ضاعفت ألمانيا جهودها وضغوطها على الفرقاء الليبيين، من أجل تأمين شروط إجراء انتخابات عامة أواخر العام. وبالرغم من أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تقف حاليا في البوابة الخارجية لقصر المستشارية في برلين، استعدادا للمغادرة النهائية، فإن التنسيق قائم مع الأمم المتحدة لعقد المؤتمر الدولي الثاني حول ليبيا في الثالث والعشرين من الشهر الجاري. ويرمي المؤتمر إلى حسم مسألة بناء المؤسسات وتوفير الظروف الأمنية اللازمة لإجراء الانتخابات. وجديد المؤتمر المقبل هو مشاركة حكومة الوحدة الوطنية الليبية في أعماله، بعدما تم تغييب الطرف الليبي من مؤتمر برلين الأول، مطلع العام الماضي.
والأرجح أن الألمان، المُؤيدين بقوة لحل سياسي في ليبيا، يجُرون خلفهم باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي، بالرغم من أن بعضهم، وخاصة فرنسا، يسعى لإبطاء التقدم نحو الاستحقاق الانتخابي، لأنه سيقضي على المستقبل السياسي لحليفهم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. وأظهرت أمريكا بأكثر من إشارة، أنها تدعم الدور الذي تقوم به برلين. بالمقابل يسعى فريق آخر من الدول، وهي أساسا مصر وتركيا وروسيا، لإحباط الجهود الرامية لإجراء الانتخابات، لأن استمرار الوضع الراهن يخدم مصالحها، وإن كان من منطلقات مختلفة ومتضاربة.
وتخشى الدول المتحفظة من إصرار المشاركين في مؤتمر برلين على ضرورة إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، والذي يعتبر أبرز البنود التي سيبحث فيها المؤتمر.
ولوحظ أن فرنسا تلتف على مسار برلين من خلال ربط علاقات مباشرة مع حكومة الوحدة الوطنية استباقا لمؤتمر برلين2 مستفيدة من كونها سترأس الجلسات المقبلة لمجلس الأمن حول ليبيا. وفي هذا الاطار استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإيليزيه، رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة. لكن الأرجح أن ألمانيا والأمم المتحدة ستلجآن إلى لي ذراع المعرقلين، إذ من المتوقع أن يُعلن كوبيش في المؤتمر، أن القاعدة الدستورية لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الميقات المُحدد جاهزة. وهناك من المراقبين من بات يرى أن لغة المجتمع الدولي تغيرت نحو الاصرار على وجوبية الانتخابات في موعدها، مُستدلا بقرارات مجلس الأمن التي أنذرت «المُعطلين» للمسار بالملاحقة واستطرادا بعقوبات.
وطبقا لحسابات الأمم المتحدة لن ينعقد مؤتمر برلين2 إلا وقد انتهى ملتقى الحوار السياسي من التوافق النهائي على القاعدة الدستورية التي ستُعتمد في تنظيم الانتخابات. وسيكون للمفوضية العليا للانتخابات دور رئيس في تحديد التسلسل الزمني للانتخابات، أي هل ستسبق الانتخابات الرئاسية الانتخابات البرلمانية، أم العكس؟
احتمال تجاوز الوقت المحدد
على أن السفير البريطاني لدى ليبيا، نيكولاس هوبتون، يُرجح أن تتجاوز العملية الانتخابية الموعد المحدد لها في نهاية العام، وهذا تأكيد بعبارات دبلوماسية، أن الانتخابات لن تجري في التاريخ المُحدد لها.
وقد وضع هذا الدور الأساسي المفوضية في مرمى بعض القوى السياسية، التي تسعى للاطاحة برئيس المفوضية العليا الدكتور عماد السايح، وخاصة تيار الاسلام السياسي، الذي قبل على ما يبدو التخلي عن حاكم مصرف ليبيا المركزي صديق الكبير، في مقابل الاطاحة برئيس مفوضية الانتخابات.
