تعود سورية إلى مرحلة ما قبل الدولة، وتذهب جميع المؤشرات، منذ بداية الثورة مروراً بسنواتها الطويلة، إلى تمترس أبنائها خلف عشائرهم المتناثرة على طول الجغرافيا السورية، في ظلّ اختفاء دولة القانون القوية. كذلك تعمل أطراف الصراع، من النظام والمعارضة، وما بينهما من مجموعات مسلحة، كردية وإسلامية وغيرها، وحتى من الإرهابيين الذين سيطروا لوقت على أجزاء من البلاد، على استمالة العشائر لصفّهم. لكن هذا الواقع، والذي خلق تشظياً مجتمعياً متعدد الأوجه، له تراكمات عدة، من أبرزها ما عمل عليه رأس النظام الأول، حافظ الأسد، وما يستعيده ابنه بشار اليوم، في سعيه الجديد للبقاء في السلطة. ويُعرّض كلّ ذلك سورية إلى خطر الذهاب إلى ما يشبه “العصر الجاهلي”، ضمن سيرورة تاريخية تعاكس المفهوم الصحيح لتقدّم الدولة.
وتتوزع في أغلب المحافظات السورية، ولا سيما الشرقية، العديد من القبائل والعشائر، أكثرها عدداً: النعيم، والموالي، والبكارة، والعكيدات، والجبور، وبنو خالد، وغيرها. ويتفرع عن القبائل والعشائر بطون وأفخاذ متعددة، وضمن امتداد قبائلي واسع، وتمتد بعض القبائل السورية إلى دول محيطة، وحتى الخليج، فيما تُعد قبائل أخرى امتداداً لقبائل في دول خليجية والعراق.
وبعد تصاعد حدة الأزمة في سورية، سعت تلك القبائل والعشائر التقليدية إلى الانخراط في المشاريع السياسية، بهدف حجز مكان لها ضمن التركيبة المستقبلية، في ظل اعتقاد بتهميش دورها طوال الفترة الماضية. وعلى الرغم من الدور الإيجابي الذي تؤديه العشيرة بكونها تؤمن نوعاً من التضامن الاجتماعي بين أبنائها على مستويات مختلفة في الكثير من الأحيان، إلا أن هناك نواحيَ سلبية قد ينتجها هذا التضامن الذي قد يؤدي إلى التعصب، ومن ثم التنافس، وبالتالي الدخول في دوامة المعارك والصراعات.
الأسد الأب وعصبية ابن خلدون
مثّل صعود حافظ الأسد إلى هرم السلطة في سورية نهاية ستينيات القرن الماضي بداية عودة العصبية المتجانسة إلى سورية، والتي تقبض على الحكم في سبيل الحفاظ على ديمومته واستمراره. وعمد الأسد الأب إلى تعزيز تلك العصبية تدريجياً، طوال فترة حكمه، بعدما جعل البلاد ترزح تحت رحمة القبضة الأمنية، وحيث اختبأ وراء ستار حزب “البعث”، مُركزاً بيده كافة السلطات التنفيذية والقضائية، وفارضاً رقابة أمنية كبيرة على السلطة التشريعية التي أفسدها وعبث بهيكليتها، عبر إيصال من كان راضياً عنهم إلى مجلس الشعب (البرلمان).
وبنى حافظ الأسد عصبيةً تعتمد بشكل رئيسي على شخصيات من عشيرته (آل الأسد)، مقدّماً إياهم لترؤس الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية الأهم داخل الجيش. أما اجتماعياً، فجعل الأسد الأب من تلك العشيرة، الصغيرة وغير المتماسكة أساساً، تتقدم لتقود باقي العشائر العلوية في سورية.
