في مطلع العام 2020، تمّ توقيف باتريك جورج زكي في مطار القاهرة الدولي واحتجازه في سجن طرة من قبل السلطات المصرية. وفي الوقت الذي اعتُقل فيه، كان زكي طالبًا ضمن برنامج “ايراسموس موندوس” في جامعة بولونيا الإيطالية يحضّر شهادة ماجستير في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي. كما كان ناشطًا في مجال حقوق الإنسان مع المنظمة المصرية غير الحكومية الشهيرة “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”.
وفي أواخر نيسان/أبريل 2021، وبعدما أمضى زكي أكثر من 450 يومًا في السجن، صوّتت الأغلبية في مجلس الشيوخ الإيطالي لصالح منح زكي الجنسية الإيطالية بغية المطالبة بإطلاق سراحه وتسليمه على الفور بموجب القانون الإيطالي. لكن القرار ليس نهائيًا بعد: تعتقد وزارة الشؤون الخارجية الإيطالية أن هذا القرار قد يكون له نتائج عكسية في حالة زكي إذ يطرح المزيد من التساؤلات حول روابطه مع إيطاليا. وفي حال غيّر وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو موقفه ووافق على منح زكي الجنسية، سيتعين على الحكومة المركزية في البلاد ممارسة ضغوط هائلة لإطلاق سراح زكي فورًا.
وتطرح الحادثة برمتها أسئلة حول سبب اعتقال باتريك زكي في المقام الأول. فبعد أن حطّ في القاهرة في 7 شباط/فبراير 2020 لقضاء عطلة وزيارة الأصدقاء والعائلة، تمّ اعتقال زكي فورًا على أرض المطار. ولم يُعرف الكثير عن مصيره خلال الأربع والعشرين ساعة التي تلت توقيفه، لكن في اليوم الذي أعقب اعتقاله، أعلنت السلطات المصرية رسميًا عن احتجازه. واتهمت السلطات زكي بشنّ حملة دعائية مناهضة للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي وبالإرهاب وسلّطت الضوء على روابطه بمنظمة “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”. ورفض زكي ومحاموه والمدافعون عن حقوق الإنسان هذه الاتهامات، وهم يزعمون أن السلطات المصرية فبركت الدليل الإلكتروني.
ولم يتمكن زكي من لقاء محامييه سوى خلال اليوم الأول من جلسة المحاكمة، التي عُقدت في تموز/يوليو 2020، حيث، ووفق “منظمة العفو الدولية”، بدا يرتعش حقًا وظهرت عليه علامات تعذيب سبق وتعرض له. غير أن محاكمته لا تزال معلّقة، ويبقيه النظام القضائي في الحبس الاحتياطي بتهم الإرهاب مع منعه من التقاء محامييه أو عائلته.
وفي مطلع كانون الأول/ديسمبر 2020، أطلقت السلطات المصرية سراح ثلاثة أعضاء آخرين في “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” كانوا محتجزين في سجن طرة بدورهم. وفي حين أمل الكثيرون أن يمهد ذلك الطريق أمام إطلاق سراح زكي أيضًا، إلا أنه لا يزال قابعًا في السجن بعد مرور 5 أشهر على ذلك، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت قضيته مبنية على تهم تتعلق بعمله مع المنظمة أو على بعض التهم غير المعلن عنها.
وبالنسبة للعديد من الإيطاليين، تشكّل هذه القضية مبعث قلق بشكل خاص إذ ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها حبس طالب أو مواطن إيطالي في مصر وسؤاله عن علاقاته بالحكومة الإيطالية أو عمله في مجال حقوق الإنسان. فلا يزال شبح قضية طالب الدكتوراه السابق في جامعة “كامبريدج” والمواطن الإيطالي جوليو ريجيني يلاحق إيطاليا باعتباره لحظة فشل في السياسة الخارجية الإيطالية. يُذكر أنه تم اختطاف ريجيني وتعذيبه وقتله في العام 2016، على يد عملاء سريين مصريين حسبما يُزعم – ولكن بسبب غياب التعاون مع السلطات المصرية، لم تتم محاكمة المسؤولين. وقد أثارت جريمة قتل ريجيني ردود فعل دولية كبيرة وشكّلت سابقة في كيفية تعاطي إيطاليا مع مصر في ما يتعلق بهذه الحادثة.
