مضى عقدان على مغادرته ولازال حاضرًا في الذاكرة بل يجري استحضاره بين فترة واُخرى لافتقاد دوره الموحد لقوى المعارضة وقدرته على بناء التوافقات والمشتركات، وبما تتمتع شخصيته باحترام كبير ومصداقية بين الأطراف والتيارات المتعددة وبما تملكه من صفات التهذيب والصبر والتواضع ناهيك عن الحكمة التي تستند الى عمق ثقافي حداثي لا يقطع مع التراث .بالوقوف أمام ذكراه ليس فقط من باب التكريم الذي يستحق، بل أيضا كي تتعرف الاجيال الجديدة على شخصيات مثقفة سياسية ونضالية كان لها دوراً مؤثراً في التاريخ السياسي المعاصر وساهمت في بناء الوعي الوطني الديمقراطي واستطاعت أن تنحو بالفكر القومي إلى فكر منفتح بعيداً عن التعصب والانغلاق والطروحات اللاعقلانية. وخلال مساره السياسي كانت رؤيته تتعمق وتتطور وكان ينتقد تجربته أو أخطاءه باستمرار ويحرص على متابعة قراءاته والتعلم المستمر ويواكب ما أمكن أحدث الطروحات في ميدان الفكر السياسي.. استطاع أن يحتل مكانة مميزة في أوساط القوميين العرب وفي المؤتمرات القومية فكانت عقلانيته تقف سداً منيعاً بوجه من جعل من الطرح القومي أيديولوجيا لتغطية منظومات الاستبداد وممارسة سياسة شوفينية.. بل تقدم باكرا برؤية موضوعية للمسألة الكردية أصدرها في كراس مستقل.
لست بمعرض التحدث عن سيرته الذاتية ومساره النضالي، هناك الكثير من الباحثين تطرقوا إلى ذلك، رأيت من واجبي أن أشير إلى جوانب من دوره السياسي من خلال العلاقة الشخصية المباشرة التي تطورت من تعاون مشترك الى نوع من الصداقة رغم فارق السن.
حتى عام 1989 مع التحاقي بقيادة التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه لم أكن أعرفه بشكل مباشر بل من خلال ما كان يحدثني عنه الراحلان محمد منير مسوتي (ابو ماهر) وعبدالله هوشة (ابو يوسف) ممثلًا لحزب الشعب الديمقراطي (سابقا الحزب الشيوعي السوري /المكتب السياسي ) وهما شريكاي في لجنة المركز (قيادة الحزب) وايضاً من خلال متابعتي لما كان يكتبه في السابق وخاصة في المجلة الثمينة (الفكر السياسي) التي صدرت في الستينات مع شركائه ياسين الحافظ وعبد الكريم زهور عدي والياس مرقص، وتضمنت أطروحات عقلانية وتنويرية بعيدا عن لغة التحريض والتعبئة والتهويش التي كانت سائدة في تلك الحقبة . وايضا كراسه المميز (الحوار الديمقراطي) ضمّنه مفهومه للحوار الديمقراطي وللعمل الديمقراطي والذي شكل نقلة في فهم وتطوير المشروع الناصري.
في نهاية عام 1989 ومع التحولات الدولية الكبيرة اثر البيروسترويكا وانهيار الاتحاد السوفيتي وتتالي سقوط الأنظمة الشمولية ناقشت قيادة (التجمع ) الأزمة السورية وانعكاس التغييرات الدولية على مجمل الوضع السوري ، وقد تولى د جمال في حينه صياغة المسودة الأولى لرسالة سياسية حملت توقيع التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا شكلت مفصلا بعمل التجمع بعد ان شخصت ان بنية النظام السوري الاستبدادية والشمولية قد وصلت الى مرحلة من التكلس عصية على اي تغيير او إصلاح داخلها هذا من جهة ومن جهة اخرى شخصت حالة الضعف والإنهاك السائدة في المجتمع السوري وكذلك لقوى المعارضة تجعلها عاجزة عن إحداث التغير المطلوب للانتقال من واقع الاستبداد الى رحاب الحرية والديمقراطية ودولة القانون، مما جعل البلاد تعيش حالة استعصاء.. اذن لا بد لقوى المعارضة الديمقراطية من المبادرة والعمل على تحفيز قوى وفعاليات المجتمع المدني كي تخرج عن إطار سيطرة السلطة وان تتجه قوى المعارضة الديمقراطية الى شكل من اشكال النشاط العلني مهما كلّف ذلك من ثمن وان تدعم او تساهم في تشكيل منظمات للدفاع عن حقوق الانسان.. أثمر الحوار الغني والجماعي في حينه عن رسم توجه ساهم في الحضور العلني للتجمع وفي تنشيط تحركات مستقلة للمحامين ونخب من المثقفين ..انتقل التجمع ، رغم مناخ القمع السائد ، الى النشاط العلني وبناء لجان مشتركة للعمل الجماهيري السائد وإصدار نشرة سياسية (الموقف الديمقراطي ) و بيانات خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 مما رتبت المزيد من الضغوط الاعتقالات طالت أعدادا من كوادر التجمع وخاصة في إطار حزب الاتحاد الاشتراكي ، وتعرض جمال لتهديدات مباشرة من قبل السلطة وتم تذكيره بالتهديد الذي مارسه رفعت الاسد بمحاولة تفخيخ سيارته خلال عام 1980 والاعتقالات الواسعة التي طالت عشرات الكوادر وعلى الأخص في صفوف حزب الشعب الديمقراطي السوري (ح ش س /المكتب السياسي) اثر توزيع بيان التجمع أواسط آذار 1980.
