يمتاز الباحثان المشتركان في هذا المقال بكونهما من المشتغلين أكاديميا “بحثا وتثقيفا” بمسألة هوية الجزائر، ووحدتها الوطنية والجغرافية وانتمائها العربي الإسلامي، وإذ يعنونان المقال بعنوان “الأزمة الوطنية في منطقة القبائل” فإنهما يقصدان تسليط الضوء مباشرة على المشكلة التي يتناولانها في مقالهما المشترك بحيث لا يتيه نظر القارئ وفكره ولا للحظة واحدة عن هذه القضية.
العنوان يثًبتُ أن هناك أزمة وطنية في منطقة القبائل، ومن ثم يسرع الكاتبان لبسط رؤيتهما لهذه “الأزمة”، واقتراحهما لسبل الحل أو المعالجة، وهما فيما يقدمان يشيران إلى أمرين اثنين:
الأول: أن الوضع بات على درجة من الخطورة على الوحدة الوطنية ووحدة الأرض الجزائرية بحيث لم يعد يحتمل التأجيل والمماطلة.
الثاني: أن السبيل الوحيد لتجاوز هذه المخاطر هو الحوار الوطني الصريح والشامل الذي يحقق لمختلف مكونات الوطنية الجزائرية تطلعاتها، ويحافظ في الوقت نفسه على وحدة الشعب والأرض.
ورغم أن الاستعمار الفرنسي حاول بطرق شتى وعلى مدى 132 عاما خلق تمايز بين الجزائريين أنفسهم بعزل منطقة القبائل، وإيجاد تشريعات خاصة لها، لا تفصلها عن الجزائريين أنفسهم فحسب، وإنما تفصلها عن البيئة الجزائرية القائمة على قاعدتي العروبة والإسلام، على التشريع الإسلامي واللغة العربية، فإن قادة الفكر والتوجيه في المجتمع الجزائري أفشلوا هذا الجهد الاستعماري الدؤوب المرة تلو الأخرى، وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس وهو من رؤوس الأمازيغ خير مثلٍ لهؤلاء القادة وهو الذي وضع نشيد الشبيبة الجزائرية وجعل لازمته:
شـعب الجزائــر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجـا لــه رام المحال من الطلب
ورغم أن بدايات الإحساس بوجود تميز في المطالب البربرية ظهرت داخل “حزب الشعب الجزائري” الذي كان يرأسه مصالي الحاج في مرحلة سبقت حرب تحرير الجزائر إلا أن هذه المظاهر اختفت مع انطلاق ثورة التحرير الجزائرية، وظهرت وحدة الشعب الجزائري بكل مكوناته كأحسن ما يكون، مما مكن المجتمع الجزائري من تحمل أعباء الثورة، وتحمل التضحيات العظيمة التي تطلبتها للوصول إلى لحظة الانتصار ونيل الاستقلال، وقدمت القبائل الكثير من قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
لكن هذه المسألة عادت للظهور في ظل الصراعات التي تفجرت بين رفاق السلاح عقب الاستقلال، وفي ظل سياسات السلطات الوطنية اللاحقة، وفي ظل استمرار سياسات فرنسا الاستعمارية التي أرادت أن يبقى لها في الجزائر” مسمار جحا” تطل من خلاله دائما على الداخل الجزائري وتعمل فيه فسادا وإفسادا.
وعلى مدى ستين عاما مضت من هذه “البيئة الفاسدة”، التي تعاضدت على ايجادها العوامل الداخلية والخارجية ظهرت المرة تلو الأخرى الآثار الخطيرة لما بات يعرف ب “المشكلة الأمازيغية”. وفي أجواء هذه البيئة وعلى وقعت المواجهات الدامية في العام 2001 بعد مقتل تلميذ في مركز درك في منطقة القبائل والتي تشكلت في أجوائها تشكلت حركة “العروش” الداعية إلى تمثيل الأمازيغ وتمييزهم ثقافيا ولغويا، وكانت آخر مظاهر هذه الآثار “الامتناع ” الأمازيغي عن المشاركة الفعلية في الانتخابات الأخيرة، رغم أن مناطق الأمازيغ شاركت بشكل فعال في الحراك الشعبي الأخير الذي أسفر عن اقتلاع الرئيس عبد العزيز بوتفليقه.