أما الموقف الأمريكي فهو داعم، بشكل واضح، للدعوات التي تطلقها السلطات في ليبيا لإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة الأجانب من البلد، بالرغم من أن الأتراك حلفاء أمريكا، ما زالوا يماطلون في سحب قواتهم والمرتزقة السوريين من ليبيا. غير أن محللين اعتبروا أن هذا الاهتمام الأمريكي المتجدد بالملف الليبي، لا يعدو أن يكون محاولة لاحتواء النفوذ الروسي المتنامي في الضفة الجنوبية للمتوسط، أي الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي. وبحسب ما ورد في تقرير نشره أخيرا موقع «المونيتور» الإخباري الأمريكي، لعب السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند دورا مهما في تنشيط دبلوماسية بلده بعد فترة الخمول التي سادت إبان عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
نقل السفارة مؤقتا
وما زاد الأمور صعوبة إغلاق السفارة الأمريكية في طرابلس، في العام 2014 بعدما قرر المسؤولون في الخارجية الأمريكية أن وصول القتال إلى التخوم الجنوبية للعاصمة، يجعل العمل فيها غير آمن، وبناء على ذلك، تم نقل السفارة مؤقتا إلى تونس.
والظاهر أن الأمريكيين اتعظوا من تجربتهم المُرة في العراق بعد غزوه في 2003 إذ غضوا الطرف، وشجعوا أحيانا على بروز الميليشيات الطائفية، على أمل تقويض المؤسسات الأمنية والعسكرية التي كانت قائمة قبل الغزو. وبعدما انقلب السحر على الساحر باستهداف تلك الميليشيات، أو في الأقل بعضها، منشآت وقواعد عسكرية أمريكية في العراق، بات المخططون الأمريكيون يتريثون كثيرا قبل الاقدام على أية خطوة قد تُؤدي للغوص في المستنقع الليبي.
وتعززت تلك المخاوف والمحاذير بعد موقف الجمهوريين، الذين يتربصون بالرئيس الديمقراطي بايدن للمسك بتلابيبه، إذ أطلقوا في الكونغرس ستة تحقيقات حول الأسلوب الذي أدار به الرئيس الديمقراطي الأسبق براك أوباما مضاعفات الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي العام 2012 ومقتل السفير الأمريكي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنس في ذلك الهجوم.
من هنا ندرك فحوى توضيح البيت الأبيض، الذي أكد عزمه استثمار وقت وجهد أقل في الشرق الأوسط، للتركيز على مواجهة الصين. وهذا ما أفسح في المجال أمام ألمانيا لتتزعم المبادرات الحاسمة لمعالجة الأزمة الليبية، سواء في برلين1 العام الماضي، أم في برلين2 هذا الشهر.
وباشرت الأمم المتحدة ووزارة الخارجية الألمانية توجيه رسائل الدعوة إلى وزراء خارجية الدول المعنية بمؤتمر برلين2 بتوقيع مشترك من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ووزير الخارجية الألماني هايكو ماس.
في غضون ذلك، تستمر السفارات الأجنبية بمعاودة فتح مكاتبها في طرابلس، ورعى رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الخميس، رفقة وزيرة الخارجية، أرانشا غونزاليس لايا، معاودة فتح مكاتب سفارة بلده في طرابلس، في إطار زيارة هي الأولى لرئيس وزراء اسباني منذ الاطاحة بمعمر القذافي في 2011. ولأن مرامي الزيارة اقتصادية بالأساس رافق سانشيز وفد من رجال الأعمال يمثلون ثمانية مجموعات نفطية وصناعية كبرى.
هل يثق الليبيون في حكوماتهم؟
لكن إخراج ليبيا من أزمتها لا تُحققه صفقات إعادة البناء ولا المؤتمرات الدولية والاقليمية فحسب، وإنما إيجاد المؤسسات الفاعلة، التي يقبل المواطن الليبي بالتعامل معها، ويخضع طوعا لقراراتها. ويتطلب هذا النوع من العلاقة أن يثق الليبيون في حكومة موحدة ومنبثقة من انتخابات حرة وشفافة. كما يتطلب أيضا تحسينا نوعيا لمستوى العيش في الوطن، وهو ما لم يتحقق حتى اليوم، بالرغم من تعاقب أكثر من خمس حكومات انتقالية على السلطة.
