تلاحقت متغيرات عالمية منذ بداية سبعينات القرن العشرين وعلى أكثر من صعيد ومجال، فمهدت لظهور ما يسمى العولمة إلى أن تبلورت بصيغتها الرأسمالية التي يعيش العالم في ظلال حرابها حتى الآن.
– العولمة الرأسمالية:
مع غياب القيادات التاريخية لحركة عدم الانحياز ودول العالم ” الثالث ” ثم سقوط الإتحاد السوفييتي؛ تراجعت المنافسات الإيديولوجية والفكرية وغابت مشاريع التحرر والنماذج الوطنية المستقلة البديلة؛ من ساحات العمل السياسي على المستوى العالمي.. وصار النموذج الرأسمالي متفردا بالسيطرة على آفاق السياسة العالمية؛ بحكم الهيمنة الأمريكية قلعة النظام الرأسمالي العالمي وأكبر قوة عسكرية واقتصادية وعلمية على مستوى العالم. مصحوبة برغبة جامحة في التحكم والسيطرة على كل موارد العالم ومقدراته وسياساته.. مما فتح الطريق واسعا أمام ظاهرة العولمة بطابعها الرأسمالي المادي النفعي ؛ مستفيدة من إنجازاتها في ميدان الاتصال والتواصل الإعلامي والتسويق والدعاية والتلاعب بالعقول ، انطلاقا من الشبكة العنكبوتية ( الأنترنت ) إحدى إنجازاتها العلمية العبقرية والتي وظفتها أحسن توظيف لخدمة أهدافها الخاصة ومصالحها المادية ومشروعها الكبير بالسيطرة على البشر ومواردهم…
ومع تمهيد نفسي بارع الذكاء والحسية ، وغزو إعلامي – ثقافي مروع ومتفوق استخدم كل تقنيات التأثير وتشكيل الراي العام وتوجيه العقول وتغيير النفوس ،
بدا احتكار النظام الرأسمالي للإمكانيات العالمية وتفرده بالسياسة الدولية وكأنه قدر محتوم ظل مهيمنا سنوات طويلة دون أية مقدرة على تحديه أو مواجهته أو حتى نقده وإحداث متغيرات فيه أو عليه ؛ تصيبه أو تخفف من وطأته على البشرية .. حيث يملك قوة اندفاع هائلة ورغبة إجرامية جامحة تبغي السيطرة واحتكار القرار العالمي والسيادة الدولية. مترافقة بضغوط عقلية ونفسية وثقافية مرعبة تهدف لتطويع البشر وتركيعهم لسلطانه تحت شعار قمعي استبدادي فاجر:
” من ليس معنا فهو عدونا.”… (معنا ليس بمعنى حليفنا بل الخاضع لسلطاننا تماما.).
وبدا كأن شعوب العالم قد تأقلمت مع هذه الهيمنة فاستكانت لأمر واقع في غير مصلحتها ولا يعبر عن آمالها وتطلعاتها. وبدا كأنه لم يعد هنالك من مكان للإرادة الشعبية.. استمرت هذه الحال ما يقارب ربع قرن من الزمن إلى حين انتهاء العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. حيث بدأت تحركات وظواهر واحداث تشير إلى رغبات شعبية حقيقية في التغيير وتجسيد نموذج وطني مختلف غير تابع وغير خانع ؛ بصرف النظر عما أنجزته أو ما فشلت في تحقيقه ( سوف نعود لتلك الأحداث بالتفصيل والتحليل لاحقا )..
يمكن القول أن تلك الفترة التي امتدت حوالي ثلاثة عقود ؛ تمثل ذروة تغول النظام العالمي الرأسمالي بصياغته الأمريكية ؛ فشهد العالم خلالها سلسلة من الحروب والنكبات المدمرة والتي صنعها ذلك النظام المتوحش المفترس ؛ فكان نصيب الأمه العربية من العدوان والدمار ضخما ابتداء من سقوط بغداد ومعها الحكم الوطني في العراق وبداية تسليمه للقوة الفارسية الشعوبية الحاقدة ومشروعها التخريبي المستمر.
