لم يكن التوتر في العلاقات بين واشنطن والرياض التطور الوحيد الذي تزامنت معه جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على ثلاث من الدول الفاعلة في منطقة الخليج العربي، وتزامنت كذلك مع الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية.
وإذ أولت الصحف الروسية في تغطية جولة لافروف اهتماماً خاصاً لتوقيتها على خلفية تصعيد واشنطن نحو الرياض، فإنها لم تنسَ أيضاً أن هذه الجولة تتزامن مع مرور عشر سنوات على الثورة السورية، التي تحولت إلى أزمة قالوا إنها “رسخت مكانة روسيا كقوة عالمية عظمى”، متجاهلين الثمن ومن دفعه عن ذلك.
في حديث لصحيفة “نيزافيسمايا غازيتا” أشار الخبير غريغوري لوكيانوف، كبير أساتذة العلوم السياسية في المدرسة الروسية العليا للاقتصاد، إلى “تغيرات برزت ملامحها في سياسة الولايات المتحدة في علاقاتها مع شركائها التقليديين في منطقة الخليج”. وقال في إشارة إلى جولة لافروف الخليجية، إن “روسيا ستستغل الوضع الذي نشأ على محور العلاقات الأميركية-السعودية، والعلاقات الأميركية مع دول الخليج”.
من جانبها أشارت صحيفة “كوميرسانت” إلى أن جولة لافروف جاءت بعد أسبوعين فقط على إعلان واشنطن عن تغيير المسار تجاه الرياض بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وتحميلها ولي العهد محمد بن سلمان بشكل مباشر المسؤولية عن قتل الصحفي جمال خاشقجي. وقالت إن إدارة بايدن على ما يبدو تتصرف بشكل مختلف عن إدارة ترمب، ومن الواضح أنها لن تحاور بن سلمان، وإنما ستجري الحوار مباشرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز.
وإذ تشير الصحيفة إلى أن “موسكو تؤكد بكل طريقة ممكنة أن الزيارة كانت في الخطط منذ أكثر من شهر ولا علاقة لها بإجراءات الإدارة الأميركية الجديدة”، تقول إن “الاستعدادات للجولة بدأت في الآونة الأخيرة”، ما يعزز القناعة بأن اختيار هذا التوقيت لجولة لافروف لم يكن عن عبث.
المواضيع التي ركز عليها لافروف، لاسيما في الامارات والسعودية، والتي عبرت عنها الخارجية الروسية في بيانات على موقعها الرسمي، تدل بوضوح على أن الهدف كان استغلال الموقف على أمل الانتقال باتفاقات تم التوصل إليها على أعلى مستوى “من الورق إلى التنفيذ”.
مثال على ذلك بيان الخارجية الروسية “حول محادثات وزير الخارجية سيرغي لافروف في الرياض”. إذ كان لافتا أنها خصصت فقراته الأولى للإشارة إلى أنه سيركز على “مهام التنفيذ الفعلي للقرارات التي تم اتخاذها خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرياض في تشرين الأول/أكتوبر 2019”. حينها تم توقيع 20 اتفاقية في شتى المجالات، إلا أنه لا معلومات مؤكدة حول تنفيذ أي من تلك الاتفاقيات، باستثناء استمرار التعاون بين موسكو والرياض في موضوع ضبط أسواق النفط، وهذا تعاون غير ثابت وخاضع لعوامل تأثير خارج ضبط وتحكم العلاقات الثنائية.