مهم هنا أن نشير إلى أن المعالجة الفاعلة للمشكلة “الأمازيغية”، لا يمكن أن تثمر إلا في إطار المعالجة الشاملة للمشكلة الجزائرية، أي للمشكلة التي تتناول الأمازيغ وغير الأمازيغ في الجزائر، والتي تأتي على جذر المشكلة، ومن ثم إذا بقيت هناك من مظاهر أزمة لهذا المكون أو ذاك من مكونات المجتمع الجزائري فإن حلها يصبح ميسورا، لأنها تحل حيت ذاك في إطار وحدة الجزائر أرضا وشعبا.
والذي يدقق في الوضع الجزائري منذ الاستقلال وحتى الآن سيتكشف أمامه وجهان للأزمة في الجزائر، وجه يخص الهوية الجزائرية، ووجه يخص “الحكم” أي ممارسة السلطة في الجزائر.
1ـ فيما يخص الهوية فإنه من الواضح أن المجتمع الجزائري يعاني منذ الاستقلال وحتى الآن من مشكلة حقيقية في “تغذية هويته”، وإذا كان هناك اتفاق بأن العروبة والإسلام يمثلان معا هوية الجزائر والجزائريين، ويرسمان معنى الوطنية الجزائرية، ويحققان معا مفهوم” الحياة المشتركة” للجزائريين، فإن هناك تقصيرا لا حدود له من جانب السلطات الجزائرية والثقافية المتعاقبة في تغذية هذه الهوية، وتنميتها.
فالفرنسة ما زالت تشوه وجه الجزائر على القطاعات الإدارية والتعليمية والثقافية، وكثير من هذا التشوه يظهر واضحا لدى المسؤولين الرئيسيين الذين يقودون هذه القطاعات، والذي يتابع قضية التعريب في هذه المجالين يكتشف جوانب هائلة من القصور إن لم نقل التواطؤ على تعطيل أو إعاقة تحقيق هذا الهدف الذي كان له الأولوية عشية استقلال الجزائر.
كذلك فإن تمثل الإسلام في سياسات وبرامج وخطط وثقافة المؤسسات التعليمية والتوجيهية في الجزائر يبدو شديد الضعف إلى درجة أن الكثير من المواطنين الجزائريين لم يجدوا من يشبع حاجتهم في هذا الجانب إلا “الأحزاب والحركات الإسلامية”، وهو ما ظهر في انتخابات 1990، التي فازت بها الجبهة الإسلامية للانقاذ في الجزائر.
إن افتقار المجتمع الجزائري لهذا المكون من هويته، حوله من عنصر محدد للهوية تجتمع عليه ألأمة، إلى جزء من برنامج سياسي لهذا الحزب أو ذاك تفترق وتتصارع من حوله الأحزاب والتشكيلات السياسية.
إن التشوه الذي أصاب عنصري الهوية المشار إليهما” العروبة معبرا عنها بالتعريب، والإسلام معبر عنه بالشريعة والثقافة” أحدث غربة في حياة المجتمع الجزائري، وهي غربة يشعر بها الجزائريون أنفسهم، كما يشعر بها كل عربي يزور الجزائر ويعايش أهلها.
2ـ أما ما يخص أزمة الحكم فهي تتلخص في مظهرين: غياب الديموقراطية، وانتشار الفساد، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة فإنه على مدى ستين عاما كان الجيش هو أداة التغيير، وهو الممسك بالسلطة، وبين يديه تصدر قواطع الأمورـ ونحن هنا لسنا في معرض النقد لهذا الوضع، وإنما في موضع التوصيف له ـ، وحتى حينما تفجر الوضع الشعبي في وجه الرئيس عبد العزيز بو تفليقه فإن الجيش هو من حسم ألأمر، وهو من حدد صورة الجزائر في المرحلة اللاحقة أي الراهنة.