كما لم تسلم امة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات من تأثير تغول ذلك النموذج الرأسمالي الذي حمل معه مفاهيمه وأفكاره ومعتقداته الخاصة في كل مجالات الحياة وليس فقط في السياسة والاقتصاد..
– سمات العولمة الرأسمالية :
تركت هذه المرحلة بصمات عميقة بل شديدة الخطورة على الإنسان والجماعات البشرية المتنوعة ، ولكن قبل الحديث عنها ؛ ما هي الرأسمالية وكيف تفكر ؟؟
ترتكز الرأسمالية على ثلاثة عمد أساسية فكرية منهجية نوجزها باختصار شديد بما يلي :
١ – النموذج المتميز من الرؤية الاقتصادية – الحياتية التي تعتمد على حرية المبادرة الفردية و تعظيم دور الفرد وإسقاط دور الدولة الاجتماعي. . بما يعني ذلك من حرية المنافسة والاحتكار والاستغلال والربح وتكديس الثروات وتكريس الفقر بصفته صفة أو خاصية شخصية تتعلق بالفرد ذاته ومؤهلاته ..
٢ – نموذج سياسي يقوم على الليبرالية التي تسمح بحرية العمل السياسي والتعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب والانتخابات البرلمانية الدورية وتداول السلطة وغير ذلك..
٣ – العَلمانية بمعناها اللا ديني حيث أبعدت الدين وقيمه عن التأثير في الحياة وفي تشكيل بنية ووعي الانسان وضبط نوازعه وموازنة سلوكياته..
وقد استفاد النظام الرأسمالي العالمي من إنجازاته العلمية والاقتصادية ليعمم ويفرض منهجه السياسي وقيمه ” العَلمانية “..
كما استخدم معتقداته السياسية بشكل بارع وشديد الذكاء والحنكة لتغطية وتبرير سياساته العملية في كل مجال وكل ميدان. سواء داخل مجتمعات بلاده أو خارجها. فتم ذلك الخلط المتعمد المقصود بين مبدأ الحريات السياسية والشخصية العامة التي ينادي بها وبين نتائج تطبيقاتها العملية التي أثمرت سياسات استعمارية استغلالية إجرامية جشعة لا ترحم شيئا .. وقد نجح بالضغط النفسي والتسويق الإعلامي البارع في إحداث ذاك الخلط وذلك التبرير والتغطية على سياساته العدوانية حيال جميع البشر..
وقد عمل النظام الرأسمالي على تعميم وفرض مفاهيمه المعيارية على الفرد والمجتمع لكي يتمكن من إحكام سيطرته على الجميع والتحكم بسلوكياتهم اليومية والعامة..
إن الهدف الأكبر للرأسمالية هو السيطرة الاقتصادية والاستحواذ المالي والطبيعي بما هو موارد وخيرات ..لتحقيق الربح المادي والمزيد من الربح حتى لا يبقى في جيب أحد فلسا يستطيع التصرف به بمحض رغبته أو إراداته..
على هذا الأساس عملت الرأسمالية على نشر وتسويق مفاهيمها و” قيمها ” السلوكية الخاصة وإقصاء أية مفاهيم أو قيم أخلاقية واجتماعية يمكن أن تسد عليها الطريق أو تعرقل مسيرها في السيطرة والتحكم…
وقد نشأت نتيجة لذلك كله سلوكيات وظواهر معولمة لم يسلم من تأثيرها مجتمع من المجتمعات. فشكلت جميعا ما أسميناه:
– سمات العولمة الرأسمالية –
وهي في مجملها سمات نابعة من القيم والمفاهيم التي يرتكز عليها نظام العمل والحياة الرأسمالية المعاصرة.
شبكة متكاملة من المفاهيم الثقافية والمرتكزات الاجتماعية التي تنبثق عنها وتجسدها واقعا في سلوك الناس وتعاملاتهم.. والهدف العام المشترك خدمة مصالح الرأسمالية وتوسيع نطاق هيمنتها واستئثارها بموارد الأرض والبشر وناتج عملهم ..
