تنظم فرنسا عرضاً عسكرياً ضخماً في العاصمة باريس، يوم الأربعاء المقبل، بمناسبة عيدها الوطني، الذي اضطرت العام الماضي إلى إلغاء الاحتفال به بسبب تداعيات وباء كورونا. ومن شأن هذه المناسبة، والعرض العسكري الذي سيرافقها، تسليط الضوء على التغيرات التي طرأت على استراتيجية الدفاع الفرنسي، وهي تغيرات بدأت ملامحها تتبلور منذ أعوام، منذ أن تحسّست فرنسا خطر التنظيمات الإرهابية والمتطرفة في الشرق الأوسط، الذي وصلت شظاياه إليها، ولكن أيضاً مع بروز واستشعار هذه الدولة، التي تواجه تحديات جمّة وتراجعاً على الساحة الدولية كقوة عظمى، الأخطار التي تراها ناجمة عن دول يتعاظم نفوذها كروسيا والصين.
وتأتي المناسبة أيضاً مع إعلان فرنسا، إحدى أهم الدول المصدرة للسلاح في العالم، إنهاء مهمتها العسكرية في منطقة الساحل، وهو قرار اتخذته السلطة التنفيذية بالدرجة الأولى، ما جعل بعض المراقبين يتحدثون عن امتعاض المؤسسة العسكرية منه. وترافق ذلك مع عريضتين نشرتا أخيراً لوجوه عسكرية متقاعدة، وأخرى في الخدمة، تحذر من تراجع قوة فرنسا. كما جاء ذلك وسط استمرار الجدل في الداخل حول “أخطار التغلغل الإسلامي”. هذه المسائل تجعل دولة مثل فرنسا في حالة قلق، خصوصاً حينما ترافق ذلك مع تراجع أميركي في عهد دونالد ترامب. وقد يفسر ذلك، في المقابل، انخراط فرنسا أخيراً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بشكل كبير، لتثبيت وجودها في هذه المنطقة التي تعتبرها امتداداً ضرورياً لنفوذها.
وعلى وقع هذه التحديات، ينظم في باريس الأربعاء المقبل، بمناسبة العيد الوطني الفرنسي، العرض العسكري التقليدي، الذي سيكرم هذه المرة الوحدات الأوروبية في قوة “تاكوبا” في منطقة الساحل الأفريقي، والتي تنوي باريس تقليص وجودها العسكري فيها. وسيشارك في العرض العسكري نحو خمسة آلاف شخص، بينهم 4300 عسكري سيراً على الأقدام، و71 طائرة و25 مروحية و221 آلية ومئتا حصان من الحرس الجمهوري، وذلك بحضور الرئيس إيمانويل ماكرون الذي تنتهي ولايته الرئاسية في ربيع العام المقبل، إلى جانب الكثير من أعضاء الحكومة ورئيس أركان الجيش الجنرال فرانسوا لوكوانتر، الذي سيحل محله بعد أسبوع رئيس أركان سلاح البر الحالي تييري بوركارد.
وينظم عرض 2021 تحت شعار “كسب المستقبل”، في إشارة مزدوجة، على حد قول الحاكم العسكري لباريس الجنرال كريستوف أباد، إلى “القدرة الجماعية للأمة على التغلب على الصعوبات المرتبطة بالأزمة الصحية”، و”بالنسبة للجيوش، إلى حقيقة التحول إلى التزامات متطلبة أكثر، توصف بأنها عالية الكثافة عبر الاعتماد على معدات متطورة جداً”. وبناء على ذلك، ستشارك في العرض، للمرة الأولى، الآلية المدرعة لنقل الجنود “غريفون” من الجيل الجديد، التي سيتم نشرها قريبا في منطقة الساحل. وبعد العرض الجوي التقليدي الذي تقوده “دورية فرنسا” (باتروي دو فرانس)، ستفتتح القوات الخاصة الأوروبية المشاركة في “تاكوبا” العرض على جادة الشانزليزيه. وهذه القوة هي عبارة عن تجمع تساهم فيه 8 دول (فرنسا وبلجيكا وإستونيا وإيطاليا وهولندا والتشيك والبرتغال والسويد)، بمبادرة من فرنسا، لمواكبة القوات المالية في القتال. وكانت باريس قد رحبت بهذا التقاسم للأعباء، وسط عزمها خفض عديد قواتها العسكرية في منطقة الساحل بعد انتشار استمر ثماني سنوات. وستكرّم البحرية أفراد غواصاتها بحضور طاقم الغواصة النووية الهجومية “إيميرود” (زمرد) العائدة من مهمة استمرت 8 أشهر في المنطقة الاستراتيجية للمحيطين الهندي والهادئ، شملت مروراً في بحر الصين الجنوبي. وسيحضر العرض طاقم الجيل الجديد الأول من غواصات “سوفران” النووية الهجومية. أما سلاح الجو، فسيعرض قيادته الجديدة للفضاء، على أن يتمثل في العرض أيضاً جهاز الخدمة الصحية للجيش الذي نشط بشكل كبير منذ بداية الوباء.
