درجت العادة أن يبدأ الرؤساء خطابهم الأول، بعد فوزهم في الانتخابات، بإلقاء التحيّة على جميع مواطنات ومواطني دولهم التي يرأسونها، الذين انتخبوهم والذين لم ينتخبوهم، وهذا عرفٌ أو تقليد يتّبعه الرؤساء بشكل عام، لإظهار وحدة البلاد من خلال منصب رئيس الدولة الذي يمثّل قمّة الهرم السيادي في الأنظمة الجمهورية الرئاسية. تحمل خطابات التنصيب هذه عادة نبرةً تصالحيةً مع الجزء من الشعب الذي لم ينتخب هذا الرئيس، وهذا يعني، بشكل أو بآخر، تعزيز قواعد التنظيم المجتمعي المبني على أسس (ومبادئ) الديمقراطية التي تفرض احترام رأي الأكثرية باعتباره الطريق الأسلم لإدارة دفّة الحكم. يؤشّر هذا كلّه إلى احترام رأي الأقلية التي لم تصوّت للرئيس، بالدرجة نفسها من احترام الأكثرية التي صوّتت له. كما يعني ثقة الرئيس المنتخب بنفسه، وبالشعب الذي سيحكمه، وبقواعد العملية السياسية التي أوصلته أو أعادت إيصاله إلى منصبه.
لم يكن مفاجئاً لكثيرين، وكاتب هذه السطور من بينهم، خطاب بشار الأسد أخيراً بمناسبة تتويجه وريثاً لسبع سنواتٍ عجافٍ مقبلة للجمهورية العربية السورية، فمن عايش حكم الأسد الأب يُدرك تماماً أنّ هذه العقلية الإقصائية العنيفة، هي التي حكمت سورية ثلاثين عاماً، وما زالت تحكمها منذ عقدين ونيّف بعد امتطاء الأسد الصغير ظهرها بلا استحقاق أو جدارة. لا تراجع عن نهج احتقار الآخر أياً كان، حتى ولو كان من الفئة الأشد ولاءً له ولنظامه. أمّا المعارضون فحدّث ولا حرج، فهؤلاء لهم القبر أو السجن أو المنفى. لم يتطرّق الرئيس المتوّج، في خطابه الصميدعي هذا، لمعاناة أتباعه الذين قدموا أبناءهم على مذبح بقائه في سدّة الحكم، لم يؤمّلهم بأي بارقة أملٍ بانتهاء طوابير الغاز والبنزين والخبز حتى. فضلاً عن تقسيمه السوريين الذين وصفهم بما يليق به هو شخصياً، ثيراناً خونة للوطن (اختصره بشخصه) لأنهم قالوا نريد كرامتنا قبل خبزنا، ولرعيّةٍ عليها أن تقبل بالوطن كما جسّده هو، أي بالأسد ذاته.
كان هَذرُ بشار الأسد الدائم، في خطاباته الداخلية والخارجية، وسيلة دفاعية أمام احتقاره ذاته التي يعرف أكثر من غيره مقدار ضحالتها وحجم خسرانها ونقصها، وهذا ما كان عليه خطابه أخيراً، خطابٌ بذيء لا يصدر إلا عن حاقد جاهل معتلّ الخُلق عديم البصيرة. كان اعتلال شخصية الوارث واهتزازها، وعدم ثقة صاحبها بنفسه، وإدراكه حجم الفرق بينه وبين مؤرّثه، أحد أهمّ عوامل تأزيم الوضع في سورية على جميع الأصعدة، وهو ما أدّى إلى الثورة ابتداءً. ثم كان من أهمّ أسباب التعامل الهمجيّ مع الناس المطالبين بكرامتهم، وهذا ما أوصل البلاد إلى الدمار والتشرذم وانغلاق أفق الحل في المنظور القريب. لقد انعكس هذا كلّه، حتى قبل اندلاع الثورة ضدّه، في سلوك انقيادي لنظام الحكم في إيران، الذي وجد فيه شخصاً رخواً قابلاً للانصياع لمخططاته، وقادراً على تنفيذها من دون أن يدرك ما يقوم به.
مع ذلك، وعلى الرغم من كلّ هذه النقائص في شخصه، فقد هيّأت له سياسة والده الراحل منصباً قوياً يجمع بموجبه بين يديه جميع خيوط السيطرة على سورية دولة وشعباً. ومن مهازل التاريخ أن يكون لمثل هذا الشخص، بسبب رئاسته سورية وتحكمه بجميع أوراق القوّة التي يمنحها إياها موقعها الجيو استراتيجي، حضور يستدعي من أغلب اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين الحفاظ عليه. بشار الأسد الآن بمثابة حجر القفل في أقواس البناء القديمة المعروفة في القلاع والحصون، إنّه القطعة التي تشدّ الحجارة بعضها إلى بعض، ولا تتركها مدعاة للانهيار. هذا حال الأسد اليوم بين أعدائه وأصدقائه، فكلّ واحد منهم يرغب ببقائه لأسبابٍ تخصّه، والمستفيد النهائي هو الأسد، والخاسر الأكبر هو الشعب السوري.