تتمثل تلك المفاهيم – القيم بشكل أساسي فيما يلي:
١ – الفردية:
تمام الفردية حيث لا مكان فيها لما يسمى القيم الجماعية أو الالتزامات الاجتماعية.. فالفرد هو أساس التكوين البشري والمجتمعي. أما المجتمعات فليس لها سلطة على الفرد. سواء تمثلت بالدولة أو بسلطتها الأخلاقية والمعنوية… أساسها الفكري – النظري أن سعي الإنسان الطبيعي لتحقيق مصلحته الشخصية يؤدي بالضرورة إلى تحقيق مصالح المجتمع. فلا ضرورة لأي تحديد او تقييد لتلك الحرية الشخصية أو لتدخل الدولة في اي وجه أو صورة…. فكانت سببا مباشرا في شيوع النزعات الانعزالية التي عززت التوجه نحو الذاتية والاستغراق فيها والخضوع لمتطلباتها من تباعد اجتماعي وتراجع كل قيم التضامن والتراحم والشهامة والغيرية والإيثار والمساعدة التطوعية الانسانية.. ومنها نشأت تلك الظواهر الغريبة اللامبالية حتى بالفطرة الإنسانية والمستهترة بكل ما يرتقي بالإنسانية سلوكا حضاريا…وما ظاهرة كالشذوذ بكل أنواعه ومظاهره. إلا نموذجا مرضيا عنها. وكثير من الظواهر السلوكية الغربية الأخرى..
٢ – النفعية:
المنفعة المادية كمعيار وحيد للعلاقات والتبادل بين الأفراد والمجتمعات.. فلا قيمة لأي اعتبار إنساني أو أخلاقي أو اجتماعي. وحدها المنفعة المادية هي أساس العلاقات التبادلية بين البشر. استطاع إعلام العولمة وغزوه الثقافي أن يجعل كلمة ” بزنس ” سيدة الكلام والتبرير في معظم تبادلات البشر العملانية. بكل ما تخفيه من إقرار بحق الغش والكذب والمخادعة وكل ما هو غير إنساني وغير شريف. فصارت غطاء لكل عمل يؤدي إلى الكسب المادي دون اعتبارات أخرى من أي نوع..
٣ – الاستهلاكية:
حيث المطلوب من كل فرد استهلاك كل ناتج عمله وإمكانياته أيا تكن احتياجاته.. على الإنسان أن يستهلك ما تنتجه الرأسمالية حتى تزداد أرباحها باستمرار ولا تتوقف مصانعها عن الإنتاج ولا تتوقف عجلة ثرواتها عن التضخم..
وهكذا حول الترويج الإعلامي والتسويق الغرائزي البشر بمجملهم إلى جيوش من المستهلكين ينساقون غريزيا إلى استهلاك المنتجات المسوقة والمعروضة أمامهم بأسلوب جاذب مغر..
والأخطر تمثل في نجاح فكر العولمة الرأسمالي بربط الاستهلاك بالحداثة. بحيث صار من لا يستهلك ويلاحق ويشتري كل جديد وكأنه متخلف عن العصر والحياة الحديثة. وبات غالبية البشر واقعين تحت مظنة ارتباط الرقي والعصرنة بالاستهلاك. وراح من لا يملكون المال اللازم لمتابعة الجديد واستحواذه ؛ يعملون على الكسب المالي بأية صورة مهما كانت فظاعتها أو بعدها عن الإنسانية والحلال والحرام وحتى عن الشرعية القانونية…فانتشرت كل تلك السلسلة المترابطة من الأعمال الهابطة التي توفر دخلا إضافيا…حتى أنها صارت هي مصدر العمل الوحيد بديلا عن أي عمل شريف منتج…فكانت أعمال الجريمة والمخدرات والدعارة وتبييض الأموال والتهريب والسمسرة والنصب والاحتيال ؛ تحقق أرباحا كبيرة مع ما تحمله من هدر لقيمة العمل ذاته ومن متطلبات انحرافيه لا أخلاقية تبرر وتغطي تلك الأنشطة المشينة والمهينة..
