حتى الآن لم تحقق معظم ثورات الربيع العربي، في موجاتها المتعددة، طموحاتها الوطنية الكبرى التي حفزت أبناءها للخروج الى شوارع العواصم والمدن العربية، بدءً من تونس وصولًا إلى لبنان والعراق.
بعضها غرق في بحور الدم والصراعات الطائفية والمذهبية، كما في حالات سورية واليمن وليبيا، وبعضها انتكست، وعاد مجتمعها إلى حالة من الاستنقاع أسوأ بدرجات عما كان عليه قبل هبوب نسائم الربيع العربي، كما في حالة مصر، وبعضها ما يزال يعيش مخاضًا عسيرًا لإقرار قواعد ونواظم الدولة الحديثة، دولة القانون والمساوة والعدالة والمواطنة، دون استئثار، أو هيمنة، كما في حالة تونس، التي ساعدتها ظروفها وعوامل مختلفة من النجاة، حتى الآن، مما انزلقت إليه شقيقاتها في دول الربيع العربي.
كما أن بعض هذه الثورات حققت وتحقق نجاحات أساسية، كما في حالتي السودان والجزائر، وبعضها أطلق عليها تجاوزًا صفة الثورات وهي لا تعدو أن تكون هبات وانتفاضات مطلبية، تفتقد للتنظيم والبرامج.
إزاء هذا المشهد أصيبت قطاعات واسعة من أبناء الثورات والمؤمنين بها والمنتفعين منها بإحباطات مريرة، دفعت البعض لليأس والقنوط، والتراجع تحت إحساس الخذلان والشعور بالخيبة والعجز، وولد شعورًا بالندم، وجعله يقول ليتها لم تكن، ولا شك أن في ذلك تجاوزاً وبغياً على منطق التاريخ وثوراته الكبرى والجذرية، إذ إن ثورات بحجم ثورات الربيع العربي في أهدافها وغاياتها وتحدياتها، لم يكن من المقدر لها أن تنتهي بالضربة القاضية، وسقوط أنظمة وعروش، خلال فترات قياسية وتحقق ما تطلعت، إليه في مراحل انتقالية سريعة، لأنها في مضامينها أعمق من ذلك بكثير جدًا، ولأنها ببساطة تواجه في الوقت عينه تحديات بنية مجتمعية متخلفة، ومشاريع خارجية كبرى، بعضها مستجد وطارئ، إضافة للمشاريع التقليدية، المتعلقة بالهيمنة والسيطرة، والاستغلال والعدوان.
إننا لا نحيل كل ما آلت إليه مصائر ثورات الربيع العربي لعوامل “المؤامرة الخارجية” وإن كانت حاضرة بقوة، كما ذكرنا، وتبقى العوامل الداخلية والتاريخية حاسمة في تقرير مصير هذه الثورات ومستقبلها.
ما لم يدركه ويعيه الكثيرون أن هذه الثورات أتت في سياق تاريخي عالمي، كاستحقاق لا مناص منه، ويمكن التفصيل كثيراً في أسباب المأزق الحالي، وأن هذه الانتكاسات مرت بها ثورات عالمية كبرى حتى استطاعت تحقيق أهدافها وغاياتها.
النظرة الموضوعية لواقع وتطورات الثورات العربية، من داخلها، تدفع أي باحث متزن ورصين للقول صحيح أن معظمها لم ينجح كما كانت روح التفاؤل السائدة قبل عقد من الآن ولكنها لم تهزم، لقد فشلت أو تعثرت أو تعيش مآزق حادة، ولكن جذوتها لم تخمد، بدليل واضح بسيط في سورية، مثلاً، رغم الثمن الباهظ الذي دفعه أهلها، حالة الإجماع الواسع الرافض لبقاء بشار الأسد، وإعادة انتخابه تحت حراب المحتلين الداعمين له، أو فشل كافة مساعي إعادة المهجرين في ظل استمرار وبقاء نظام الطغيان الكوني، وحتى فشل العملية السياسية، وعدم نجاح الضغوط، وفشل الاختراقات في تحقيق أي مكاسب جوهرية لصالح النظام حتى الآن، كما أن تجدد المظاهرات في تونس على خلفية المطالب الاجتماعية المتعلقة بالتوزيع العادل للثروة، وتحسين المستوى الاجتماعي، وتحقيق تنمية مستدامة، وكلها مطالب أغفلتها الثورات العربية، ولم تعطها من الاهتمام والأولوية ما تستحقه، كعامل مسبب لتحرك الشعوب قبل عشر سنوات، وأمثلة أخرى عديدة، من السودان والعراق ولبنان تؤكد المضي في سياق التغيير الجذري والشامل لشعوب لم تعد تقبل واقع التهميش والالغاء، وحالة العبودية والظلم، والتمييز والتفرقة، إضافة – وهذا جانب آخر مهم جدًا – لما خلقته هذه الثورات من حالات نقاش و”صراع” فكري وثقافي مشرع ومفتوح على المستقبل والعالم، بمفاهيمه الحداثية والعصرية وتيارات المستقبل.
يقول الدكتور سمير التقي في دراسة مهمة له بعنوان: سايكس بيكو الجديد، الدولة والأمة “لقد استغرق الربيع الأوروبي مئة وأربعين عامًا منذ انتصار الثورة الفرنسية حتى انتصار الديمقراطية والتشارك الطوعي القومي والطائفي كنمط في الحكم والحوكمة في حين استغرق المشروع الديمقراطي في أوربا الشرقية مالا يقل عن أربعين عامًا منذ الثورة المجرمة عام 1956”.
الثورات العربية بدأت في لحظة فاجأت كثيرين، وستجدد نفسها، وتستمر بقوة الحاجة لها لمستقبل نكون فيه أو لا نكون، كمجتمعات وشعوب ودول، في عالم لم يعد فيه وجود للضعفاء.
المصدر: اشراق