لقد تجرّع الأسد كأس المهانة طافحاً من خلال الرفض الشعبي السوري العارم انتخاباته، وكان أبرز مظاهر الرفض هذه في محافظة درعا التي أعاد السيطرة عليها بمساعدة حليفه الروسي صيف عام 2018، وكأنّه لم يدخلها أو يحكمها منذ ذلك التاريخ. لقد خرج السوريون والسوريات في كل مكان أتيحت لهم فيه الفرصة للتعبير عن هذا الرفض. لكننا الآن، وبعد أن صدّر الأسد نفسه للخاضعين لسيطرته وللعالم، بأنّه باق على أنقاض سورية وجثث شعبها، لا بدّ من البحث عن مقارباتٍ جديدةٍ لمعالجة الواقع المأزوم. هل نكتفي بمواقف الدول الغربية التي اعتبرت هذه الانتخابات مزيّفة، لا تعبّر عن إرادة الشعب السوري الحقيقية، وأنها لا تعترف بها لذلك ولأنها أيضاً تتناقض والقرارات الدولية؟ هل لدينا بدائل يمكن من خلالها تصعيد الموقف الشعبي، وتحويله إلى قوّةٍ وفعلٍ قادرين على إيجاد البديل؟ ما الطريق إلى الخلاص الآن في ظل تشابك خطوط المصالح الدولية والإقليمية، وهل يمكن لسورية القيامة من دمارها بوجود الأسد ونظامه وعقلية الحكم العبثية هذه؟
لم يعد الجواب عن السؤال هذا بأيدي السوريين وحدهم، ولا بيد أية قوة أخرى منفردة. ولكن بمقدور الروس، لو أرادوا، إحداث خرق في هذا الجدار الأصمّ. لكن عليهم أولاً أن يجزّئوا ملفاتهم التفاوضية مع الأميركيين، وعليهم أن يدركوا أنّ سورية أصغر من أن يقايضوا عليها في ملفات أوكرانيا والدرع الصاروخي، وعليهم أن يفهموا أنّ السياسة لا تبنيها الانتصارات العسكرية فقط، فلا بدّ من تحويل النصر إلى وقائع على الأرض مثل الاستقرار الأمني، وإلى أرقام في الاقتصاد مثل إعادة دورة الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، وإلى إعادة إعمار بنى الدولة التحتية والفوقية، وإلى إنتاج نظام حكمٍ رشيدٍ بعيدٍ عن التسلّط والفساد والإقصاء، فهل الروس قادرون على فعل ذلك في سورية، مع عجزهم عن فعله في روسيا ذاتها؟
كي ينجح الروس في استثمار الحالة التي أوصلونا إليها مع تابعهم الأسد، عليهم أن يفعلوا ما عليهم أن يفعلوه. بغير ذلك، لن يُقدِمَ السوريون على العودة إلى بلادهم، وستهرب رؤوس الأموال السورية بعيداً. لن يقدّمَ الأميركيون ولا الأوروبيون للروس جائزة تمويل إعادة الإعمار أو السماح بتمويلها بدون تغيير حقيقي يدعم مصالحهم ومصالح حلفائهم في المنطقة. لن يكون مقبولاً للروس أنفسهم أيضاً أن يسلّموا سورية لإيران على طبق من ذهب.
هناك مخاضٌ شعبيٌّ كبير في منطقتنا العربية، وإنّ وقوف الروس إلى جانب الحكّام في صراعهم مع شعوبهم أمرٌ خطير للغاية، لكنّه قابل للإصلاح قبل فوات الأوان نهائياً. هناك فرصة للتضحية بالثور في عيد السوريين المقبل لا محالة، فهل يفعل الروس شيئاً يمكن أن يزيح عنهم نزراً يسيراً من غضب السوريين وحقدهم؟ هل يمكنهم الاستفادة من تجاربهم الخاسرة في أفغانستان وفيتنام، وأن يصنعوا من تجربتهم في سورية مثالاً مختلفاً؟ الكرة الآن في ملعب الروس، فإما التضحية بالثور الذي حموه وسمّنوه، أو دمارٌ عميمٌ لن يجنوا من ورائه سوى الخسارة والندم.
المصدر: العربي الجديد