هكذا، عاد الأسد ليطبق في سورية نظرية “العصبية الاجتماعية الخلدونية” ليُحكم قبضته على الحكم. لكن تطبيق هذه النظرية يأتي اليوم في زمان مختلف، وفي مكان غير مكانها، إذ تصلح عصبية ابن خلدون للدولة الناشئة في المجتمع الإسلامي، أي في مرحلة صعودها، وهي أساساً عامل تهديد لانهيار الدولة في حال تضعضعها. تلك العصبية لم تعد تصلح للحكم في دولة مثل سورية، عرفت الحضارة وتدرّجت ضمن السيرورة التاريخية الطبيعية للانتقال إلى “الدولة”، التي تأسست في مطلع عشرينيات القرن الماضي. أي أن الأسد الأب قد عاد إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة، ومعتمداً على معايير بالية جداً لبناء الدولة، ولا تتناسب مع العصر الحالي.
نظام بشار… تابع
اليوم، يهدّد الواقع الحالي لسورية، والذي فرضته ظروف الثورة في هذا البلد، وتعامل نظام بشار الأسد الأمني والقمعي معها، بالإضافة إلى طول أمدها دون أن تلوح لها في الأفق أي حلول، بخطرٍ قد يذهب أبعد من إعادة سورية لما قبل الحداثة، بل هو يهددها بالعودة إلى مرحلة “ما قبل الدولة”. ويلوح هذا الخطر، بعدما باتت جميع أطراف الصراع السوري، من النظام إلى المعارضة، وحتى الأطراف الأخرى المسيطرة بحكم الأمر الواقع على البلاد، تلجأ إلى استنهاض العصبية العشائرية، والتمترس خلفها، سواءً في مواجهة بعضها البعض، أو حتى في المواجهات والمنافسة داخل تلك الأطراف ذاتها، مع اختلاف الأساليب المتبعة.
وخلال الأعوام القليلة الماضية، ذهب نظام بشار الأسد نحو بعض العشائر في سورية، لكي يُكوّن من أبنائها مليشيات تساند قواته التي أنهكتها حربه طوال عقد من الزمن. ومقابل ذلك، كافأ الأسد زعماء تلك العشائر، والنافذين فيها، بأدوار اقتصادية وعسكرية، وحتى سياسية ومجتمعية. وأخيراً، برزت محاولة رأس النظام الاعتماد على الدور العشائري، في التمهيد لإعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة خلال الانتخابات المقبلة المزمع إجراؤها منتصف العام الحالي. وفي هذا السياق، حرّك الأسد الابن مقربين منه من زعماء العشائر، لكي يبدأوا بحشد العشائر المنتشرة في مناطق نفوذه، من أجل مساندته في الانتخابات. وفي مسعاه هذا، يحاول رأس النظام أيضاً، اللعب على النفوذ العائلي والطبقي في المناطق التي لا تصبغها العشائرية بالمطلق، بل تغلب عليها صبغة الزعامات العائلية والمرجعيات الدينية والوجاهية، كمحافظة السويداء.
المعارضة والأكراد على الخطّ ذاته
في الطرف الآخر، أي في مقلب المعارضة، تمكّنت العشائرية من احتلال حيّز كبير من المؤسسات، لا سيما السياسية والعسكرية منها، حيث باتت المحاصصة داخل تلك المؤسسات والأجهزة تحسب حساباً للمكون العشائري داخلها. وتعدى الأمر ذلك، لولادة أجسام ذات صبغة عشائرية خالصة، أصبحت تملك حضوراً في المجتمع المناصر للثورة السورية، بغضّ النظر عن مدى فاعليتها. وعملت تلك الأجسام على توسيع قاعدتها، بضمّ كل تجمع مجتمعي يحمل صبغة عشائرية. فعلى الرغم من الأكثرية العربية في تلك الأجسام، إلا أن العشائر الكردية والتركمانية والمسيحية جرى تمثيلها أيضاً داخلها، وإن حصل ذلك بنسب ضعيفة، مقارنة مع العشائر العربية.