ومع اللهجة الإيجابية لتصريحات لافروف ونظرائه في دول الخليج العربي، حول ملفات التعاون الاقتصادي، لم يتم الإعلان فعليا عن اي اتفاقيات جديدة، أو تفاهمات محددة حول الانتقال بالاتفاقيات السابقة من “القول إلى التنفيذ”. وبالتالي وبناء على ما هو مُعلن حتى اللحظة، لا يمكن الحديث عن اختراق حققته جولة لافروف في الشق الاقتصادي. وبالتالي هي تبدو أقرب إلى جولة تريد منها موسكو تأكيد حضورها في المنطقة، والتذكير بأنها قوة عظمى يمكن أن تشكل بديلاً مقبولاً في العالم العربي، والفكرة الرئيسية التي تستند عليها في ذلك هي أنها، وعلى خلاف الولايات المتحدة، لا تتدخل بالشؤون الداخلية للدول، وتتمسك بالتعاون مع أنظمة الحكم وتدعمها، لا تملي عليها قراراتها ولا إرادتها، وإنما تسعى إلى تعاون معها، تحكمه المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة.
الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، التي تزامنت أيضاً مع مرور عشر سنوات على انطلاق ثورة الشعب السوري ضد نظام الحكم الدكتاتوري، كانت بمثابة محاولة لتأكيد نجاح روسيا في تحقيق نقلة نوعية في الشق السياسي من علاقاتها مع دول الخليج العربي، مستفيدة بصورة رئيسية من انخراطها في الأزمة السورية، ومستغلة انكفاء المشاركة الفعالة للاعبين الدوليين الآخرين في تلك الأزمة.
وكان الخبير السياسي المعروف فيودور لوكيانوف، كتب مقالاً حول السنوية العاشرة للثورة السورية، قال فيه: “في سوريا تحديداً تم ترسيخ مكانة روسيا كقوة عالمية عظمى، يُحسب لها حساب”. إلا أنه لم يُشِر كيف رسخت سوريا تلك المكانة لروسيا، وتجاهل أن هذا كان نتيجة تدخل عسكري عنيف، وقصف مستمر طال الحجر والبشر وتسبب بسقوط آلاف القتلى فضلا عن دمار واسع في المدن التي هبت بوجه الأسد.
وحول ما جنته روسيا لمكانتها ونفوذها عبر التدخل في سوريا، وكيف جاءت جولة لافروف الأخيرة لتؤكد على تلك النتائج، يشير لوكيانوف في مقاله إلى تراجع الدورين الأميركي والأوروبي، مقابل صعود الدور الروسي في سوريا، وعبر التدخل العسكري فيها، ويقول إن “التغيير في التوازن الجيوسياسي (كنتيجة للتحولات في المواقف من الوضع في سوريا) أثّر بطبيعة الحال على الفرص الاقتصادية، ومثال على ذلك لم يكن ممكناً التوصل إلى اتفاق بصيغة “أوبك+” لو لم تكن السعودية مقتنعة بقدرة روسيا على تغيير الوضع في المنطقة”، ويضيف أن “وزير الخارجية الروسي الذي يقوم بجولة في الخليج العربي هو أكثر من ضيف مرحب به، بينما كان موقف تلك الدول تجاه روسيا قبل عشر سنوات، إن لم يكن معاديا، يمكن وصفه أنه غير مبالٍ”.
واضح للجميع الآن أن روسيا حاليا ليست نفسها التي كانت قبل عقد من الزمن، وأنها أصبحت اليوم لاعباً رئيسياً في شؤون المنطقة، وأن فرصها أفضل في المرحلة الراهنة لجهة إقامة علاقات تعاون تجاري-اقتصادي بصيغة منفعية، لا تشبه طبيعة ذلك التعاون في الحقبة السوفياتية. إلا أن هذا كله قد لا يتعدى كونه ظاهرة مؤقتة، أو “أوهام” نجاحات.
ومثلما كان الانكفاء الأميركي في الشأن السوري، وتقلبات السياسة الأميركية نحو الوضع في منطقة الخليج العربي، وعلاقاتها مع دوله، أسباباً رئيسية سمحت ب”ترسيخ مكانة روسيا كلاعب مؤثر إقليمياً”، فإن أي تغيرات جديدة في السياسة الأميركية قد تجعل من تلك النجاحات أقرب إلى العدم، طالما لم نشهد تغييراً في جوهر التحالفات الاستراتيجية لدول المنطقة مع القوى الكبرى.
المصدر: المدن