٤ – المكيافلية :
بعد أن أغرقت الرأسمالية الأسواق العالمية بمنتوجاتها المتنوعة جدا ، الكمالية وغير الكمالية ؛ وبعد أن سوقت الاستهلاك وجعلته قيمة مضافة على وجود الإنسان وتميزه وسابقة على أصالته وهويته ومتقدمة عليها ؛ وربطته بالحداثة والمعاصرة و ” التقدم ” ، وجد الفرد ذاته أمام مأزق الموارد المادية المحدودة. ولما لم يستطع مقاومة إغراءات وضغوط الحياة الاستهلاكية الجاذبة ، راح يبحث عن مصادر مالية سريعة وهامة بأية وسيلة فوقع ضحية الكسب غير المشروع والعمل غير الحلال بمعناه اللاأخلاقي ، أيا كان ، حتى يؤمن لنفسه متطلباتها واحتياجاتها الاستهلاكية التي لا تكف عن النمو والتزايد بشكل فاحش..
وكانت هذه أهم مداميك الفساد الشخصي والعام وصعود كل عمليات تبييض الأموال والتجارة اللا شرعية واللا شريفة. كما كانت سببا هاما في التخلي عن كثير من ضرورات الانتماء الوطني واستبداله بتبعية نفسية واقتصادية ومالية لقوى الرأسمالية العالمية…ليس على مستوى الأفراد فقط بل مجتمعات بحالها ودول كثيرة بما فيها دول ذات إمكانيات بشرية ومالية وطبيعية مهمة..
٥ – الذاتية:
انطلاقا من فكرها الفردي النفعي الاستهلاكي عملت قوة العولمة الإعلامية على دفع الإنسان المعاصر للوقوع في شرك ذاتية متضخمة تعتبر ذات كل فرد محورا للعالم ومعيارا لكل ما يقع خارج إطارها وحدود انتمائها المباشر. فعلت هذا لإضعاف الإنسان وتجريده من كل مناعة اجتماعية أو وطنية وتحويله إلى عبد لذاته فتستطيع بذلك قيادته عقليا وثقافيا وسلوكيا وحتى مصلحيا إلى حيث تريد هي له أن يكون..
فهي تدرك أن انتماء الإنسان إلى وطن والتزامه بجماعة تتكامل معه ويتكامل معها وفي إطارها نفسيا وثقافيا وأخلاقيا وحتى مصلحيا؛ يعزز من مناعته ومن ثقته بنفسه وأصالته ويزيد من قدرته على الصمود بوجه الانحراف ويعصمه من السقوط في براثن الانتهازية والارتهان للخارج والتبعية له. كما يبعده عن الاعمال غير المقبولة من الجماعة – الوطن – الأسرة ، بحكم التزامه بقيمها معا..
لهذا حاربت تلك المفاهيم المعولمة الأسرة وعملت ولا تزال تعمل على تفكيكها وإهدار كل قيم الالتزام بها وبهويتها الإنسانية – الاجتماعية..
فكانت صناعة الجنس وإباحة الأنشطة الجنسية مكملة لتلك المفاهيم بل متمما عضويا لها. وتم تغليفها بداعي ” الحرية ” الفردية وما تلاها من سقوط مروع وانحدار أخلاقي فظيع. يتم إذكاء الذاتية المتعالية المتضخمة وصولا حتى الأنانية المفرطة وبعدها النرجسية التامة التي ترادف نوعا من عبادة الذات…وهو ما يتجلى في سلوك بعض النخب وكثير من سياسيي الأحزاب والمؤسسات النقابية والعامة. وهي الظاهرة التي كانت سببا في فشل أولئك الساسة وسقوط أحزابهم معهم..
٦ – اللا إنتماء:
انطلاقا من كل تلك المفاهيم والتصورات الرأسمالية ، نشأ إنسان لا ينتمي إلا إلى مصلحته المادية المباشرة ودائرة ذاتيته المطبقة عليه نفسيا وثقافيا..