وفي هذا المضمار أظهرت تقارير اقتصادية عدة أن الطبقة الوسطى في ليبيا تتآكل، وأن 40 في المئة من مجمل السكان (6.8 ملايين نسمة) غرقوا في الفقر في السنوات الأخيرة. وطبقا لآخر تقرير أصدره ديوان الأمم المتحدة لتنسيق الأعمال الانسانية يحتاج 1.3 مليون ليبي إلى مساعدة إنسانية، ما يشكل زيادة بـ 40 في المئة بالقياس على العام الماضي. أما الأطفال فتؤكد تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» أن 350 ألف طفلا ليبيا يحتاجون إلى مساعدة صحية وغذائية. هذا فضلا عما تُعانيه الأسر الليبية من انقطاعات الماء والكهرباء المديدة، وانهيار المنظومة الصحية.
يزداد هذا الوضع سوءا مع تنامي التضخم واختلال الميزان التجاري، وتترتب عليه استتباعات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، فالشباب الذين انخرطوا في أجسام عسكرية متمردة على سلطات الدولة، في مقابل تقاضيهم رواتب شهرية، ضجروا من نمط الحياة الذي فُرض عليهم، وهم يتمنون الحصول على عمل منتج يوفر لهم الكرامة. والجدير بالذكر ههنا أن نصف الليبيين تقلُ سنهم عن 25 سنة.
بهذا المعنى تعتبر الأزمة الليبية متعددة الأبعاد والمستويات، ويقول الباحث السويسري التونسي منصف الجزيري، المتخصص في الشأن الليبي، في هذا الصدد إن أزمة ليبيا سياسية واقتصادية واجتماعية في آن معا، مضيفا بُعدا مهما آخر وهو أن الأزمة هي أيضا أزمة رابطة وطنية. وفي ثنايا هذا الملمح تبرز الخلافات المناطقية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، بل حتى بين المدن وبين القبائل. ومع استمرار الحرب الأهلية منذ 2014 وإخفاق مسار البناء الديمقراطي، تزداد الرابطة الوطنية ضعفا وتآكلا، فتطفو على السطح، في المقابل، الروابط القبلية والمناطقية على ما يقول الجزيري.
تآكل الرابطة الوطنية
ويعتقد الجزيري أن المجتمع الليبي، ما زال في قطاعات واسعة منه، تقليديا حيث لا وجود لأحزاب سياسية حقيقية، وحيث مازالت الثقافة الحزبية جنينية، لكن لم تتم الاستفادة من دور القبيلة في تعزيز الروابط الاجتماعية والتخفيف من المناكفات والصراعات المسلحة. وعليه ينبغي معاودة النظر في دور الوساطة التي يمكن أن تقوم بها القبيلة، وكذلك دورها في مساعدة المنظومة السياسية.
على هذه الخلفيات سيجتمع المشاركون في مؤتمر برلين2 يوم 23 من الشهر الجاري للحسم في مسألتين جوهريتين هما انسحاب المرتزقة الأجانب من ليبيا وحظر إرسال الأسلحة إلى الطرفين المتحاربين، بالاضافة لفتح الطريق الساحلي بُغية ربط شرق ليبيا بغربها. ومع غياب المستشارة أنغيلا ميركل عن مؤتمر برلين2، وهي التي قادت بحذاقة المؤتمر الأول، يتساءل محللون عما إذا كان سلفها سيتمتع بكاريزما مماثلة تسمح له بدفع الحوار نحو اعتماد إجراءات عملية ترفع الأحجار من طريق تطبيق خارطة الطريق، وتُفسح المجال لإجراء الانتخابات العامة في الوقت المحدد لها.
المصدر: القدس العربي