وفي شمال شرقي سورية، لم تجد “الإدارة الذاتية” الكردية، التي أحكمت قبضتها على مساحات واسعة في المنطقة، بقيادة “حزب الاتحاد الديمقراطي”، وسطوة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، ومكونها الرئيسي “وحدات حماية الشعب”، والتي تتخذ من العلمانية واليسار منهجاً لها، مفراً من اللجوء إلى العشائر لاستمالتها. وتعد منطقة شرقي سورية، البقعة الجغرافية الأكثر احتواءً للعشائر العربية وغيرها. هكذا بات للعشائر حضور داخل “قسد”، حيث يحقق أبناء العشائر المنضوون في تلك القوات مكاسب لجهة تنظيم حمايتهم والحفاظ على دورهم العسكري، بالإضافة للمنفعة المادية، على الرغم من أن التأثير واتخاذ القرار يبقى محصوراً بيد العناصر الكردية. وأخذت القيادة الكردية أخيراً، تستميل العشائر في المنطقة، من خلال شيوخها وزعاماتها، وذلك لأسباب عدة، من أهمها منحهم دوراً، ولو رمزياً، وإشراكهم في حكم المنطقة، لنفي تحكّم الأقلية (الكردية) بالأكثرية، ومنع أو إبعاد انتفاضة عشائرية بوجه الإدارة الكردية وذراعها العسكرية. كذلك تهدف الخطة إلى زجّ العشائر وأبنائها في الخندق الكردي، لمواجهة تركيا وحلفائها في المعارضة، ولمواجهة النظام وقواته أيضاً.
وبما أن السيرورة التاريخية لبناء الدول، تبدأ بالانتقال من العشيرة أو القبيلة إلى القرية، ثم إلى المدينة فالدولة، يمكن القول اليوم إن الوضع في سورية بات معاكساً لهذه السيرورة، من خلال العودة إلى العشيرة، مع اختفاء دور الدولة بالمطلق. ويأتي ذلك، في ظلّ واقع عسكري وتدخلات إقليمية معقدة، تعزز هذه الظاهرة، بانتظار حلّ سياسي شامل في البلاد، قد يُمكّن من الانطلاق لإصلاح هذا الخطر القائم، والمهدد لوحدة البلاد وتماسكها في المستقبل.
اللاعشائريون مقابل القبلية
وأمام كلّ ذلك، يقف اللاعشائريون في موقع المتفرج على هذا المشهد المعقد. وعلى الرغم من أن لا إحصائية رسمية تحدد نسبة عدد أبناء العشائر من مجمل سُكّان البلاد، إلا أن الإحصاءات التقديرية تشير إلى أن نصف سُكّان ينتمون إلى أكثر من 50 قبيلة وعشيرة منتشرة في أنحاء البلاد، ما يعني أن النصف الآخر غير عشائري، ولا يعنيهم هذا الانتماء بالمطلق. وهؤلاء يعيشون خصوصاً في مدن المحافظات الداخلية، مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب واللاذقية، دون أريافها طبعاً، وهم مُدركون أن لا منقذ لهم ولدورهم، سوى الدولة المدنية، التي تنتفي في ظلّ وجودها كل الانتماءات الأخرى، الدينية والعرقية والاجتماعية.
وبخلاف الإحصاءات المتاحة، يشير الشيخ مضر حماد الأسعد، المتحدث باسم “مجلس القبائل والعشائر السورية”، الذي تأسس في عام 2018 شمالي حلب، والموالي للمعارضة، والذي استند إلى جهود “المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية” المؤسس منذ 2013، إلى أن العشائر والقبائل السورية تمثل أكثر من 80 في المائة من بنية المجتمع السوري. ويرى الأسعد أنه لهذا السبب، فإن أطراف الصراع تلتف حول العشائر لكسب ودّها، ولأن هذه العشائر، العربية وغيرها، والقبائل الكردية والسريانية والدرزية والجيجانية (شركسية) والتركمانية، تنتشر على كافة الجغرافيا السورية، لكن انتشارها تركز شرقي البلاد، حيث الثروة الزراعية والنفطية”.
