المصاعب المقبلة لن تكون مثل أي شيء عرفناه من قبل على الإطلاق. يوم الأحد، وحيداً كغيمة، تجولت عبر سهل خلاء تكنسه الريح في مقاطعة دورهام، ومررت بصخرة منعزلة من الحجر الرملي، لها تجويف صغير مستدير في الأعلى، وقد التصقت قطعة عملة معدنية قديمة بقاعدة التجويف. وتدعى هذه الصخرة “حجر الزبدة”، وهي المكان حيث كان سكان البلدات والقرى المجاورة يتركون، خلال تفشي الطاعون في العام 1665، قطع العملة المعدنية في وعاء مملوء بالخلّ ليتم تبادلها مع المزارعين مقابل الطعام. وكانت الفكرة أن لا يقترب المزارع أو زبونه من الصخرة إلا عندما يكون الآخر قد ابتعد عنها بمسافة آمنة.
كانت هناك أربع قطع من العملة المعدنية الحديثة على الصخرة، كتقدِمات من أرواح مجهولة إلى السّهل. ولم أتوقع، حتى ولو مرة واحدة، في أعوام عمري الستين أن أعود إلى عالم ينتمي إلى القرن السابع عشر، حيث التباعد الاجتماعي والمادي مسألة حياة أو موت.
وما مِن نتائج جيدة من هنا. سوف يموت الكثير من الناس قبل الأوان. وسوف يفقد الكثيرون وظائفهم. وسوف تفلس العديد من الشركات. وسيعاني الكثيرون من الفجيعة والوحدة واليأس -حتى لو أنهم تجنبوا الإصابة بالفيروس. والسؤال الوحيد هو كم سيكون عددهم في كل حالة. إننا على وشك معرفة مدى قوة الحضارة. ولن تكون الصعوبات المقبلة مثل أي شيء عرفناه من قبل.
كانت الحكومة البريطانية استثنائية في تدرج إجراءاتها لفرض التباعد الاجتماعي بدلاً من التعجل بها جميعاً في وقت واحد. وقد أدى ذلك إلى جلب قدر كبير من الحيرة والنقد -البعض منه مبرر. كان الدافع الكامن وراء هذا النهج هو القلق من أن عودة لظهور الفيروس بعد كبحه البدئي ستكون نتيجة كارثية، لأن الناس لن يتسامحوا مع وضعهم تحت حظر التجول مرتين، ولذلك يجب أن يكون توقيت فرضه صحيحاً. لكن التجربة القاسية التي تعيشها إيطاليا غيرت كل شيء. وهكذا، عندما كشفت النماذج الملعونة لتطور المرض أن ذروة “مُدارة” واحدة للتفشي هنا، والتي تؤدي إلى حصانة القطيع في نهاية المطاف، قد تقتل 260.000 شخص وتكون أكبر من إمكانيات خدمة الصحة الوطنية، تحولت الاستراتيجية من “أخِّر” إلى “اقمَع”.
تعترف الحكومة الآن فعلياً بأنه حتى لو أدى حظر التجول الصارم إلى موجات متتالية من المرض، فإن هذه قد تكون النتيجة السيئة الأقل سوءاً. وهو احتمال يظل مرعباً. فالموجات المتتالية من التفشي تعني نوبات متتالية من حظر التجوال وضربات متتالية إلى جسم الاقتصاد. وإذا ضيقنا الخناق بصرامة الآن وانخفض معدل الإصابات، فإننا قد نكون قادرين ببطء وحذر على إعادة تشغيل الاقتصاد في الصيف، ولكن سيترتب علينا أن نوقفه مرة أخرى عندما يعود الفيروس. وفي كل مرة نقوم بذلك، سيكون الأمر أكثر إيلاماً، ولكن على الأقل ستكون الخدمات الصحية أكثر استعداداً بكثير، مع توفر المزيد من أسرّة العناية المركزة، والمزيد من مرافق العزل، والمزيد من أجهزة التنفس الاصطناعي، والمزيد من معدات الفحص الأكثر حداثة، والمزيد من البيانات حول فعالية الأدوية المعاد استخدامها واستعارتها من أغراض أخرى.