وصار يقيس كل هوية وكل قيمة بمقياس منفعته المادية .حتى أن الوطن صار ما يوفره له من رفاهية معيشية فقط. شيئا فشيئا ظهر الإنسان اللا منتمي المنزوع الهوية الفاقد للمضمون الفكري الأصيل المتجذر في أرضه المعبر عنها وعن خصوصيات تكوينها وتاريخها وحضارتها..
ولم تكن العولمة الرأسمالية متضررة من هذا الإنسان اللا منتمي بل وبالعكس هي التي أرست له مقومات نشوئه وتحرضه باستمرار وبقوة على البقاء في تلك الدائرة المبعثرة المتعرجة. ففيها مصلحة لها مباشرة وراسخة..
حيث أن ولاءها هي لمصالحها المادية وليست لأي شيء أو أمر آخر…ووطنها هي كل ما يحقق لها المزيد من الربح وتكديس الثروة ومركزيتها الشديدة..
حتى الدولة التي ساعدت هي أساسا في بلورتها وقيامها لم تعد تعنيها كثيرا إلا بقدر ما توفر لها من متطلبات السيطرة والربح والاستئثار بالموارد..
٧ – التفكيكية:
بالأصل فإن حضارة الغرب الرأسمالية حضارة تجزيئية تفكيكية…جزأت الإنسان عضويا ونفسيا لتفهمه وتعرف كيف تطلق طاقاته وتعالج أمراضه وأيضا لتعرف كيف توجهه وتضبطه وتستثمره لمصالحها. صحيح أنها أبدعت وطورت العلم والطب والادب لكنها ظلت محكومة بتلك التجزيئية التجريبية ولم تستطع الإفلات منها فلا تزال ترى الإنسان بوصفة أداة ووسيلة لتحقيق غاياتها المصلحية هي. ولم تر الإنسان غاية كمالية بحد ذاته..
وهذا أحد أسباب ارتباطها تاريخيا بالاستعمار والمجازر والحروب والقتل والتدمير بدون أية اعتبارات إنسانية. فكان محركها ودافعها وغايتها في ذات الوقت هو مصالحها المادية العليا..
والعولمة الرأسمالية امتداد أمين ودقيق لتلك التجزيئية التفكيكية التجريبية…وما سعي قوى وأطراف النظام العالمي الحاكم المستحكم إلى تدمير أوطان ومجتمعات بحالها وتفكيكها وتجزئتها وإقامة دويلات وممالك وكيانات أغلبها مصطنع لا يملك مقومات البقاء والاستمرار؛ إلا تعبير صريح عن تلك العقلية التفكيكية وما يرافقها ويعبر عنها من الرغبة الجامحة الإجرامية في السيطرة على كل البشر والتحكم بهم. فهي لا ترغب ولا تقبل بقاء كيانات كبيرة أمامها…فكل ما يعرقل سطوتها وتحكمها، هو عدو مباشر لها أيا كان…وما كل هذه الحروب الإجرامية التي أحدثتها وتسببت بها ، وما كل تلك الأدوات الميليشيوية الإرهابية المجرمة التي أنشأتها حول العالم ؛ إلا مظاهر مباشرة لما تريده وترسمه لمستقبل البشرية والعالم..
٨ – الشكلية :
تغليب الشكل على المضمون بحيث بات التباهي بالمظاهر الخارجية سمة من سمات العصرنة .. وبات الشكل أهم عناصر التقييم ومعيارا شبه وحيد في جميع مجالات السلوك والحياة..
إن الجري وراء المادة قاد إلى سلوك كل ما هو غرائزي لكونه يحقق ربحا سريعا بوقت قصير. وتم تغليب متطلبات الغرائز على ما عداها من مقومات إنسانية حيوية. فصارت العواطف خاضعة لاعتبارات الغرائز. وتحولت الرومانسية الى كلام استهلاكي يهدف للحصول على المتعة الجسدية. فتم تفريغ الحب من مضمونه الانساني التكاملي وصار غريزة حيوانية بأسماء متعددة كالحرية الشخصية …وصارت المقتنيات المادية المتنوعة معيارا للقيمة الإنسانية وليس العمل والعلم والأخلاق..
