تشي التطورات الميدانية المتلاحقة في منطقة شرقي نهر الفرات السورية وفي غربه، بأنّ هذه المنطقة على أعتاب تدخل عسكري تركي جديد، ربما يتمحور هذه المرة في ريف حلب الشمالي، حيث لا تزال الوحدات الكردية تسيطر على مدينة تل رفعت وقرى عدة في محيطها، تسعى فصائل المعارضة السورية لاستعادتها لتأمين عودة عشرات آلاف النازحين إلى بيوتهم. ومن المرجح أنّ العملية التركية في حال حدوثها، ستكون وفق تفاهمات تركية روسية أبرمت في العاصمة الروسية موسكو مطلع شهر مارس/آذار الماضي، وحددت مناطق النفوذ بين الروس والأتراك في مجمل الشمال السوري، خصوصاً في محافظة إدلب، وريف حلب الشمالي.
وأعلنت وزارة الدفاع التركية أمس الخميس عن “تحييد 14 عنصراً” من الوحدات الكردية قالت إنهم كانوا يستعدون لشنّ هجوم على منطقة “درع الفرات” في شمال وشمال شرقي حلب، وهي منطقة نفوذ تركي بلا منازع في الشمال السوري. وأوضحت الوزارة، في بيان، أنّ “وحدات من قوات الكوماندوس، نفّذت عملية عسكرية ناجحة ضدّ الإرهابيين” هناك، مشيرة إلى أنهم “كانوا يحاولون التسلل إلى منطقة درع الفرات لتنفيذ عملية إرهابية فيها”. وأكّدت أنّ “القوات التركية تتخذ كافة التدابير اللازمة لمواصلة الاستقرار والأمن في منطقة درع الفرات”.
وتؤكّد هذه التطورات أنّ الاهتمام التركي في هذه الفترة ليس منصرفاً إلى منطقة شرقي نهر الفرات فحسب، بل إلى غربه أيضاً، حيث يسعى الجيش التركي لطرد الوحدات الكردية التي تهيمن على “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، من ريفَي حلب الشمالي والشمالي الشرقي، وفق تفاهم مع الجانب الروسي، الذي كما يبدو حصل على ما يريده من محافظة إدلب ضمن اتفاق موسكو مع الجانب التركي، ما يدفعه إلى إطلاق يد أنقرة في ريف حلب الشمالي.
وكانت مصادر تركية رفيعة قد كشفت قبل أيام لـ”العربي الجديد”، أنّ منطقة تل رفعت قد تشهد تطورات مهمة في الفترة المقبلة نتيجة لاتفاق موسكو الأخير، مع الحديث عن تسليمها للجانب التركي. وهو ما يؤشر بالفعل إلى وجود صفقة تركية روسية حول الطريق الدولي “إم 5” (دمشق-حلب)، الذي لم يتمّ أي حديث عنه في اتفاق الخامس من مارس، وأثيرت تساؤلات كبيرة حول ذلك، خصوصاً مع الإصرار التركي آنذاك على تراجع قوات النظام إلى خلف حدود اتفاقية سوتشي، وفكّ الحصار عن نقاط مراقبتها، فيما يبدو أنّ الاتفاقات التركية الروسية تشمل تجميد ملف الطريق الدولي “أم 4” وتأجيله إلى وقت لاحق.
وكانت الوحدات الكردية قد انتزعت منطقة تل رفعت من فصائل المعارضة السورية في بدايات عام 2016، تحت غطاء ناري روسي في غمرة خلاف أنقرة وموسكو على خلفية إسقاط طائرة روسية من قبل الأتراك في شمال غربي سورية. ومنذ ذلك الحين، تحاول فصائل المعارضة السورية استرجاع المنطقة من الوحدات الكردية لإرجاع عشرات آلاف النازحين إلى بيوتهم، ولكن محاولاتها لم تجدِ بسبب توازنات إقليمية ودولية، خصوصاً أنّ الوحدات الكردية تتلقى دعماً من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، كما أنّ تل رفعت تعدّ من ضمن مناطق النفوذ الروسي في سورية.
وكان الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، أبرما مطلع الشهر الفائت اتفاقاً حول منطقة إدلب لوقف إطلاق النار فيها، واستعادة الحركة على الطريق الدولي “أم 4″، ولكن مصادر مطلعة تؤكّد أنّ هناك ملاحق سرية للاتفاق لتقاسم النفوذ بين أنقرة وموسكو في الشمال السوري.
وقد تكون منطقة منبج غربي نهر الفرات التي تسيطر عليها الوحدات الكردية على الطاولة في مرحلة لاحقة، إذ لم تنقطع محاولات تركيا من أجل أن يصبح أغلب الشمال السوري غربي نهر الفرات من ريف اللاذقية الشمالي مروراً بعفرين ووصولاً إلى مدينة جرابلس، كله تحت نفوذها المباشر.