علاوة على ذلك، في كل مرة يعاود فيها الفيروس الظهور، سيكون هناك المزيد من الأشخاص الذين اكتسبوا المناعة للمساعدة على رعاية المرضى. فبمجرد إصابتك بالمرض، وافتراض أن المناعة التي اكتسبتها طويلة الأمد (وهي مسألة غير مؤكدة بعد)، فإنك ستكون ضمن فئة خاصة من الأشخاص الذين يمكن استخدامهم -أو الذين يتطوعون- لما يمكن أن يكون بخلاف ذلك عملاً محفوفاً بالمخاطر، ولرعاية كبار السن. ويمكن أن تكون كل موجة جديدة من المرض أقل فظاعة.
أحد الآثار الجانبية لنهج الحكومة المتدرج، خطوة بخطوة، هو أن الناس أصبحوا متقدمين على السلطات. فقد تطوع الكثير من الناس بالتخلي عن التجمعات والعمل من المنزل إذا كان بإمكانهم ذلك، أو السفر أقل قبل أن يُطلب منهم ذلك. وكانت جوقة الشكوى في الأسبوع قبل الماضي على وسائل التواصل الاجتماعي تهتف بأن الحكومة لم تفعل ما يكفي علامة على أن الناس الآن يقولون للحكومة ما يجب القيام به -وهذا ما ينبغي أن تكون عليه الأمور في دولة ديمقراطية. ويتم انتقاد رئيس وزراء لأنه لم يأمرنا بفعل الأشياء، وإنما “نصحنا” بفعلها. وهذا أفضل من العكس. وكما قال المفكر الليبرالي دوجلاس كارسويل في الأسبوع الماضي: “عامِل الناس كراشدين مسؤولين وسيتصرفون بمسؤولية أكبر”.
حتى هذا العام، اعتقدت أن هذا النوع من الوباء المعدي لا يمكن أن يحدث اليوم. كانت الهزيمة التي أُلحقت بالأمراض المعدية كسبب للوفاة كاملة حتى بدت وكأنها لا يمكن نقضها: الطاعون، والجدري، والكوليرا، والتيفوئيد، والحصبة، وشلل الأطفال، والسعال الديكي والكثير من الحالات التي تم القضاء عليها تماماً أو تقريبًا. وقد جعلَنا فشل الفيروسات الجديدة المروعة القادمة من الحيوانات، مثل هانتا، ماربورغ، سارس، ميرس، إيبولا، انفلونزا الخنازير، انفلونزا الطيور وزيكا في التسبب بأكثر من ضرر محلي أو مؤقت لمسيرة التقدم، جعلنا ذلك نشعر بالرضا عن النفس. (كان فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة، “الإيدز” فقط هو الذي أصبح عالمياً). وأعطانا التقدم العلمي الذي سمح بالقراءة السريعة لجينوم فيروس كورونا ثقة زائفة: سوف نعرف كيف نتغلب عليه عندما يخرج من الصين. وبدا أن نزلات البرد الأكثر شيوعاً، والأشكال الأكثر اعتدالًا من الانفلونزا هي وحدها القادرة على البقاء في كل مكان. وفيروسات كورونا هي سبب شائع لنزلات البرد، ولذلك (وعلى الرغم من الـ”سارس”) بدت لنا أشبه بالقطط الأليفة، وليس بالنمور.
اتضح أنني، والعديد من الآخرين، كنا مخطئين بشدة. كان الجنس البشري يلعب لعبة روليت وبائي روسي طوال الوقت. وقد استغرق الأمر “أمنا الطبيعة” وقتاً طويلاً لوضع رصاصة في الحجرة الصحيحة، جامعة معاً بين العدوى العالية، وحاملي المرض الذين لا تظهر عليهم الأعراض، ومعدل وفيات كبير، لكنها فعلتها.