فقد فشلت إيطاليا في مباشرة التعاون مع مصر فور اكتشاف جثة ريجيني وهي تحمل علامات لا تقبل الشك على التعذيب، وبالتالي فشلت في اتخاذ موقف صارم بحق تعنّت مصر في التحقيق بالجريمة أو محاكمة مرتكبيها. في ذلك الوقت، اعتمدت السياسة الخارجية الإيطالية على الثقة بالحكومة المصرية حتى في وقت كان فيه وزير الخارجية على دراية تامة بانتهاكات تلك الحكومة المستمرة لحقوق الإنسان واحتمال فبركة غطاء للحادثة – وهذا ما حصل فعلًا. ولم تبادر إيطاليا إلى تغيير استراتيجيتها بعض الشيء إلا بعد توافر دليل على أدلة مفبركة وممارسة ضغوط من منظمات متعددة على غرار “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية”، بحيث اختارت استراتيجية أكثر استقلالية وصرامة.
ورغم الظروف المختلفة بين الحالتين، إلا أنهما ترتبطان ببعضهما من حيث واقع أن طالبًا إيطاليًا في مصر تعرّض لانتهاك كبير في حقوقه كإنسان. وقد أقدم أعضاء في الاتحاد الأوروبي على تقييم أوجه الشبه هذه وقرروا اتخاذ خطوات في هذا الخصوص، وحثوا على فرض عقوبات على القاهرة – رغم أن هذه العقوبات لم تتبلور على أرض الواقع بعد.
غير أن البرلمان الأوروبي اعتمد نصًا بشأن “الوضع المتدهور لحقوق الإنسان في مصر، ولا سيما قضية الناشطين المنتمين إلى “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، مسلطًا الضوء على كيف أن “وضع حقوق الإنسان في مصر استمر في التدهور في ظل تكثيف السلطات قمعها للمجتمع المدني، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والعمال في مجال الصحة، والصحفيين، وأعضاء المعارضة، والأكاديميين والمحاميين وتواصل كبح أي شكل من أشكال المعارضة بشكل عنيف وممنهج […]”. فمن الواضح أن ما يحصل مع زكي ليس الانتهاك الأول، بل هو على الأرجح جزء من فترة طويلة لتدهور حقوق الإنسان تشهدها مصر.
وبالنظر إلى ما يعلنه نص الاتحاد الأوروبي، يتعين على إيطاليا أن تكون من الدول الأعضاء الأولى التي تبادر إلى تغيير علاقاتها الثنائية مع الحكومة المصرية، وربما حتى تقطعها كليًا إلى حين إطلاق سراح زكي. وحتى الآن، لم تتغير العلاقات بين البلدين بشكل كبير ردًا على اعتقال زكي، رغم بذل الدولة جهودًا دبلوماسية هائلة لضمان إطلاق سراحه. ولا شك في أن العلاقات الدبلوماسية عند أدنى مستوياتها، غير أن السفير الإيطالي في القاهرة لا يزال في البلاد – علمًا بأن روما كانت سحبت سفيرها بعد مقتل ريجيني – ولا تزال الحكومة الإيطالية تقيم علاقات اقتصادية وتجارية مع مصر.
ويعود السبب في ذلك إلى حدّ كبير إلى طبيعة العلاقات المترابطة التي تجمع إيطاليا بدول أخرى في منطقة البحر المتوسط. وكما أفاد مجلس النواب الإيطالي في حزيران/يونيو 2020 في إحاطة إعلامية تناولت الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الوزراء الإيطالي السابق كونتي مع الرئيس المصري الحالي السيسي، “إن إيطاليا في وضع صعب” إذ لا بدّ من الحفاظ على علاقاتها مع القاهرة نظرًا إلى قرب المسافة بينهما وإلى الحركة التجارية بين البلدين.
تجدر الملاحظة في هذا السياق أن إيطاليا تتعاون مع مصر على أساس يومي ويعود السبب في ذلك ببساطة إلى موقعهما الجغرافي. فضلًا عن ذلك، تعمل بعض أكبر الشركات الإيطالية في مصر، كشركة “إيني” على سبيل المثال، المشغل النفطي الأجنبي الرائد في مصر الذي يعمل في مجال استكشاف واستخراج وإنتاج المواد الهيدروكربونية وتسييل الغاز الطبيعي. ولهذا السبب، من المستحيل أن تقطع الحكومة الإيطالية كل روابطها مع مصر أو حتى أن تفرض عقوبات عليها، إذ من شأن ذلك أن يقوّض الشراكات الاقتصادية القائمة منذ فترة طويلة ويتسبب بردود انتقامية محتملة.
كذلك، تضع إيطاليا سياسة خارجية ثابتة وغير قابلة للتغير عمومًا إزاء منطقة البحر المتوسط – وبخاصةٍ دول شرق المتوسط، ومن بينها قبرص، ومصر، واليونان، وتركيا. وتُعتبر أجندة السياسة الخارجية هذه وسيلة لكي تثبت إيطاليا استقلاليتها وتعمل كجسر من حيث التجارة والعلاقات والمفاوضات بين دول شرق المتوسط وأوروبا.
