جولات المفاوضات بين اللجنة المركزية المفاوضة عن أهالي درعا واللجنة الأمنية للنظام السوري برعاية روسية توقفت، مع استمرار محاولات قوات النظام والميليشيات الإيرانية عرقلة أي اتفاق يفضي الى منعهم من دخول درعا البلد، واستعادة النفوذ والسيطرة على المحافظة التي كان لأبنائها السبق في الانتفاضة بوجهه وكسر هيبته.
ليس من مصلحة هذين الطرفين التوصل لأي اتفاق يجنب أهالي درعا الحصار والحرب ويحفظ كرامتهم وأمنهم، ويمنع التهجير القسري للسكان، والتغيير الديموغرافي الذي تسعى إيران لإحداثه في المنطقة، للضغط على دول الخليج العربي من بوابة المملكة الأردنية الهاشمية، التي ستكون أكثر المتضررين والمتأثرين بزعزعة أمنها واستقرارها، بالإضافة الى الضغط الإيراني لتحقيق بعض المكاسب في مفاوضات الملف النووي مع الولايات المتحدة، من خلال وجود ميليشياتها على الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
على الرغم من استمرار المفاوضات، وتحت وابل كثيف من القصف العنيف لقوات النظام على المدينة المحاصرة لأكثر من شهرين قبل أن تتوقف تحت وابل الصواريخ، إلا أن الأمور على ما يبدو ستتجه نحو حصر السلاح وفرض الاستقرار، بما يهيئ الأجواء بشكل كامل لتكون درعا والمنطقة الجنوبية بشكل عام خارج الحسابات العسكرية، على صعيد المعركة بين قوات النظام وفصائل الثوار، حيث ينص الاتفاق الذي كانت تجري محاولة فرضه، على (دخول اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس مع الشرطة العسكرية الروسية الى محيط درعا، وافتتاح حاجز السرايا في كلتا الجهتين، ودخول عناصر مخفر الشرطة الى درعا البلد).
ومن المحتمل وحسب بعض المعطيات المتوفرة ان تتوصل الأطراف المتفاوضة الى تعديلات جوهرية على تسوية 2018، أو إلى تسوية جديدة من شأنها أن تكون مناسبة وتتماشى مع الاعتبارات العسكرية والأمنية الجديدة، بحال عودة المفاوضات.
وبالتالي تصبح جميع الفصائل وكافة المقاتلين منضويين ضمن مرتبات الواء الثامن التابع للفيلق الخامس (الروسي)، وبقيادة رجل روسيا في المنطقة أحمد العودة.
ماذا يعني ذلك؟
منذ البداية كان واضحاً أن ما تريده روسيا هو إنهاء حالة الفلتان الأمني، والانتشار غير المنضبط للسلاح الفردي والخفيف في المحافظة، الذي نصّ اتفاق التسوية عام 2018، على بقائه مع الثوار، ووضع أهالي حوران تحت قيادة واحدة سياسياً وعسكرياً، وقد كان واضحاً أيضاً أن ذلك ليس بالأمر السهل بالنظر إلى الحساسيات الاجتماعية والعشائرية، والمنافسة بين القادة الثوريين، ورغم أن هذه المنافسة لم تبلغ تلك الفصائل في أي يوم ما بلغته في مناطق أخرى، فلم نشهد صدامات دامية بين فصائل حوران، أو معارك كبيرة كما حصل في الغوطة وحلب وغيرها، إلا أنها وعلى أي حال موجودة وتسبب أرقاً لروسيا، التي لم يكن واضحاً تماماً لماذا تريد أن تفعل كل ذلك في درعا.
لكن بعد زيارة العاهل الأردني عبد الله الثاني الأخيرة إلى واشنطن والحديث عن فتح المعابر (معبر جابر)، وتنشيط الحركة التجارية، تأكدت أهمية درعا الجيوسياسية، والاستراتيجية اقتصادياً.
