… والحديث عن سورية وما دار فيها من صراع خلال الأعوام العشرة الماضية، التي كانت كارثة لا نظير لها في تاريخها ، فتكت بجميع بناتها وأبنائها، سواء من فقدوا منهم أعدادا كبيرة جدًا من أبنائهم دون أو يهزموا، أم أولئك الذين فقدوا معظم احبائهم دون أن ينتصروا !.
… من المعيب أن تتحدث سلطة عن الانتصار ، إن كان الطرف الذي تقول أنها هزمته، هو شعبها، فلا أحد على مر التاريخ نجح في إنزال هزيمة بشعبه لم تقم له بعدها قائمة. ومن كسب معركة ما ضد شعبه، كان “انتصاره” موقتا وعابرا، ولم يدم إلا ريثما تعلم ” المهزوم” من اخطائه واعاد الكرة، مرة وثانية وثالثة ، وصولا إلى الوضع الذي يريده، خاصة أن كان المنتصر يعتقد أن بوسعه إخضاع شعبه إخضاعا أبديا لسلطته ، التي لا تمثله، لكنها يمكن أن تقتل مئات الالاف منه ، وتقرر مصيره مرة واحدة وإلى الأبد، عبر استعادة وضع كانت تراه فيه بلالاتها، بدل أن ترى نفسها بدلالته،وتعتقد أنه يستمد شرعيته كشعب منها بدل أن تستمد هي شرعيتها منه، مع أن السلطة، أي سلطة، تفقد قدرتها على الاستمرار وأهليتها للحكم دون شرعية شعبية أو وطنية، وأن أجهزتها تعجز عن ضمان التوازن الضروري لدوامها، ويضيع بمجرد أن تخسر دعم شعبها، أو تتخلى عنه في ظل أوهام تقنعها أن التوازن المطلوب بينها وبين شعبها يتطلب إخراجه من حساباتها، ومن الشأن العام، وأن عليها اجباره بالعنف على ترك أعنته للمسك بالسلطة، الذي يكون قويا بقدر ما ينأى عن مواطنيه، ويقبض على اعناقهم، ولا تطاله أيديهم، كما هو حال العلاقة بين المستبد والخاضعين كرها لحكمه، الذين يدفعهم استبداده دفعا يوميا إلى الثورة عليه ، بسبب طريقته في الحكم، التي يعتقد أن فيها نجاته، مع أنه لم يكن فيها إطلاقا غير هلاكه وموت نظامه: السريري القابل للانقلاب في أي وقت إلى موت حقيقي !.
لا أحد ينتصر على شعبه، فإن حدث واحرز انتصارا في معركة لهذا السبب أو ذاك، كان انتصاره عابرًا ووقتيًا، وكان عليه انتظار الثورة التالية عليه، في ظروف مغايرة لتلك التي مكنته من أحراز انتصاره ، الذي اكدت في بداية هذا النص ان الحديث عنه أمر يشين ويعيب أي صاحب سلطة، بما أن أحدا لا يستعيد عافيته إن هو قطع أطرافه وهشم جسده وغرس سكينا في قلبه، فما بالك إن كان انتصاره المزعوم قد أدى إلى موت القسم الأكبر من الشباب، ذلك القطاع المنجب ، الذي يتوقف إنتاج مجتمعه عليه، لكن موته جاء على يدي من ادعى حمايته من المجتمع السوريين ، الذي لم يسبق له أن قام بقتل أي واحدة من جماعاته الوطنية، ولم يكن يوما بحاجة إلى ذلك، وكيف يقوم به إن كان السوريون من مختلف أطيافهم قد تعايشوا، بهذا القدر أو ذاك، بانفتاح متزايد بعضهم على بعض، وأخذ تعايشهم صورة تشابك طال معظمهم كأفراد وجماعات ، بينما فتحت أمامهم أبواب العمل والعلم والشأن العام، دون تمييز، أو بقدر متناقص منه ، قبل أن تنقلب الصورة بعد عام ١٩٦٣، بقوة السياسات التي اتبعها من انتزعوا السلطة لانفسهم واستأثروا