صار من يملك المال مقدما على من سواه حتى بالقوانين والتشريعات التفصيلية والتشريفات العملانية..
كذلك حال القيم الانسانية الأخرى بحيث غدت مستهدفة لتفريغها من مضمونها الأخلاقي واستبداله بمضمون نفعي مادي استهلاكي يناسب نهج العولمة الرأسمالية ومتطلبات انصياع الجميع لها ..
٩ – السطحية :
أو تسطيح الوعي الإنساني الذي بات إحدى نتائج سيطرة وسائل الإعلام على مصادر بث المعلومات وصناعة المعرفة وصار مرجعا لاتخاذ المواقف وتحديد اتجاهات العقل والاهتمام والسياسة. ومع السرعة التي تتطلبها صناعة الإعلام وتسويق الأخبار، سادت السطحية بمعنى تهافت التفكير والمعرفة وبالتالي صار الوعي سطحيا بما يتماشى مع كل تلك السرعة والانسيابية في العرض والتحليل ورؤية الأمور. بالإضافة إلى مصالح القوى التي تملك الإعلام وتوجهه؛ في سوق الناس كالقطيع للاستغراق فيما تراه وترسمه لهم. وهو ما لا يتناسب مع التفكير العميق أو حتى مجرد التفكير في مدى صحة أو صوابية ما يطرحه الإعلام الذي أجاد لعبة حض الناس على السطحية في كل تفكير وفقا لما يعرضه عليهم مكررا أو مستنسخا أو معدلا بما يفيد رؤاه ومصالحه..
النتيجة أن اعتاد البشر على السرعة في التفكير والحكم والتقييم..
١٠ – مسلكيات معولمة :
انطلاقا من كل تلك المفاهيم والمعايير التي تعتمدها العولمة الرأسمالية ، تشكلت ظواهر سلوكية فردية وجماعية باتت تطبع تعاملات كثير من البشر فيما بينهم وطباعهم وطرائق تفكيرهم واهتماماتهم..
فمن اضطراب الأمن النفسي للإنسان المعاصر ،
إلى اهتزاز نظام قيمه الأخلاقية – الإنسانية ..
وصولا إلى ضعضعة الولاءات العامة لمصلحة الولاء الذاتي للمصلحة الفردية المباشرة..
برزت سمات مسلكية صارت تشكل جزء اساسيا من شخصية الانسان المعاصر وصار يصعب تجاوزها إلا بعمل تغييري نهضوي شامل..
غابت القناعة إلى حد كبير وبات الطمع بديلا يحرك كثيرا من الناس برغبة جامحة للكسب المادي بأية وسيلة ..
الحسد انطلاقا من المقتنيات المادية .
الرغبة في اقتناص ما في يد الغير .
الجشع والاستغلال واستبعاد البعد الإنساني لكثير من المهن والأعمال والعلاقات والمواقف..
تراجع مضمون الصداقة الحقيقية لمصلحة العلاقات العابرة المزاجية غير المستقرة .
إهدار قيمة التضامن الاجتماعي لمصلحة التقوقع الفردي الذاتي.
تطبيع العقول والنفوس مع الشذوذ والفساد والنفاق والكذب وتغليفها بأغلفة حداثية مستندة الى ما يسمى الواقعية أو تغيرات حياتية مستجدة.
سرعة الانفعال والغضب تعبيرا عن اضطراب الأمن النفسي والذاتي والجماعي..
الإحباط وتسلل اليأس وضعف الأمل بالغد.
غلبة الشك والريبة والحذر على التفكير والسلوك.
تسخيف العواطف وتغليب الغرائز عليها.
تبرير التزوير والتزييف وإهدار الأصالة التي تعطي القيمة الحقيقية الموضوعية لكل الأشياء..
سهولة التناحر والتشاجر وسرعة التخلي وإهدار الروابط الإنسانية.