مهم جدا وإيجابي أن ينحاز الجيش إلى صف الشارع ليساعد في حسم الصراع، وليؤمن وحدة الموقف في أهم مؤسسة تملك القوة والقدرة والتماسك، وهذا أمر ضروري للحفاظ على الوحدة المجتمعية من أن يصيبها التمزق، لكن هذا الموقف لا يأخذ كامل أبعاده الإيجابية إلا بالاستجابة لمطالب الشارع، ولنبضه وتوجهاته، ويبدو أن حجم الفساد الذي كان ينخر جسد الإدارة الجزائرية حال دون تحقيق التحول المطلوب، أي دون الاستجابة لمطلوب الشارع الجزائري، وبالتالي عجز عن استعادة ثقة هذا الشارع، من خلال إعادة السلطة إليه.
والذي تابع يوميات الحراك الشعبي الجزائري، لا يصعب عليه التعرف على حجم الفساد في الإدارة الجزائرية بدءا من دائرة الرئاسة، إلى دوائر السلطات العسكرية والأمنية، إلى الدرجات الأدنى في سلم الإدارات في مختلف المؤسسات الجزائرية الرئيسية.
ومشكلة الفساد هذه أنها تعطل فرص التنمية وتشوهها، والجزائر بلد غزير ومتنوع الموارد على وجهيها: الموارد الاستثنائية والطبيعية، والموارد البشرية ، ففي الجزائر ثروة ضخمة من الغاز والبترول، والمعادن النادرة حتى اليورانيوم، والأراضي الزراعية والثروة الحيوانية، وثروة سكانية يمثل الشباب جزءا كبيرا منها، ومع ذلك فالشعب الجزائري يعيش في أجواء فقر، وبطالة، وهو يستورد معظم السلع والمواد اللازمة للاحتياجات الشعبية من الخارج، ويعم الشارع الجزائري إحساس بأن نصيبه من هذه الثروات يكاد لا يذكر، وبدل أن تكون الجزائر جاذبة لليد العاملة من خارجها نجدها طاردة لليد العاملة الجزائرية، حتى باتت الهجرة من الجزائر أمل يسعى إليه الكثير من الشباب الجزائري.
وفي ظل مثل هذا الوضع طبيعي أن يتم تشويه كل عناصر القوة في المجتمع الجزائري، فبدل أن يكون التنوع العرقي والجهوي مصدر إغناء ثقافي وروحي، يصبح مصدر تهديد لوحدة المجتمع، لأن من يتوفر لديه أي شكل من أشكال الخصوصية يشعر بأن التمييز ضده مصدره موقف من هذه الخصوصية، ولو أمعن النظر لعرف أن سيف الاستبداد والفساد على رقاب الجميع.
وفي ظل مثل هذا الوضع تصبح أي مطالبة بتصحيح ظلم أو تهميش وقع على هذه الجهة من البلاد أو تلك بمثابة دعوة تهدد الوحدة الوطنية والجغرافية، وتسارع قوى الفساد والاستبداد لرفع هذا السلاح في وجه المطالبين بالتصحيح.
وفي ظل مثل هذا الوضع تصبح المطالبة بتعزيز هوية المجتمع، مثار شكوك وممانعة ورفض من قوى الفساد والاستبداد، وكذلك ممن يستغل التنوع العرقي والجهوي لتحقيق مآرب غير وطنية.
لا شك أن إدارة حوار وطني شامل ضروري لمواجهة هذه الأزمة التي لم تعد تحتمل التأجيل.
إنها معادلة معقدة، وشائكة، وسيكون تفكيكها شرط من شروط البدء بالخطوة الأولى اللازمة لإخراج البلاد من أزماتها، ولوضعها جميعها بكل مكوناتها على الطريق الصحيح.
295 5 دقائق