في السياق، قال القيادي في فصائل المعارضة السورية مصطفى سيجري، في حديث مع “العربي الجديد”، إنّ “هناك محاولات مستمرة لجمع القوى الإرهابية في شرق الفرات وغربه ضدنا”، مضيفاً: “روسيا تعمل على خلق توافق كامل واتفاق بين (بشار) الأسد وقسد، وعليه نحن والحلفاء (الأتراك) لن نقف مكتوفي الأيدي، وهناك تحضيرات لقلب الطاولة وقطع الطريق على الأسد وقسد والروس”. ورفض سيجري الخوض في تفاصيل أكثر حول هذه التحضيرات، غير أنه قال: “لم يعد بالإمكان التعاطي مع المعركة الحالية وتعقيدات المشهد والتداخل بين القوى المتنفذة في سورية، وفق الأدوات السابقة أو الآليات القديمة”. وتابع: “دخلنا في مرحلة جديدة تستوجب دائماً الحذر، وقطع الطريق على محاولات العدو المستمرة للقضاء على القوى الثورية. تركيا باتت طرفاً في الصراع الدولي داخل الأراضي السورية، ونتفق مع الأتراك في حماية المحرر واستكمال عملياتنا العسكرية في الحرب على الإرهاب”. وأكّد: “لم تنتهِ عملياتنا في شرق الفرات وكذلك في إدلب، معركتنا طويلة وتحتاج لنفس طويل”.
من جانبه، قال الباحث في الشأن التركي طه عودة أوغلو، في حديث مع “العربي الجديد”، إنه “على الرغم من انشغال تركيا بأزمة فيروس كورونا خلال الأيام الماضية، ومحاولتها التصدي لهذا الوباء، إلا أنها لم تغفل التطورات المتسارعة على الساحة السورية”. وأعرب عن اعتقاده بأنّ “عملية عسكرية تركية في سورية تلوح بالأفق بضوء أخضر من روسيا وتستهدف قسد”. وتابع بالقول: “يبدو أنّ ثمرة التفاهمات التركية الروسية التي تمّ التوصل إليها حول محافظة إدلب في موسكو في الخامس من مارس الماضي، بدأت تطفو على السطح، ولعل أبرزها، وحسب المعلومات المتوفرة، انسحاب قوات قسد من مدينة تل رفعت شمال حلب”.
ورجّح عودة أوغلو أن تكون العملية العسكرية التركية التي تنتظر صفارة البدء من القيادة السياسية في أنقرة، محدودة مقابل انسحاب “قسد” من مدينة تل رفعت وقوات النظام من محيطها. وختم بالقول: “نحن على أعتاب مرحلة جديدة في منطقة الفرات، تتمثّل في تثبيت النفوذ بين أنقرة وموسكو، وأيضاً واشنطن، الحاضرة الغائبة في الملف السوري”.
وكانت مصادر محلية قد ذكرت لـ”العربي الجديد”، أواخر الشهر الماضي، أنّ الوحدات الكردية طلبت من المدنيين في مدينة تل رفعت ومحيطها، الخروج باتجاه منطقة شرقي نهر الفرات، في مؤشر واضح على أنّها تتخوف من عمل عسكري تركي وشيك بموافقة روسية.
وفي السياق، تشهد منطقة شرقي نهر الفرات منذ أيام عدة توتراً وقصفاً مدفعياً متبادلاً بين “قسد” من جهة، وفصائل المعارضة السورية من جهة أخرى، خصوصاً في منطقة أبو راسين شرقي مدينة رأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي. وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، أنّ القوات التركية وفصائل المعارضة المسلحة المدعومة منها، قصفت أمس الخميس بالأسلحة الثقيلة والقذائف، قرى عبوش وباب الخير وشيخ علي، والقاسمية والمحمودية شمال غرب بلدة تل تمر، مشيرة إلى نزوح مدنيين من هذه القرى باتجاه البلدة. وأفادت المصادر بمقتل ضابط برتبة نقيب من قوات النظام وعنصر آخر، وإصابة آخرين بقصف فصائل المعارضة السورية حاجزاً لهذه القوات في قرية عبوش شمال غربي بلدة تل تمر.
وكان الجيش التركي قد سيطر في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي على المنطقة الواقعة بين مدينتي تل أبيض ومدينة رأس العين على طول نحو 100 كيلومتر، وعمق 30 كيلومتراً، بعد عملية عسكرية لم تكن الولايات المتحدة الداعمة لقوات “قسد” راضية عنها. وخلطت العملية أوراق المنطقة مع دخول الروس والنظام على الخط وفق اتفاق عسكري مع “قسد”، التي كانت ولا تزال تخشى من تدخل عسكري تركي واسع النطاق في المنطقة التي تسيطر عليها.
وتعمل الولايات المتحدة على دفع تركيا لإبرام اتفاق مع “قوات سورية الديمقراطية” ينهي التوتر في منطقة شرقي نهر الفرات؛ إذ أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية، أخيراً، استعداد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأكراد في سورية لإبرام اتفاق سلام، مؤكداً أنّ “كلا الجانبين أكدا موافقتهما على ذلك”. ولكن من الواضح أنّ أنقرة لا تريد اتفاقاً يكبل يديها في شرقي نهر الفرات، خصوصاً أنها لا تزال تعتبر الوحدات الكردية تهديداً لأمنها القومي، بسبب محاولات لفرض إقليم ذي صبغة كردية في الشمال الشرقي من سورية ربما يغري أكراد تركيا للمطالبة بإقليم مماثل.
المصدر: العربي الجديد