منذ خمسين عاماً رحل جمال عبد الناصر فترك خلفه فراغاً هائلاً لم تستطع قيادات الصف الأول ولا الصف الثاني ولا أحد ممن كانوا حوله أن يملأ جزءاً من هذا الفراغ الكبير فاستغل أعداء مشروع النهضة تلك الفرصة الثمينة التي تربصوا لها وكمنوا متحفزين فانقضوا على مواقع السلطة التي اهتزت وتخلخلت بعد غياب فارسها وقبطان حركتها حيث التقت قوى الردة في الداخل والخارج إلى جانب قوى سياسية دولية فحدث الانقلاب المشؤوم الذي قاده أنور السادات والذي أدى إلى زيارته الخائبة وصولاً إلى كامب ديفيد التي فتحت الطريق لكافة الانهيارات التالية حتى يومنا هذا.
لقد قاد جمال عبد الناصر حركة النهضة فانتكست وارتكست بعد غيابه، وهذا يؤكد على دور الفرد المتميز والاستثنائي في حركة التاريخ.
منذ عشرين عاماً رحل جمال الأتاسي أحد أهم قيادات العمل الوحدوي التقدمي والديمقراطي بعد رحلة طويلة من الكفاح والنضال ضد الانفصال المشؤوم عام ١٩٦١م لحظة انفرط عقد الجمهورية العربية المتحدة حيث ترك موقعه القيادي في صفوف حزب البعث بعد حركة الثامن من آذار لينحاز إلى صفوف القوى الشعبية التي بدأت حركة نضالها لإسقاط كيان الانفصال الهزيل والعودة إلى خريطة الجمهورية العربية المتحدة التي تمتلك كل المقومات الشرعية والقانونية والشعبية للاستمرار والتطور.
لم يكن جمال الأتاسي أميناً عاماً لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي وحسب بل كان أميناً عاماً لكافة الحركات الشعبية الوحدوية والتقدمية، وهو لم يكن سياسياً مهنياً بل كان مناضلاً صادقاً وصارماً في قيادة الصف الأول في حركة النضال العربي ضد التجزئة والتخلف والاستبداد.
لم يكن جمال الأتاسي سياسياً من الطراز الأول وحسب، بل كان مفكراً وباحثاً وذا رؤية ثاقبة كما كان جمال عبد الناصر وهو لم يستغل موقعه السياسي كما فعل بعضهم ممن يدعون الانتماء لنفس الأفق الوحدوي والمشروع النهضوي.
وهو الذي كان يتمتع بعقلية فكرية نقدية ملتزمة حتى مع أقرب المدارس الفكرية لديه وهي المدرسة الناصرية، لأنه كان يؤمن بمنهج التطور وحتمية التغيير في مواجهة الآفاق المغلقة والأبواب المؤصدة، فحركة التاريخ لا تقف عند حدود مرحلة معينة مهما كانت أهمية هذه المرحلة وفاعليتها في حركة التاريخ. ذلك هو جمال الأتاسي السياسي الحر والمفكر والناقد والمناضل المنفتح على كافة الآفاق الإنسانية.