تابع جمال نشاطه المعتاد خلال العقد الأخير من حياته (التسعينات) موزعا بين عمله المهني في عيادته في منطقة السبع بحرات كأخصائي في الطب النفسي وبين عمله السياسي ومتابعاته الثقافية كرئيس للتجمع (بصفته الشخصية) وأيضا بصفته أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي.
داخل شقة العيادة الكبيرة كان محدثا شقة صغيره ضمنها لها مدخلها الخاص بمثابة مكتب للقاءات السياسية او التنظيمية السريعة او الاضطرارية، كان يتيح ذلك تواصل مرن خاصة في الأزمات بالإضافة للقاءات تشاورية تتعلق بافتتاحيات الموقف الديمقراطي تتم في بيته يشارك فيها أصدقاء مثقفون ديمقراطيون (أ ميشيل كيلو ، أ جاد كريم الجباعي ، د فايز الفواز ..بالإضافة لعبد الله هوشه والداعي ) وكنا نلتقي معا دوريا كل أسبوعين ضمن اجتماعات القيادة المركزية للتجمع الوطني الديمقراطي التي تضم خمس قوى وأحزاب .. واستمر مشاركا في اللقاءات لحين وفاته رغم الآلام في شهر آذار التي كانت تتطلب منه عملا جراحيا وأجل العمل الجراحي لحين انعقاد مؤتمر حزب الاتحاد الاشتراكي الذي عقد بشكل سري في ضاحية المعضمية في دمشق وشاركت فيه في اليوم الاول كضيف ممثلا لحزب الشعب الديمقراطي …أوصلني بسيارته ليلا الى المكان الذي حددته له ( بحكم اني كنت الى حينه بحالة ملاحقة وتواري ) ولم أدر انه اللقاء الأخير اذ توجه في مساء اليوم التالي بعد نهاية المؤتمر الى المستشفى وأجريت له العملية بنجاح لكن جسمه النحيل وأعضاءه المنهكة لم تتحمل مضاعفات العمل الجراحي فتوفي يوم 30 آذار 2000 قبل موت الطاغية حافظ الاسد بشهرين وعشرة أيام .
كانت صدمة ومفاجأة رحيله المبكر وهو بكامل عطائه خاصة ان الفراغ الذي تركه ليس من السهل تعويضه كان يجمع بين المبدئية الصارمة والمرونة التي لا تخل بالمبادئ، ويمارس الحوار بشكل راق وينصت ويستمع جيداً للرأي الاخر.. كان من قلائل السياسيين المشبعين بالروح الديمقراطية من أبناء جيله.
كرمته قيادة (التجمع) بإطلاق اسم جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي على المنتدى الذي شكلته اواخر عام 2000 وأعطت المنتدى شخصية مستقلة الذي لعب دورا مهما خلال ربيع دمشق واستمر حتى أغلق بالقوة عام 2005 .
بعد عام على وفاة جمال الأتاسي خصص المنتدى لهذه المناسبة ندوة تكريمية ووزع كتاب يتضمن جانب من كتابته. الا ان جمع كل كتاباته ليس بالأمر السهل خاصة ان الكثير منها منشور بدون اسم الكاتب بسبب ظروف العمل السري وشروط العمل الجماعي.. ومع الأسف لم ير هذا المشروع النور حتى تاريخه رغم ان المادة الاساسية تم جمعها، (كنت مشاركا في عمل اللجنة التي قامت بهذا العمل). رحل جمال مبكرا، لم يحضر ربيع دمشق ولا الربيع العربي ولا الثورة السورية بمساراتها المتعرجة لكن عددا من تلاميذه النجباء قضوا شهداء فيها وغيرهم مازالوا في المعتقلات أو في المنافي أو من يعمل بصمت. تحية إلى روحك وروح شهداء الوطن.