غير أنه وكما جاء في تقرير صادر عن “المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية” – وهو مركز بحوث مستقل ودولي مشهور مقره في ميلانو، إيطاليا – إن “هذه المساعي لتعزيز مكانتها [أي إيطاليا] أمام المجتمع الدولي أسفرت عن نتائج محدودة لعدة أسباب: ثغرة واضحة بين الأهداف-القدرات، والأحكام الدبلوماسية المؤسفة والانقسامات السياسية المحلية المتواصلة”. وجوهريًا، غالبًا ما كانت أجندة إيطاليا غير متوافقة مع أجندة القوى العظمى العاملة في المنطقة، وعليه، عجزت عن النجاح أو اتخاذ قرارات مستقلة تفضي إلى نتائج إيجابية.
ورغم عدم الملاءمة هذا، لم تنظر الحكومة المركزية الإيطالية يومًا في إجراء تغيير سياسي لسياستها الخارجية، ويعود السبب بشكل رئيسي – وفق “المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية” – إلى أن “صناع السياسة الإيطاليين يعتبرون تجنّب أي تصعيد في شرق المتوسط على أنه الخيار الأفضل في سياسة البلاد. كما أن هذه المقاربة إزاء الأزمات تناسب أيضًا نظرة إيطاليا التقليدية لنفسها بأنها قوة متوسطة، ما يعني أن روما تعتقد أنها عاجزة عن اتخاذ المبادرة السياسية في شرق المتوسط من دون الولايات المتحدة أو دول أخرى في الاتحاد الأوروبي”. وإذا ما طبقنا هذا المنظور على استراتيجية إيطاليا بشأن مصر، وبخاصة قضيتي زكي وريجيني، يبدو أن هذا التصنيف ملائم تمامًا.
واليوم، في حين لم تغيّر إيطاليا سياستها الخارجية الإجمالية إزاء مصر، إلا أنها تبذل جهودًا دبلوماسية كبيرة لإطلاق سراح باتريك زكي، بما فيها إرسال قضاة إيطاليين إلى مصر والتقاء كبار المسؤولين والضغط على الرئيس السيسي عبر السفارة الإيطالية، وتوحيد موقف الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد. وحتمًا، إن الموافقة على اقتراح منح زكي الجنسية الإيطالية هو خطوة مهمة إلى الأمام بالنسبة لصناع السياسة الإيطاليين لأنها تثبت اهتمامًا محليًا قويًا وموقفًا موحدًا ضد مصر – وهو موقف لم تأخذه إيطاليا في حالة ريجيني.
مع ذلك، على الحكومة الإيطالية ألا تواصل الفصل بين موقفها الأخلاقي وسياستها الخارجية، ولا سيما أن العديد من الإيطاليين يعتبرون مقتل جوليو ريجيني بمثابة دليل على فشل هذه الاستراتيجية. فالسياسة والأخلاق يجب أن يكونا ضمن الأجندة نفسها، بخاصةٍ عند وجود دليل على انتهاكات حقوق الإنسان. ويعدّ منح زكي الجنسية الإيطالية الخطوة الأولى فحسب؛ وسيكون الضغط لإطلاق سراحه بطريقة جدية وفعالة الخطوة الثانية. وسيكون من الصعب المطالبة بتسليم زكي بما أنه سيتعين على الحكومة الإيطالية العمل كجبهة موحدة – وهو أمر من النادر حصوله في إيطاليا. ويمكن للمجتمع الدولي والأوروبي المساعدة من خلال دعم هذا الإجراء واعتبار هذه الفرص كوسيلة لتعزيز حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر.
وأخيرًا، وفيما تدرس إيطاليا الخطوات المقبلة التي ستتخذها في قضية باتريك زكي ومصير علاقاتها مع مصر، من المهم ألا ننسى أن باتريك زكي وجوليو ريجيني هما الآن اثنان من بين آلاف الأشخاص الذين اعتقلتهم الحكومة المصرية بتهم ملتبسة أو لانتقادهم الحكومة. في الواقع، يواجه طالب أوروبي آخر من جامعة فيينا يُدعى أحمد سمير سنطاوي مصير زكي نفسه حاليًا. لذا، من المهم أن تعالج إيطاليا، والجميع، هذا الكم الكبير من انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وفي حال بقيت هذه الانتهاكات من دون عقاب، سيكون من الصعب تجنّب سيناريوهات مستقبلية مشابهة لسيناريو جوليو ريجيني والكثيرين غيره.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
243 6 دقائق