فكل المؤشرات تشير إلى وضع خاص يرتبط بأزمة الأردن اقتصادياً، ويدلل على هذا حراك ملك الأردن وعودة الاهتمام بالمعابر وكذلك الأزمة الاقتصادية في لبنان ومنه ظهرت للتداول مسألة الغاز المصري، والكهرباء الأردني، وهي مسائل مرتبطة بخطوط الإمداد السوري والمعابر في درعا، وكل ذلك يبرر الحراك الأردني باتجاه الدول الفاعلة وتصريحات مسؤوليه التي تعبر عن خيبة أمل من الاهتمام الأميركي بالتسوية، تصريحات تدلل على أن الوضع السوري مستدام وعلى الأردن أن يعالج أزمته الاقتصادية على هذا الأساس كأمر واقع.
لكن هذا ليس كل ما يجعل من درعا أحد أهم مراكز ثقل (سوريا المفيدة)، فدرعا مهمة جداً كما هو معلوم للجميع في ما يتعلق بحسم ملف الوجود الإيراني في سوريا وفق اتفاقية التسوية عام 2018 بين أميركا وروسيا والأردن وإسرائيل-الحاضر الغائب في كل التفاهمات. هذه التسوية التي تعهدت فيها روسيا بإبعاد إيران عن حدود إسرائيل والأردن مسافة 40 إلى 80 كيلومتراً، والتي كانت وما زالت ستحدد بالنسبة لأميركا والمجتمع الدولي والدول العربية والإقليمية مدى قدرة روسيا على إخراج ايران من سوريا في نهاية المطاف، كما تعهدت أو كما يتوهم العرب.
ويبقى السؤال المطروح هل ما حصل ويحصل في درعا سيكون بالفعل مقدمة للحل النهائي في سوريا، كما رأت مجلة “ناشونال إنترست” الأميركية، التي اعتبرت أن “الانتفاضة الأخيرة في محافظة درعا قد تشكل مدخلاً للانتقال السياسي في سوريا، ورحيل رئيس النظام بشار الأسد”، داعية الولايات المتحدة وحلفاءها الى الضغط على الأسد والقيام بمبادرة دبلوماسية لإنهاء الازمة الإنسانية في البلاد.
وأشارت المجلة الى أن درعا خصوصاً وجنوب سوريا عموماَ، منطقة تمثل مدخلاً للانتقال السياسي في سوريا، مضيقة أن “الثورة السورية انطلقت من درعا وسيكون من العدل رحيل النظام من خلال انتفاضة درعا الأخيرة”.
أما الفرضية الثانية فأن يكون ما حصل في حوران مؤخراً مقدمة لفرض التقسيم أو الفيدرالية، خاصة أن ما يجري في درعا وما جرى من قبل في مناطق سورية أخرى يشير بوضوح الى وجود اتجاه دولي وإقليمي لفرض نظام فدرالي بحكم الأمر الواقع في سوريا، يكون جسر عبور إلى مشروع التقسيم، لا سيما أن ترتيبات الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية، وطريقة الحوكمة في شمال وشمال غرب سوريا، والأصوات التي خرجت مؤخراً من محافظة السويداء ومن بعض سياسي درعا، تصب في طاحونة تقسيم سوريا إلى كيانات منفصلة، كسيناريو أسوأ ما يمكن أن يرسم لسوريا المستقبل.
أما الاحتمال الأخير الذي يمكن أن يفرض في ضوء ما جرى فهو تطبيق اللامركزية الإدارية بالصيغة التي تطرحها روسيا، كما ورد في مشروع الدستور الذي قدمته روسيا الى المعارضة السورية في الجولة الأولى من مباحثات أستانة في شهر كانون الثاني/يناير 2017.
لا بد أن ما يحصل في درعا ستكون له انعكاسات وآثار كبيرة على المشهد السوري، هذا في حال سلّمنا بأن الأمور تستقر دائماً كما تريد الدول المتدخلة في الصراع السوري، كما حصل في الشمال حيث باتت الفصائل منضبطة، أو كما حصل في الشمال الشرقي حيث قوات سوريا الديمقراطية (قسد) منضبطة غالباً تحت القيادة الأميركية، لكن من الحكمة ألا يسلم أحدنا دائماً بأن الأمور تسير في مناطق الحروب والثورات وفق منطق القوى المستقرة، بل وفق منطق القوى المتنافسة.
المصدر: المدن