نحن نعلم الآن أنه كان ينبغي أن نراكم استعداداً أكبر لمثل هذا الحدث. كانت منظمة الصحة العالمية نائمة عند التبديل. وقام صندوق “ويلكوم ترست” بعمل جيد بإنشاء “تحالف من أجل ابتكار التأهب للوباء” في العام 2017 بالشراكة مع “مؤسسة غيتس” إلى جانب الحكومتين الهندية والنرويجية، لكن التأهب كان يجب أن يبدأ قبل ذلك بكثير.
في مواجهة العديد من المخاطر، سوف يكون التحوط المنفرد خطأ، ويضر أكثر مما ينفع من خلال منع الابتكار -ولكن ليس في حالة التهديدات التي يمكن أن تنفجر بشكل كبير من بدايات صغيرة. وباستثناء كل من سنغافورة، التي بنت مستشفى خاصاً بعد الـ”سارس”؛ وكوريا الجنوبية، التي استعدت لفحص الأفراد وجمع البيانات على نطاق واسع، لم يفعل العالم سوى أقل القليل للاستعداد لهذا الاحتمال. وكل شيء الآن هو محاولة للاستدراك واللحاق بالركب. ونحن نحاول اللحاق بالعداء الأسرع من الجميع: منحنى يتسارع بمتوالية هندسية.
لقد ازداد عدد الحالات خارج الصين عشرة أضعاف تقريباً كل عشرة أيام. وإذا استمر الارتفاع بهذا المعدل، سوف يصاب بالفيروس 100 مليون شخص في غضون شهرين. وثمة تجربة هائلة تحدث الآن، حيث تجرب بلدان مختلفة استراتيجيات مختلفة، والتي كان البعض منها قد حقق في آسيا نجاحًا ملحوظًا أكثر من مثيلاته في أوروبا. لكن منع الفيروس من اكتساب موطئ قدم دائم في البشر سيتطلب أن تنجح كل واحدة من هذه التجارب.
على المدى الطويل، سوف نتجاوز هذا الوضع. سوف يتم العثور على أدوية فعالة. وستتحسن طرق منع المرضى من الموت. ومن المحتمل أن تتفوق الأشكال الأخف من الفيروس على النسخ الأكثر شراسة منه. وقد ينجح لقاح أيضاً -على الرغم من أن معرفة مدى قلة تقدم اللقاحات في العقود الأخيرة كانت بمثابة صدمة كبيرة. إن علم الجينوميات يسمح لنا بقراءة الجينومات الفيروسية سريعة الانتشار في لمح البصر وتصنيع لقاحات تنقل الحمض النووي الريبوزي؛ حيث يقوم الجسم بتصنيع البروتينات الفيروسية، للتخلص من الحاجة إلى وضع فيروسات مقتولة أو موهنة في الجسم. ومع ذلك، حذرت ورقة علمية فاتتني قراءتها العام الماضي: “إن الوضع الحالي لتطوير اللقاح هو عملية مكلفة وبطيئة وشاقة، تكلف مليارات الدولارات، وتستغرق عقوداً، مع معدل نجاح يبلغ أقل من 10 في المائة”.
يجب أن لا نيأس أو نعود بشكل دائم إلى الاكتفاء الذاتي والمحلية. ومن خلال اتخاذ الاحتياطات الصحيحة، سيكون وجود عالم مفتوح، حر التجارة، وحر التنقل، ومتجددا ومبتكر ومن دون أوبئة، ضرورياً لرفع مستويات المعيشة. ويجب على الحكومة أن تقوم بإنفاق النقود بسخاء والتخلص من العديد من الأشياء التي تفعلها والتي ليست ملحة للتخفيف من المعاناة الإنسانية، وهناك الكثير منها. ولكن، في خضم بؤسنا، دعونا نكن شاكرين لشيء واحد: على النقيض من العديد من الأوبئة، فإن هذا الوباء يدَّخر حياة الأطفال.
المصدر: (ذا سبيكتيتور) / الغد الأردنية