جمال الأتاسي وتحديث الفكر القومي

د- عبد الله تركماني

تشكل الذكرى الحادية والعشرين لرحيل الدكتور جمال الأتاسي مناسبة للتوقف عند ما قدمه، مع الراحلين ياسين الحافظ والياس مرقص، للنظر والعمل العربيين عامة والسوريين خاصة، من أفكار ومواقف تنتمي إلى مفاهيم الحداثة السياسية. خاصة بعد أن أثبتت التجربة الواقعية للمشروع القومي، بعد الانفصال في عام 1961 وهزيمة حزيران 1967، أنّ هناك أزمة فعلية في بنية هذا المشروع. إذ أدرك فقيدنا أنّ العروبة تيار فكري متجذر في المنطقة العربية، يتمحور حول قضايا النهضة والتحديث والتنمية. وقد تجلّى ذلك في نقده لـ ” النزعة الثقافوية ” لتأسيس الدولة القومية، فانتقل من التنظير لـ ” الأمة – الدولة ” إلى ” الدولة – الأمة “.

وقد تمَّ ذلك الانتقال من خلال معالجات معرفية، تحليلية ونقدية، لواقع كل دولة عربية والخروج ببرنامج عمل وطني لإصلاح فسادها وإعادة بنائها. بما يقتضيه التفكيك الواعي للوضعية القائمة المأزومة والشروع في عملية بناء جديدة، بمنطلقات واستشرافات جديدة كذلك. إذ بدت له أهمية تجديد الخطاب النهضوي العربي على قاعدة: أنّ الدولة الوطنية/القطرية الديمقراطية تشكّل أساس دولة الأمة الحديثة.

 ومنذ سنة 1968 احتل مفهوم الدولة الوطنية مكانة هامة في خطابه، باعتبار أنّ تراكم خبرات بناء الدولة الوطنية الحديثة يساعد على إمكانية بلورة رؤية واقعية لكيفيات بناء الدولة القومية الواحدة، عندما تتوفر ظروف قيامها. وقد تجلّى هذا الخطاب في الموقف الرافض الذي اتخذه الراحل من إجراءات حافظ الأسد، بعد انقلابه في عام 1970، وخاصة رفضه انخراط حزب الاتحاد الاشتراكي العربي فيما سمي ” الجبهة الوطنية التقدمية “، وصولاً إلى عمله الدؤوب من أجل بناء تجمع القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة، منذ سنة 1977، والذي تُوّج بإعلان ” التجمع الوطني الديمقراطي ” في أوائل عام 1980، مكوّناً من خمسة أحزاب: حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي ” حزب الشعب الديمقراطي “، حزب العمال الثوري، حزب الاشتراكيين العرب، حزب البعث العربي الديمقراطي. حيث دعا التجمع إلى بناء الدولة السورية الوطنية الديمقراطية الحديثة، دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات. وما تبع ذلك التاريخ من قيادة التجمع لمعارضة نظام حافظ الأسد، بالرغم من الاعتقالات الواسعة التي شملت عدداً كبيراً من قيادات وأعضاء التجمع.

وهكذا، بدا واضحاً لفقيدنا ضرورة تصفية كل ما هو متأخر في الفكر القومي التقليدي، بهدف ربطه بالكونية والتقدم والديمقراطية، لأنّ هذا المضمون يشكل النقطة المركزية   للمسألة القومية. فالخطاب القومي يجب أن يرتفع إلى مستوى التحديات التي تجابهـه، إذ إنّ الوحدة القومية ليست مجرد تجميع لأجزاء العالم العربي، من خلال أزلية الروح الخالد، بل هي محصّلةٌ لسيرورة تاريخية، ثقافية وحضارية، بما يحقق الشرط التاريخي لقيام الدولة القومية الواحدة.

أي أنّ مشروع النهضة العربية كان ولا يزال في حاجة إلى فكر الأنوار والحداثة، وكذلك استيعاب التحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على الساحتين العربية والدولية. ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فالمسألة القومية تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وقد ظهرت رؤية الراحل إلى هذا المشروع في رسالته إلى الاجتماع الرابع للمؤتمر القومي العربي.

إنّ الأمة يجب أن تتجه نحو البحث عن حل تمديني – ديمقراطي، مما يعمّق المحتوى الإنساني والمضمون الديمقراطي للحركة القومية، على مستوى الفكر كما على مستوى الممارسة. ففي مجتمع واسع متعدد الجماعات العرقية والدينية والمذهبية كعالمنا العربي الكبير، لا يمكن لحركته الجامعة إلا أنّ تكون حركة ديمقراطية تعترف بالتنوّع وتُثرى به، وتحترم تعدّد الجماعات المكوِّنة له وتسعى إلى تحقيق التكامل بينها.

   ومن سياقات ما قدمه الراحل جمال الأتاسي، يبدو أنه لا يجوز القفز عن واقع الدولة الوطنية تحت أي عنوان، بما فيه الطموح المشروع إلى دولة قومية واحدة. فالأمة العربية لن تكون أمــــة ” قبائل “، حسب تعبير الراحل الياس مرقص، وإنما أمة دول حديثة تطمح إلى توحيد جهودها للبحث عن مصالحها المشتركة وتعظيمها. إنّ المشكلة الأهم المطروحة أمام الحركة القومية العربية هي بناء الدولة الحديثة، وما يتفرع عنها من أدوات مفاهيمية تنتمي إلى المجال التداولي المعاصر: الأمة، المجتمع المدني، المواطنة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، التعاقد الاجتماعي، الشرعية الدستورية والقانونية، التنوير، العقلانية، العلمانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى