انشغلت الساحة السياسية السورية في الأيام الأخيرة بفكرة تشكيل ” مجلس عسكري ” يضم نخبة من الضباط المنشقين، يرأسهم العميد مناف طلاس المقيم بالعاصمة الفرنسية منذ عام 2012. وقيل استطرادا إن الاعلان عن المبادرة سيجري من موسكو، مما يعني موافقة روسيا سلفا، ويعني أيضا وجود تفاهم أميركي – روسي على صيغة حل، ما دفع كثيرين من أبناء شعبنا المنهك للشعور بالتفاؤل بقرب إيجاد حل سياسي، حتى ولو كان أقل من طموحاتهم، وذلك تحت تأثير المعاناة القاسية وانسداد الأفق السياسي المستمر منذ سنوات.
والملاحظ أنه رغم قوة الضجيج الاعلامي المصاحب لطرح الفكرة فإن (البطل أو المخلص المنتظر) يمارس سياسة الغموض المتعمد، فهو قليل الكلام، ونادر الظهور على وسائل الاعلام، وترك لعدد من أصدقائه نقل بعض تصريحاته ومواقفه بشأن المبادرة المطروحة، فهو ليس صامتا، وليس ظاهرا ولا واضحا رسميا. والأهم من ذلك أن الدول المعنية بالمبادرة لم يصدر عنها أي موقف واضح، لا سلبي ولا ايجابي، وكأن الأمر لا يعنيها.
لكل ما سبق، يبدو الأمر حتى الآن أشبه بقنبلة دخانية، أو مبادرة خلبية. ربما كان هدفها جس نبض الشارع السوري عموما، وقوى الثورة والمعارضة خصوصا. وربما تكون الدول أو الأطراف التي تقف خلف العملية قد استعملت العميد طلاس بدون سوء نية منه، لأنها تريد استفتاء الشارع عليه بالذات، لمعرفة مدى تجاوبه، وحجم التأييد الشعبي له، وللمبادرة ذاتها، والتي ما زالت رزمة مغلقة ومغلفة بورق جذاب، لا أحد يعلم شيئا عن محتواها. وهل هي لعبة من ألاعيب العدو الروسي الذي سبق أن كرر الاعيبه على مدى السنوات العشر السابقة؟، وهل هي وصفة علاج، أم طبخة حصى لا تسمن ولا تغني من جوع …؟
لقد أثبتت تجاربنا مع الروس بعد ثورة 2011 أنهم لن يتخلوا عن وكيلهم في دمشق، لأن بقاءه في السلطة يضمن بقاء مصالحهم الاستراتيجية في سورية والمنطقة. وأثبتت التجارب أنهم مخادعون وكذوبون دأبوا على إطلاق تصريحات أو مبادرات خلبية (مسارات آستانا وسوتشي والدستور.. إلخ) لتضليل السوريين وإيهام العالم، بأنهم يعملون لتحقيق الحل السياسي وفق بيان جنيف، وقرار مجلس الأمن الدولي 2254، إلا أنهم عملوا دائما على فرض الحل العسكري، وارتكبوا أبشع المجازر في حلب والغوطة وادلب ودرعا.. إلخ.
وقال الروس منذ عام 2012 أن أولويتهم هي الحفاظ على الدولة السورية، لا الحفاظ على الأسد، ولكن العكس هو ما حدث عمليا، وترجموا ذلك بوضوح من خلال حمايته من أي قرار دولي، يطاله أو يحد من سلطته، فضلا عن سعيهم المتكرر لدى الدول العربية والأوروبية لإعادة تطبيع العلاقات معه، ومع نظامه. وفي عام 2014 عندما أجرى مهزلة الانتخابات الرئاسية ليجدد لنفسه ، دافع الروس عنه ، وقالوا للدول الأخرى ( من حقه أن يكمل هذه الدورة الى نهايتها ، ولكن نتعهد أن تكون آخر مرة يترشح فيها) وها هم يجددون دعمه في انتخاباته المقررة في الربيع المقبل ، إذ أن ممثل الرئيس بوتين الشخصي الكسندر لافرينتتيف هو أول من أعلن عن الانتخابات الجديدة اثر زيارة سرية لدمشق ، قبل أن يعلن عنها فيصل مقداد وزير خارجة الأسد ، مما يوحي بأن الروس هم من يريدون استمراره ويخشون سقوطه، وهو أمر مفهوم طالما أن مصالحهم تعتمد على وجوده شخصيا ، مثله مثل ايران أيضا .
ويبدو أن الروس منشغلون حاليا بتمرير مسرحية الانتخابات الرئاسية، بأقل قدر من الرفض والاحتجاج الشعبي السوري، والاستنكار الدولي، كما يبدو أن همروجة المجلس العسكري برئاسة مناف طلاس تندرج في سياق التحرك الروسي لامتصاص غضب الشعب السوري. إذ أن التصريح الوحيد الذي صدر عنهم رهن الموافقة على فكرة ” المجلس ” بحصول الانتخابات الرئاسية، وقالوا إن الأسد بعد الانتخابات سيمنح موافقته على تشكيل المجلس، ويطلق عنان تنفيذه، وهذا ما يعني أيضا أن المجلس سيكون مؤسسة من مؤسسات النظام، لا مؤسسة تدير شؤون البلاد بعد خروج أو اخراج الأسد من السلطة، وهو ما يفرغ فكرة المجلس من أي محتوى ذي معنى!!
وتؤكد التجارب أن كافة مبادرات الروس مهما تعددت سيناريوهاتها، تتشابه في النتيجة والمحتوى والغاية، فهي تتكئ على ملف من ملفات المحنة السورية، وسرعان ما تتحول الى وسيلة لكسب الاعتراف بشرعية السفاح، ولنا في مبادرتهم الميتة لإعادة المهجرين، وإعادة الاعمار مثل واضح على طريقتهم هذه، فهي اتكأت على ملفات انسانية ملحة، لكن هدفها الحقيقي هو تحطيم أسوار العزلة الدولية حول المجرم، ولذلك انتهت دائما الى الفشل الذريع، لأن العالم كله رفضها، بعد أن أدرك أغراضها الحقيقية المخفية خلف عناوين براقة.
نحن نرى اليوم مشهدا غريبا يتمثل في أن بعض نخبتنا المعارضة، ما زالوا يصدقون أكاذيب الروس، ويسمحون لها أن تنطلي عليهم، بمحض رضاهم، ولسبب غير مفهوم، الأمر الذي يساعد الروس والأسد والايرانيين على تحقيق أهدافهم، وإطالة معاناة شعبنا المنكوب عاما بعد عام.
إننا نعتقد أن فكرة “المجلس العسكري” المتداولة حاليا كانت فكرة وطنية مفيدة موجهة لقيادة البلاد بعد سقوط الأسد أو تجريده من سلطاته وبدء المرحلة الانتقالية، لكن الروس استولوا عليها، وحولوها لعبة جديدة، لتمديد عمر النظام، وتجديد شرعيته الأسد الباطلة أصلا، في المزاوجة بينها وبين خطتهم لتمرير الانتخابات، واستغلال اسم مناف ومقبوليته لدى الدول العربية والغربية لبلوغ غرضهم. وهو استغلال مؤقت، لأن الروس سيتخلصون منها بمجرد انتهاء مسرحية الانتخابات والتمديد للسفاح سبع سنوات عجاف إضافية.
لا بد من القول إن الطرف المخدوع في هذه العملية هو الغالبية الشعبية التي استقبلت الفكرة بتفاؤل نتيجة معاناتها القاسية أولا، ولأنها تحمل اسم مناف، دون أن تعي أبعاد استغلالها من الروس. أما الطرف الثالث، أي النخب التي سارعت الى تسويق الفكرة، فهي خانت وعيها وذكاءها، ودورها الطليعي المفترض، وتخلت عن قاعدتها المجتمعية، لذلك يتعين عليها أن تراجع مباركتها المتسرعة للفكرة، وتحذر السوريين منها.
على أي حال غدا سيذوب الثلج، ويظهر المرج!
روسيا دولة احتلال و هي جزء من المشكلة ولا يمكن أن تكون جزءا من اي حل
من طرح قضية المجلس العسكري الانتقالي هو الدكتور كمال اللبواني في إطار تنفيذ قرار جنيف 2254، ولا علاقة لموسكو به.. وهذا المجلس هو بند من بنود قرار جنيف المذكور.
اللغط الدائر حول الموضوع تسببت به مقالة كاذبة نشرتها جريدة الشرق الأوسط يدعي فيها الكاتب ابراهيم الحميدي ملكيته لوثيقة ادعى فيها أن منصتا موسكو والقاهرة قد تقدمتا بعريضة خطية لموسكو تطالبان فيها بإنشاء مجلس عسكري لكن كل من قدري جميل وخالد المحاميد نفيا الخبر، فتراجعت الجريدة عن ذلك الادعاء الكاذب بصفاقة قل نظيرها.
من هذا المقال يتضح أن هنالك تخبطاً في فهم مسألة المجلس العسكري لدى السوريين حتى بين المثقفين، وأن هنالك من يحاول بلبلة الموقف من قضية المجلس العسكري التي طرحها الدكتور اللبواني وتشويه صورتها على أنها تعيد إنتاج النظام العسكري أو أنها لعبة جديدة من ألاعيب موسكو بمصير الشعب السوري.
راجع فيديوهات الدكتور كمال اللبواني لفهم أطروحته حول المجلس العسكري الانتقالي.