بها من الضباط البعثيين، رغم أنهم لم يكونوا من اسقطوا “حكم الانفصال”، وكانوا هم، وليس المجتمع، من شرع يمارس التمييز بين السوريين، في ما يتعلق بالسلطة واستخدامها، وفي توزيع الدخل الوطني وما ترتب عليه من إعادة إنتاج المجتمع ليكون مجتمع سلطة. المشكلة أن مجتمع السلطة المزعوم هذا، الذي توهم إدبابها أن حرمانه من الحق في أن يكون له صوت خاص به حيال شؤونه، هو الذي ثار عليها، لانها لم تبق له خيارا آخر غير الثورة، بعد أن عرضته لمظالم طالت شتى مناحي وجوده، ولتمييز يستحيل احتماله، مما لا تمارسه سلطة تعنى بشعبها أو تمثله . أما النتيجة، فهي ما نراه من دمار طالها ، أنزله بها المجتمع، قدر ما طاله من دمار انزلته هي به، مع فارق جوهري يتصل بقدرته على ان يستعيد في زمن غير بعيد ما كان عليه قبل ثورته، التي بدأت مطلبية، وحولها “القائد” إلى عنف مسلح آل إلى وضع مصير طرفي الصراع السوري بين أيدي متدخلين أجانب، لم يتركوا لأي منهما أي أثر من الاستقلال في أي شأن من شؤون سورية ، بحيث يمكن القول دون مبالغة: هل ينجو أحد إن هلكت سورية، وهل تكون نجاته بانتصاره على وطنه، الذي اوقعته نجاته تحت احتلال من طبيعة استعمارية يتناحر طرفاه الروسي والإيراني على كل كبيرة وصغيرة تخصه، كما يتناحران على الشعب، الذي تعرض لتمزيق عنيف جعل إعادة إنتاجه كشعب موحد مهمة المهام بالنسبة لأي سوري محب لوطنه، على أن يأخذ بعين الاعتبار أن المنتصر فقد حقه في أن يكون طرفا يتمتع بالندية أو مستقلا في علاقاته مع من دعاهم لاحتلال وطنه، فاستولوا أيضا على أرادته وكرسيه !.
لم ينتصر ” القائد” على السوريين، وكيف ينتصر على من وعد غيره بالحرية وطلبها لهما ، وواجه رصاص جهتين إحداهما رسمية والأخرى أصولية، تكرهان كلاهما الحرية وتدعوان لقتل المطالبين بها ، لأي طرف انتموا، انتهت جهودهما إلى إغراق سورية الوطن وأهله في دمائهم : عبر استهداف السوري الآخر باعتباره أهلا للقتل، وعدو. ترى، هل هناك من هزيمة أشنع من هزيمة من يدعي الانتصار بينما لا تشبه حاله أحوال غير المنهزمين ، إلا إذا كانت نجاته الشخصية وسقوطه في أسر روسيا وإيران هما الانتصار، الذي يدعي أنه أحرزه على شعبه، الذي هزم نفسه بقيادته !.
حان وقت خروج السوريين من عقلية المنتصر والمهزوم، واستعادة الاقتناع بأن جرحي يؤلمك قدر ما يؤلمني جرحك، وأن الجسد السوري هو جسدك وجسدي، وروحه هي روحك وروحي ، وان حياتي لا تتطلب موتك، الذي هو موتي أيضا، وأنه علينا إزالة ما يسد دروبنا إلى بعضنا البعض من طريقنا ، الذي يجب أن يكون مشتركا ومستقبليًا ليعود علينا بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، بصفتنا شعبا واحدا حلت به كارثة لم تكن قراراه أو خياره، ولا بد أن يكون قد وعى حجم المأساة المرعبة التي نزلت به، وزجته فيها حسابات سلطوية حمقاء، وأصولية مدمرة، آن له أن ينفصل عنها، ويخرج منها ، ليخرج من هلاكه، وينتصر حقا على نفسه!.
المصدر: سوريا الأمل