غلبة التعصب والعنصرية والمجافاة..
الانعزالية والتقوقع .
التشرذم والتشتت..
السلبية واللامبالاة..
الى ما سوى ذلك من سمات مسلكية ترتبط عضويا بالعولمة الرأسمالية وطبيعتها الاستعلائية العدوانية ومضمونها اللا أخلاقي ..
ومع الإشارة إلى هذه السمات ، يقتضي الانتباه الى بعض الملاحظات المعنية الهامة :
١ – هذه سمات عامة ولكنها ليست حصرية .بمعنى أن ظهورها في سلوك الافراد أو المجتمعات ليس متساويا كما ليس متجانسا. فكثير من الأفراد يتنبهون لتسللها الى السلوك البشري فراحوا ينبهون لخطورتها. وفي المجتمع الواحد ليست مشتركة لكل الشرائح الاجتماعية. وليس بالضرورة عاما فيها..
٢ – في الانسان الفرد ذاته ليست بالضرورة شاملة لكل أبعاده. هنا تأثير جزئي لبعض السمات في بعض الإنسان وهناك سمات أخرى مختلفة. مع وجود عدد كبير من الأفراد المتمتعين بوعي ومناعة وصلابة..
٣ – تختلف نسبة تأثر المجتمعات بتلك السمات تبعا لمستواها الحضاري ونسبة المشاركة الشعبية في تقرير مصائرها كما بنسبة او عمق وعيها وإدراكها لخصوصيات هوياتها الوطنية..
٤ – مدى تحمل السلطات المحلية مسؤولياتها المدركة لضرورة حماية مجتمعاتها من التأثيرات السلبية الخارجية..
٥ – الأصالة والهوية والولاءات الوطنية والإنسانية الرافضة لقيم العولمة، كثيرة ومتشعبة ومتنوعة في تعبيراتها وصياغاتها. المشكلة أن إمكانيات العولمة تفوق إمكانياتها بآلاف المرات كما أنها متفرقة لا يجمعها مشروع حضاري نهضوي بنيوي شامل يمكنها أن تشكل بديلا وإن في المستوى الأدنى..
٦ – قوة العولمة الرأسمالية وقواها المتنوعة جدا، تستميت لتطويع الإنسان المعاصر سياسيا واقتصاديا كما اجتماعيا وسلوكيا بحيث يصبح منهكا ضعيف المناعة قابلا بكل ما ترسمه له ولحياته ومستقبله. تستخدم أحدث التقنيات ووسائل التأثير وصناعة الرأي وتكوين العقول وتشكيل الوعي. لا بل لتزوير الوقائع وتزييف الحقائق وصولا إلى إنسان مفبرك لا منتمي. تستطيع وحدها تسييره والتحكم به..
٧ – يشكل الإيمان الديني عاصما وحاميا ودافعا للتوازن والاستقامة ومحرضا على الإنسانية والأخلاق والقيم التضامنية. على الرغم من تهافت كبير يمس المؤسسات الدينية التقليدية والحزبية ومن مظاهر التعب والتبعية والسلبية والإنهاك فيها ..
٨ – هل هذا مصير قدري محتوم ؟؟
من الواضح أن العولمة الرأسمالية بدأت تتدهور بانكشاف عوراتها وبيان أخطارها على البشرية رغم كل ما فيها من إنجازات علمية وتقدم تقني مذهل..
وقد ارتفعت اصوات كثيرة وكبيرة خلال العقد المنصرم منبهة من أخطارها وضرورات بلورة نموذج مغاير للتقدم الإنساني ؛ أكثر مواءمة للفطرة الإنسانية السليمة وأكثر احتراما للقيم الأخلاقية السامية..
وظاهر أن البشرية تنتظر مثل هذا النموذج البديل..
أين موقع الأمة العربية في هذا المسار وهل تستطيع النهوض والمساهمة الفاعلة في بلورة مثل هذا النموذج متسلحة بتاريخها العريق الممتد في عمق الحضارة والعطاء والتنوع والغنى..؟؟
– يتبع –