يدفع أمثال هؤلاء “المثقفين” إلى تلك الطروحات البائسة؟ لعله كذلك بعد أن نحسن النية بهم. ولعل في القصة التاريخية الصغيرة التالية عبرة لهم فقد جاء في قصص قدماء العرب “أن الوباء قدم يومًا إلى قرية، فوقف له على بابها شيخ حكيم وقال له: أما لك أن تترك أهل هذه القرية وحالهم، فهم لم يرتكبوا ذنبًا ولم يعصوا الله في مشيئته، ولم يعتدوا على أحد، فقال الوباء للشيخ المسن: لا تقلق فأنا لن أقيم طويلاً في هذه القرية، ولن ينال الداء أكثر من أربعين شخصًا. وبعد شهر، التقى الوباء بالشيخ وهو خارج من القرية، فبادره الشيخ: ألا يكفي أنك جئت بالأذى، بل وتزيد على أذاك بالكذب، لقد قتلت /400/ شخص من أبناء القرية. فأجاب الوباء: لا تظلمني أيها الحكيم أنا لم أتعرض لأكثر من أربعين شخصاً، أما الآخرون فقد قتلهم الخوف والفزع”.
المصدر: الراية القطرية
تاريخ النشر 10 / 2/ 2004