ويرى الأسعد، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن القبائل السورية “تمثل منذ تشكيل الدولة السورية في عشرينيات القرن الماضي الأساس في بنية المجتمع السوري، وهي لا تزال تعلب دورها في التكوين السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد حتى اليوم”. لكنه المتحدث باسم “مجلس القبائل والعشائر السورية” يوضح أنه “بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، تمّ تهميش دور القبائل والعشائر وإبعادها عن الحياة السياسية، من خلال محاربتها اقتصادياً بعد صدور قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم”. ويلفت في هذا الإطار إلى أن قانون التأميم “كان من شأنه تفتيت الملكيات الزراعية، والتي تضررت من خلالها مئات المصانع والمنشآت التجارية والصناعية، التي كان يملكها أو يقف وراءها شيوخ عشائر من أبناء المدن”. ويرى الأسعد أن “وصول حافظ الأسد إلى السلطة زاد بدوره في تهميش دور العشائر، إذ عمد الأخير إلى التدخل في تركيبة مجلس الشعب (البرلمان)، من خلال تعيين أعضائه عبر الحزب أو الأفرع الأمنية، ما حرم شيوخ العشائر من الوصول إلى المجلس رغم دعم أبناء عشائرهم على كثرتهم”.
وحول الواقع الحالي، يرى الأسعد أنه “عندما تضعف الدولة، يصعد دور العصبية القبلية، لتملأ العشيرة أو القبيلة الفراغ، وعلى العكس، فإن الحكومات في الدول المستقرة والمتقدمة، تُضعف دور القبائل وشيوخها”. أما في الحالة السورية، فيعتبر أن “العشيرة أصبحت هي الأقوى، لكونها الملجأ الآمن لأبنائها أو للسكان في ظلّ عدم وجود حكومة مركزية قوية، تستطيع أن تدير زمام الأمور السياسية والعسكرية والأمنية”. ويبين الأسعد أن النظام وحلفاءه بشكل خاص، ومعهم النفوذ الأميركي في البلاد، يعملون على تفتيت العشائر والقبائل من خلال سياسة تجزئة المُجّزأ في عموم البلاد، ومن خلال سياسة فرّق تسد، داخل القبائل نفسها لسهولة السيطرة على الجغرافية والسكان. ويشير المتحدث باسم “مجلس القبائل والعشائر السورية”، في هذا الإطار، إلى أنه “من الملاحظ خلال الأعوام الثلاثة الماضية ارتفعت حدّة العصبية القبلية وشهدت العديد من المناطق السورية نزاعات وحروب قبلية، بسبب توزع الولاءات العشائرية بين أطراف الصراع، وحتى داخل العشيرة ذاتها، طفت صراعات إلى السطح، كون الكثير من العشائر منقسمة في ولائها بين الأطراف المتحاربة”.
ويؤكد الأسعد أن استنهاض دور العشائر والقبائل السورية بشكل إيجابي كان هدف “مجلس القبائل والعشائر السورية” الذي يتحدث باسمه، وكذلك خلق تكتل عشائري – قبلي داخل أجسام الثورة والمعارضة. ويوضح في هذا الصدد: “نعمل على توحيد رؤية وهدف جميع العشائر والقبائل السورية، وتعزيز ثقافة السلم الأهلي والمجتمعي”، مشيراً إلى وصولهم إلى نتائج إيجابية في هذا الإطار، داخل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام و”قسد”، حيث “أخذت القبيلة دورها كوحدة متكاملة مع غيرها من القبائل، ما جعل لتجمع القبائل دوراً إيجابياً في مؤسسات المعارضة، أو إلى جانبها”.
