وسط خسائرنا الكبيرة يوميا للأشياء الثمينة والنادرة، فقدنا يوم الاثنين 27 رجب / الموافق 23 مارس المنشد الحلبي العظيم ذا الصوت الفريد حسن حفار الذي توفاه الله عن 77 عاما، عاشها فنانا غريدا، يتنقل بين كل ألوان الغناء الأصيلة الصعبة التي لا يقوى عليها سوى كبار الفنانين المحترفين والموهوبين: الموشحات، والقدود، والمواويل، والمدائح النبوية، فضلا عن الأغاني الحديثة، وأغاني الطرب الأصيل وفنون التجويد والإنشاد والأذان، ساعده على ذلك عاملان:
1 – اتقانه للمقامات الموسيقية كافة، بما فيها الصعبة الأداء جدا التي لم يجرؤ أحد على التلحين عليها أو الغناء إلا بعض أساطين الفن النادرين في التاريخ المعاصر، وكلهم من حلب.
2 – حفظه لآلاف الموشحات وكنوز الشعر الاندلسي، وعيون الشعر العربي الكلاسيكي.
تتلمذ منذ نعومة أظفاره على أيدي الفنانين والمنشدين الأفذاذ في حلب، أمثال صبري مدلل، وعمر البطش، وبكري الكردي، ومحمد رجب، كما عاصر الاخوين ابراهيم ونديم درويش ابني الشيخ علي درويش أعظم علماء الموسيقى العربية في العالم العربي قاطبة، خلال القرن العشرين، كما عاصر محمد خيري وصباح فخري واديب الدايخ من المتأخرين.. إلخ.
تميز الفنان الراحل بقوة الصوت وسعة المساحة والإجادة التامة للأداء، حتى أن الذين تابعوا حفلاته في سورية وفي العالم قالوا إنه من المستحيل أن تجد له خطأ في أدائه، مع قدرته على التنقل بين أنواع متعددة من فنون الغناء. كتب عنه أحد النقاد (وحده حسن حفّار الذي يمكنه إيجاد هذا التناغم والترابط بين موشح أندلسي قديم وبين أغنية معاصرة نوعاً ما، والربط بين ابن معتوق الأندلسي وبين محمود بيرم التونسي، بقدر كبير من السلاسة. سانده في هذه الارتجالات المحببة ذاكرته القوية، وإجادته المحسنة للمقامات والتنقل بينها، وصوته الرخيم العذب، وميله للإطراب. فقد اعتاد حسن حفّار التلاعب بهذه الألحان المتقاربة، ليقدم وصلات مشتركة في مقام الحجاز مثلا، أو الارتجال اللعوب ليقدم وصلة يجمع فيها بين اغنيات لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم!).
ومع أنه برز أكثر ما برز بفضل مدائحه النبوية الرائعة، بما تتميز من عاطفة وشجن كأستاذه صبري مدلل، فإن له وصلات كثيرة وطويلة في الغناء العاطفي الغزلي وفي الخمر. كما إنه برز في إحيائه لموشحات قديمة مجهولة المؤلف بألحان لعمر البطش وسيد درويش (الذي تعلم الموسيقى في حلب في عشرينات القرن الماضي وترك فيها تراثا حلبيا) وأبي خليل القباني الفنان الدمشقي الذي حمل الموسيقى العربية والمسرح الى مصر أواخر القرن التاسع عشر، مثله مثل سابقه كامل أفندي الحلبي الذي هاجر الى مصر عام 1850 حين لم يكن في مصر غناء بالعربية، فأعاد نشره، ونشر الموشحات الاندلسية. وكان من تلاميذه عبده الحامولي، وتبعهم الشيخ علي الدرويش الذي درس محمد عبد الوهاب وام كلثوم، ونظم أول مؤتمر عالمي للموسيقى العربية في القاهرة عام 1931.
انتقل حسن حفار الذي بدأ حياته مؤذنا في المسجد الأموي بحلب وفنانا محليا في الحفلات المحلية وبعض المناسبات الدينية، الى أن اصطحبه الى باريس استاذه صبري مدلل، وأقام عدة حفلات بهرت الجمهور الفرنسي، فأصبح ضيفا دائما على باريس، ومعهد العالم العربي فيها الذي أصدر له اسطوانات كثيرة، لأجمل وأرقى الوصلات الانشادية والغنائية، حيث ذاع صيته في العالم، وصار يدعى للمهرجانات العربية والدولية.
حسن الحفار واحد من مئات العباقرة الموسيقيين والمطربين الذين أنجبتهم حلب وتميزت بهم، لوفائهم لها ومحافظتهم على تراثها العريق الذي تميزت به طوال تاريخها حتى أضحت مخزن التراث الاندلسي العريق، وفنونه في العالم، بعد أن طعَّمه هؤلاء المبدعون بنكهة حلبية محلية وجددوه باستمرار، فتميز عن فن (المالوف) المعروف في شمال افريقيا والمنحدر من الأندلس أيضا. وزادت عليهم حلب بمحافظتها على رقصة السماح القديمة التي يقال إنها انتقلت من الاندلس مع الموشح. كما تميزت حلب بالقدود الحلبية التي تمثل التطعيم الحلبي للموشح الاندلسي، أي أنها مزيج من الاثنين.
كان لحفار فرقة موسيقية خاصة به، وكان له تلاميذ تدربوا وتعلموا الفنون على يديه، وكانت فرقته تركز على استعمال الدفوف والمزاهر لإعطاء مذاق خاص للإنشاد الديني والمدائح النبوية، ومن أبرز تلامذته حاليا المنشد عاصم العسلي الذي كان أول من نعاه ورثاه. رحم الله حسن الحفار وعوض حلب والعرب عن خسارته..333