وتفتح أنواع السلاح والمدرعات التي سيتم استعراضها في المناسبة، مجدداً، الحديث حول عزم فرنسا تطوير استراتيجيتها الدفاعية، التي ترى أنها ستستمر لعقود مقبلة، وهو مفهوم يتردد على لسان الجميع في هذا البلد، من الجنود إلى أعلى المسؤولين في القيادة. وكان الجيش الفرنسي قد فضّل، على غرار حلفائه، لفترة طويلة، مكافحة التمرد والقتال غير المتكافئ ضد عدو مبعثر ومتنقل جداً، لكنه يفتقر إلى التجهيزات، مثل “الجهاديين” الذين يواجههم في منطقة الساحل. لكن مسؤوليه يرون أن “حرب المستقبل” ستجرى بين قوى متكافئة، وستكون أكثر فتكاً وإنهاكاً، وستتطلب عدداً أكبر من الجنود. وترى فرنسا وحلفاؤها، من منظور استراتيجي، أن الحروب المقبلة ستكون شاملة، برّا وبحراً وجواً، وفي الفضاء والإنترنت، وبأسلحة متصلة ببعضها، وخصوصاً مدرعات برنامج “سكوربيون” المترابطة بواسطة نظام معلومات حول القتال.
وكان الجنرال تييري بوركارد، الذي سيصبح خلال أيام رئيس أركان القوات المسلحة الجديد، قد أوضح، في حديث سابق لوكالة “فرانس برس”، أن “طبيعة الصراع تتغير، والدول أعادت تسليح نفسها، ولم تعد تتردد في استخدام القوة لفرض إرادتها”. وأضاف بوركارد أن “مستوى الاستخدام يتراوح اليوم في قطاع الساحل والصحراء بين ألف و1200 رجل. لكن غداً، ستندلع الحرب على مستوى كتائب وفرق، أي ما بين 8 آلاف و25 ألف رجل”. ولذلك تعد فرنسا لتدريب “أوريون”، وهي مناورات غير مسبوقة مقررة مطلع 2023، بمشاركة خمسة آلاف إلى سبعة آلاف جندي، لمدة أربعة أشهر، وقد يبلغ العدد في ذروتها عشرة آلاف جندي. وحول ذلك، قال قائد القوات البرّية الفرنسية الجنرال فنسان غيوني إن “الكثافة العالية لا تتمثل في عدد الدبابات فقط، بل بلوغ حالة إشباع في كل المجالات. إنها عودة الحشود، إذ يجب التدرب بأعداد أكبر من القوات”، وهو منطق يتبعه حلفاء فرنسا والعديد من خصومها أيضاً.
لكن الانتقال لن يتم من دون أضرار. فقانون البرمجة العسكرية الحالي (2019-2025) أكثر دقة من النصوص السابقة، لكن يتطلب الأمر استثمارات ضخمة للتحضير للكثافة العالية، مع الحفاظ على السرعة المطلوبة لقتال غير متكافئ. ورأت الباحثة المستقلة المتخصصة في تاريخ الدبابات كامي هارلي فارغاس، في تصريح لـ”فرانس برس”، أن “المعدات ذات الكثافة العالية تكلف مبالغ كبيرة”، موضحة أن “الجيش الفرنسي يحاول إيلاء أهمية للأمرين بشكل متساو”.
وأدت الأزمة الصحية إلى تسريع توجه في فرنسا بدأ منذ سنوات، إذ ساد التوتر الجيوسياسي في جميع أنحاء العالم، فيما تثير تركيا وإيران وروسيا خصوصاً قلق الغربيين. وفي هذا الصدد، أشار رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس، في يونيو/حزيران الماضي، إلى أن “القتال تضاعف في الجو والبحر، والقوى الإقليمية اتخذت مواقف استراتيجية من دون احترام القانون الدولي”. وتابع “أضيفت إلى التهديد الهائل للإرهاب الشهية المتزايدة لبعض البلدان التي تسعى إلى فرض قوتها”. هذه الفكرة، ينبغي أن يحولها الجيش الفرنسي إلى خيارات استراتيجية، وهو اختبار المستقبل لدولة مثل فرنسا.
المصدر: فرانس برس/العربي الجديد