بناء الدولة ممكن؟
من جهته، يرى الباحث في العلوم الاجتماعية والاجتماع السياسي، في “مركز حرمون للدراسات المعاصرة”، طلال مصطفى، أن “العشائرية في سورية كان لها تاريخياً بنى اجتماعية انتمائية تقليدية تعود إلى ما قبل الدولة المعاصرة (دولة القانون)، وقد استمر وجودها منذ الاستقلال وحتى اليوم”. ويلفت مصطفى إلى أن “حافظ الأسد قد يكون قوّض هذا الدور إلى حدّ ما سياسياً من خلال الاعتماد على شخصيات عشائرية هشّة على الصعيد الشخصي، وفي وسطها العشائري، والتي مثلّته في مجلس الشعب وفي بعض الوظائف المحلية الرسمية كتمثيل شكلي غير فاعل، الى جانب التمثيل السياسي لما يسمى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، والتي كان يظهرها إعلامياً عند الحاجة السياسية إليها، ويخفيها عند الضرورة أيضاً”.
ويشير مصطفى في حديث لـ”العربي الجديد” إلى أن “البنى الاجتماعية التقليدية (العائلة، العشيرة، الطائفة… إلخ)، تبرز عادةً في مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، وخصوصاً تلك التي تحصل فيها اضطرابات اجتماعية وحروب أهلية، حيث يضطر المواطن للبحث عن بنى اجتماعية تحميه أمنياً واجتماعياً، وحتى معيشياً، في حالة تنحي مؤسسات الدولة عن القيام بوظائفها”. ولهذا السبب، يرى الباحث أنه “في فترة الحرب السورية التي شنّها النظام على السوريين، إثر ثورة 2011 ومن ثم اتساعها لتصبح حرباً سورية إقليمية دولية، برزت البنى الاجتماعية التقليدية، ومنها العشائرية في سورية، وخصوصاً في المنطقة الشمالية والشرقية (دير الزور، الحسكة، الرقة، ريف حلب) بداية، وذلك بسبب الفراغ الذي ظهر نتيجة توقف مؤسسات الدولة عن العمل، وأهمها المؤسسات القضائية”. وبرأيه، فإن ما زاد هذا التوجه “فشل المعارضة السورية في إيجاد مؤسسات محلية بديلة، تقدم الخدمات الضرورية للمواطنين، ومع ازدياد وتيرة الانتهاكات الأمنية والعسكرية من قبل النظام ومليشيات قسد التابعة، وكذلك من قبل التنظيمات الراديكالية مثل داعش وجبهة النصرة وغيرها، الأمر الذي دفع بالتنظيمات العشائرية للبروز، وبالتالي التفكير بلعب دور بارز وفعّال في الأحداث العسكرية والسياسية الجارية”.
ويشدد مصطفى أيضاً على “الفشل السياسي الكبير للقوى السياسية، سواء أكان النظام أو المعارضة السياسية بتلاوينها المتعددة في المحافظات ذات الطابع العشائري، في جذب أبناء العشائر بناء على برامجها السياسية، بل هي اتجهت لكسب هذه العشائر بناء على مصالح شخصية وآنية، من خلال تمثيلها في الهيئات السياسية التابعة لها”. ولذلك، بحسب الباحث، “فقد وجدنا العديد من المجالس والهيئات العشائرية التي ولدت خلال سنوات الحرب، وتعددت انتماءاتها بين النظام وحليفه الإيراني والمعارضة السورية وكذلك قسد… إلخ، ما دفع بهذه البنى العشائرية للمزيد من التشظي الاجتماعي والسياسي، وأيضاً التشظي الديني، حيث ذهبت بعض العشائر باتجاه التشيع مثلاً، وهنا مكمن الخطورة في هذه الانقسامات التي تحدث على خلفية عشائرية، وليست فردية كما حصل في المدن السورية”.
أما الحلّ لهذا الانقسام والتشظي العشائري، فيكون، بحسب مصطفى، “من خلال بناء دولة القانون والمواطنة، ما يستوجب أن تتعامل معه المعارضة بناء على برامجها السياسية لسورية المستقبل، وليس بناء على كسب هذه العشيرة أو تلك من خلال تمثيلها في هيئاتها السياسية”. لكن ذلك لا يمنع، كما يستطرد الباحث، “إمكانية الاستفادة إيجابياً من هذه البنى الاجتماعية التقليدية، أي العشائر، في الحلول السياسية في المناطق التي تشهد صراعات عسكرية محلية، من خلال إيجاد آليات محلية للمصالحات، وخصوصاً في المرحلة الانتقالية من بناء دولة القانون والمواطنة مستقبلاً”.
ويفضل الكاتب والأديب السوري نجم الدين سمّان، من جهته، الدفاع عن اللاعشائريين، لكونه واحداً منهم، مطلقاً عليهم مسمى “التيار الثالث”. ويرى سمّان في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “هذا التيار لم يتبلور بعد في شرقنا، حيث تتداخل البنى الاجتماعية في خليط عجيب يصطف في خندقين: تيار العسكر وفاسديه، وتيار لحى سماسرة الدنيا والدين”. وبرأيه، فإنه “عندما يتفق التياران على وأد كل انتفاضة شعبية ضدهما، يرتدّ كثيرون نحو نزعاتهم الدينية والمذهبية والمناطقية والعشائرية، حيث يتبدّى على نحوٍ فجٍ التمييز بين الريف والمدينة وبين كل مدينتين، بل بين كلّ حارتين في مدينة واحدة، وحتى بين كل عائلتين وعشيرتين”. ويشرح الكاتب أنه “في ظلّ غياب دولة مدنية ديمقراطية، يتساوى فيها جميع مواطنيها، من السهل الانكفاء نحو الهويّات الضيقة التي ذكرناها، حيث لا ملاذ للمواطن في غياب العدالة والمساواة سوى عائلته أو عشيرته أو طائفته”.
أما “التيار الثالث”، وهم اللاعشائريون واللاطائفيون، فيشير إليهم سمّان بأنهم “نخبة متناثرة”، مضيفاً أن “تأثيرهم ضئيلٌ بين الناس، إذ يحشد الديكتاتور حوله بطانته وجلّاديه ومُناصريه، ويحشد الشيخ مريديه؛ وشيخ العشيرة أبناء عشيرته، كما لو أننا نعيش قبل آلاف السنين، وفي مرحلة ما قبل الدولة”.
ويشير سمّان إلى أنه “بعد ثورات العربي، وعلى الرغم من تآمر الجميع لوأدها، فإن التربة باتت مهيّأةً أكثر للعمل على إقامة مجتمعات جديدة خارج ثنائية العسكر ورجال الدين، وخارج ثنائية الطائفة والعشيرة، لكن ذلك يحتاج إلى وقت طويل وإلى كفاح مدني من نوع جديد، تقوم به النخبة المتنورة”. وفي هذا الإطار، يقدم الكاتب الغرب كمثال، حيث مَهَّد الكثير من الفلاسفة والأدباء لمجتمع جديد، قبل عقودٍ من تبلوره، وذلك في مؤلفات جان – جاك روسو مثلاً عن المجتمع المدني، وقبل عقود من تبلوره في الدساتير والقوانين وفي شرعة حقوق الإنسان. وفي مجتمعات “شرقستان” كما يسميها، يرى سمّان إلى “أننا قد نحتاج لعقود حتى تتبلور هذه المفاهيم في مجتمعاتنا المنكوبة بطغاتها وبغزاتها على التوالي”. ومع ذلك، فإن برأيه “لا شيئاً مستحيلاً، فقد تستبق ثورات الناس الأفكار، تماماً كما فاجأ الربيع العربي الكثير من المفكرين”.
المصدر: العربي الجديد